عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

طه بونيني - الجزائر

الــغائــب


طه بونينيعانى إسماعيل بطالة ظالمة بداية التسعينيات. وبعد سنوات مدقعة، أتت الحلول تتوالى. فقد أسفرت بعض مسابقات التوظيف التي شارك بها، عن وظيفتين، إحداهما في مدينته، والأخرى في مؤسسة بترولية بعيدة في الصحراء الجزائرية. فاختار أكثرَهما دخلا، الثانية. بعد شهور قليلة، مكّنته وظيفته الجديدة من الزواج، ورزقه الله بعدها بـ"حبيب".

تطلّب العمل في وظيفة البترول أن تعمل شهرا وتنال شهرا إجازة، ومرّت سنوات على هذه الحال. ذات مرّة، عندما عاد إسماعيل إلى المنزل، كطير مهاجر يتفقّد عُشّه، قابله ابنه حبيب ذو الثلاث سنوات، عند الباب. رماه ابنه بنظرة فاحصة ثم ركض نحو أمه ليخبرها: " الرجل الذي يأتينا بالتفاح كل شهر، قد أتى..."

لم يعرف الطفل المسكين أنّ المُعيل الذي يأتيهم بالتفاح وأشياء أخرى كل شهر هو نفسه أبوه. واستاء الأب لِما صار يرمز إليه، ورغم ذلك لم يُثنِه حبيب من الغياب مرّة أخرى. وبعد مُضيّ عام آخر، عندما رجع الأب إلى البيت في عطلته الشهرية، قابلته زوجته، ونادت ابنها: "تعال لترى أباك". هرع الطفل إلى الحاسوب، ليشاهده عبر برنامج سكايب، كما اعتاد أن يفعل عندما يتّصل بهم من مكان عمله. وظلَّ ينتظر ظهور أبيه على الشاشة، بينما يقف مفجوعا عند الباب.

وظلّ أبواه يناديان عليه ليأتي، ثمّ ذهبا نحوه. فقال له الأب:" ها أنذا. أبوك"، فبكى حبيب وقال: "لا، أبي هنا" وراح يشير إلى شاشة الحاسوب، وواصل بكاءه في براءة قائلا: "لستَ أبي. لستَ بي".

بعد أيّام أيقن الطفل بأنّه حقّا أباه. لكنّ سرعان ما حلّ موعد الرحيل. وعاد إسماعيل ليسكن شاشة الحاسوب من جديد.

انصرم عام آخر ورُزق إسماعيل بابنة، سمّاها غالية. وشيئا فشيئا بينما تنمو، كرّرت نفس سلوكيات أخيها، ونفس التشتّت والضياع، تجاه أبيها، صاحب الوجه الذي تراه كثيرا طيلة شهر، ثم لا تراه بتاتا طيلة شهر آخر، وهكذا دواليك.

انقضى عامان آخران، وجرى حدث هام، كاد يقلب موازين الأسرة إلى الأبد. في لحظة صباحية بائسة، وبينما يحاول إسماعيل مغادرة البيت بهدوء ليسافر دون إحداث جلبة، حمل الحقيبة، فأحسّ بحركة غريبة داخلها. فتحها فإذا ابنته غالية في الحقيبة. إيماءاتها وكلماتها الصغيرة تقول: "أرجوك خُذني معك". أخرجها وعانقها طويلا. ثمّ أقسم ألا يحمل تلك الحقيبة أبدا، لاعنا إياها، وكل ما يتعلق بها من بعيد أو قريب.

بعد أسبوع من ذلك اليوم، عاد إلى العمل. حتى ابنته غالية لم تُفلح في ردّه عن ذلك.

عندما بلغ حبيب ستّ سنوات، كان قد تعوّد على غياب أبيه، بل صار يستحسنه. شهر الغياب هو شهر الحرية المطلقة. أمّا شهر عطلة الأب فهو شهر قد يتّسم بالنظام الزائد، على الأقل بالنسبة لحبيب ـ لكنّه مع ذلك، يتسم بالنشاط، والهدايا والتجوال، فالأب يحاول جاهدا تعويض الشهر الذي غاب فيه، بتدليل أبنائه أكثر من اللازم.

وظل الأمر هكذا لسنوات، وأسوأ ما جرى لإسماعيل خلالها أنّه صار يشعر براحة أكبر خلال غيابه عن أسرته، ففي قاعدة الحياة المعزولة في الصحراء، حيث يعمل، لا ضوضاء، ولا أطفال يقفزون فوق رأسه، ولا مشاكل الجيران، ولا شيء، إنّما العمل نهارا، ولعب الدومينو ليلا، والمَبيتُ المُريح والطعام الفاخر.

