طه بونيني - الجزائر
طه في العصر الكوروني
عود الند: عدد خاص: كورونا: يوميات وتأملات
على عتبات الأربعة والثلاثين، ومن