أمّا أسوأ ما أصاب حبيب وغالية فهو أنّ الزمن في حياتهما صار مشوّها، ذا إيقاع سريع: "جاء راح. جاء راح. جاء راح". أمّا حياتهما نفسها، فيحسّان أنّه ينقصها شيء مهمّ جدا. إذا سألتَهما: " ما ينقصُكما؟" لا يعرفان. وفي مكان عميق في أنفسهم، يدركان أنّ أباهما الذي تعوّدوا على غيابه هو الجزء المفقود.

ذات مرّة، جلس إسماعيل وحيدا في غربته، يستعيد ذكرى، ففي عطلته السابقة، طلب من ابنه الذي أتمّ اثني عشر ربيعا، المجيء معه في رحلة، فأجابه ابنه تلقائيا: "اصبر، سأطلب إذن أمّي وأعود". اشتعل إسماعيل غيضا، وأنكر من ابنه هذا الفعل، قائلا في خلدِه: "كيف يستأذن أمّه وأنا أبوه؟". ثمّ كظم غيظه، وفكّر بتفاؤل:" لعلها ردة فعل إيجابية، تقيه المتاعب خارج البيت". وعندما أتى ابنه، أخفى عنه ذلك الشعور. خرجا معا وهو يحدّق فيه، ولسان حاله يقول: " غيابي يُقدّر بنصف عمره فكيف لا ألقى هذا الصدود؟"

استمرّت الحياة، واستفحل الحال. ولم يعد الراتب، ولا العطلة الشهرية، ولا الهدايا تخفي دمامة الحياة التي يعيشها، ويذيقها أسرته معه. كلّما انقضى غيابه الشهري، وحلّ كهلال على المدينة التي يسكنُها ولا يسكُنُها ـ تلمَحُه يمشي كغريب بين الناس. أصدقاؤه ومعارفه القدامى يتفادونه، لأنّ الرابط بينهم ضعيف هشّ، قضى عليه ذلك الإيقاع الزمني السخيف.

وما يسوؤه كثيرا ويؤلمه، أنّ قلوب أقاربه وجيرانه موغرة تجاهه، فهم يظنونه ملك زمانه. كيف لا وهو صاحب وِسام "الستّة أشهر عطلة في السنة"؟ أمّا هو وأسرته التعيسة، فلا يحسّون إلّا بالستّة أشهر الخالية من وجودهم ووجوده. حتّى بعض أصدقائه وأقاربه الذين لا يزالون يكنّون له الودّ، صاروا لا يدعُونه إلى أفراحهم. وحُجّتهم في هذا: "حَسِبناك غائبا في العمل"، فيجيبهم: "ماعليش، أتمنّى أنّ حفل الزفاف مضى بخير". ويواصل مشيته البائسة مُتجرّعا المرارة.

والأدهى أنّ ابنه دخل دوّامة المراهقة بقوّة. شجارات. آفات. وغضب غير مفهوم في كثير من الحالات. ولمّا علم إسماعيل، بما يجري مع ابنه، نظر إلى نفسه نظرة كئيبة، وهاله ما رأى. رجل عادي لا تميّزه أي موهبة، يتزوّج ويُضيِّع نفسه وأولاده. حتّى زوجته التي كانت تُرقّع تلك الفراغات في حياة أبنائه، وتُحبّب أبيهم إليهم، أصابتها عدوى عدم الاكتراث. وبعدما ذادت طويلا، لاعبة دور المرأة والرجل، طيلة مدّة الغياب، طالها السأم، فصار شهر حضوره بينهم نكد، وكثيرا ما تسمع منها أو منهم: "اذهب إلى عملك في الصحراء، لنهنأ منك". وما أصعب وقع هذه الجملة على قلبه!

في ليلة هادئة، في غرفته بقاعدة الحياة، بينما يشاهد التلفاز ساهما بلا بصر ولا بصيرة، حمل الهاتف، وهمّ بالاتصال بزوجته، ثم توانى عن ذلك. وراح يخاطب نفسه:

المتشائم: "لنفترض أنك وجدتَ سكنا في المدينة التي تبعد أربعين كيلومترا من هنا، هل سيقبلون الانضمام إليك بعد كل هذا العمر؟ لقد تعوّدوا على غيابك. ألم يقولوا لك، اذهب إلى صحرائك، نحن لا نريدك؟"

المتفائل:" كثيرا ما ينفجر الشوق غضبا. كل أفعالهم ما هي إلّا نتيجة لأفعالي. وحتما وراء سَورة الغضب تلك، قلوبا تحبّني وتحنّ إليّ ".

المتشائم: "ليس سهلا أن تقطع أربعين كيلومترا ذهابا وإيابا كل يوم".

المتفائل: "نتحمّلها، إنّها طريق الخلاص".

اتّصل إسماعيل بزوجته، وبعد تلكُؤ وشدّ وجذب وتعجبّ وعتاب، انتهت المكالمة عندما قالت زوجته: "سأخبرك برأيي ورأي الأبناء، غدا صباحا".

لم يغمض لإسماعيل جفن طيلة الليل. لقد كانت أطول ليلة في حياته البائسة كلّها. لم يفتأ خلالها يسأل نفسه: "هل سيرضى الأبناء؟" ثم يُمنّيها: " يا ليتهم يفعلون."

لهذا الحدّ انفلت زمام الأمور، وها هو اليوم يرجو القدر لاستجماع شتاتها. بُعَيد الفجر، أخذته إغفاءة، ولم يستيقظ إلا على وصول رسالة من لدُن زوجته: "جِدْ لنا منزلا".

بقلم

D 1 أيلول (سبتمبر) 2019     A طه بونيني     C 6 تعليقات

6 مشاركة منتدى

  • اوشك قلمي على نقد جارح الا ان الجملة الاخيرة اسكتتني.لااحب من يصور ويغذي العقول دوما ان المال يجلب التعاسة.على مدى اثناعشر عاماً وهم يعيشون ملوكاً وافضل من اطفال ايتام واطفال الشوارع فلِمَ النواح بإفتقاد الاب.من يملك وظيفة راقية يملك معارف ويستطيع ايجاد اخرى اقل دخلاً و ميزتها التواجد الدائم و الحل الوسط موجود ب 40 كم يوفرها راتب الوظيفة التي ابعدته عن اولاده."جِد لنا منزلاً" معناها ان زرعه اثمر .فأب سعيد بعمله وبدخله لابد انه يغدق على ابناءه من سعادته وها قد اثمرت حباً في النهاية .


  • شكرا سيدتي على مرورك بقصتي وعلى قراءتها.
    مرحبا بالنقد البناء. بالنسبة للقصة فأحداثها حقيقية، جرت لبعض زملائي. والفرق بيني وبينهم أني بدأت عملي بتطبيق ذلك الحل الذي وجده بطل القصة متأخرا. وهذا ما يعانيه كثير من زملائي، وأتمنى ألا أعيشه يوما. والمؤسف أن الكثير انتهى بهم للتعود على البعد، وأهليهم كذلك، وأنا أعتقد أن مؤسسة الزواج لا يجب أبدا أن تكون هكذا. كما قلتِ سيدتي المال مهم، والأب يغدق بماله، لكن حضوره واجب. ولو عشت ما عاشه هؤلاء الزملاء وذويهم (وأتمنى ألا تعيشيه) لأدركت صعوبة الأمر وخطورته على حياة الأبناء. غياب الأبوين سواء ألاب أو الأم معضلة كبيرة لدى الأبناء. خاصة ذلك الحضور المتناوب والغياب المتناوب، فهو يضعهم في حالة من اللاإستقرار الدائم. أما هو فيعاني مثلهم وربما أكثر، إذا كان حي الضمير طبعا...


  • قصة مشوقة حقا ووصف موفق لواقع أحد الكادحين. ما لاحظته أن نفسية وظروف عمل القاص تداخلت وامتزجت بنفسية وظروف اسماعيل ، مما أعطى للنص مزيدا من التماسك في السرد وصحة في نقل الأحداث.ما أجمل خاتمة القصة:" جد لنا منزلا." نعم ستمضي مع الأيام كل مصيبة وتحدث أحداثا تنسي الصائبا. شكرا على هذا الإبداع.


  • شعرت من بداية القصة انها حقيقية.للأسف أصبحت العلاقات بين الاب والابناء في مثل هذه الحالات على هذا النحو. كانت عندي طالبة في الصف ،والدها يعمل طيلة ثلاثة اشهر متتالية ويعطل شهر.اذكرانها قالت لي ذات مرة: هذا الرجل يتدخل في حياتي وحياة أمي ،متى سيرحل عنا. والدها بالنسبة لها مجرد رجل غريب! هناك دائما حلول.دمت بخير .والى المزيد من التألق


  • شكرا على مرورك الجميل. حقا ما يجري للطفلة التي ذكرتها أنت، ولآلاف العائلات التي يعمل الآباء فيها، بهذا النظام غير الإنساني، والذي قد يوفر مالا لكنه لا يوفر حياة، بل يضيع الحياة، إنها مأساة.
    الأسرة مسؤولية، وصحة الأطفال النفسية والجسدية، ناهيك عن صحة الزواج، كل هذا عرضة للتدمير جراء الغياب!


  • شكرا أستاذ يوسف على تعليقك. دمت كاتبا على صفحة الحياة، وقارئا مولعا لا نظير له.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 14: حتى لا تتكرر خيبة الأمل

لم يعد ثـمّة عطر إلا في القوارير

غياب

صباح

الكأس السابعة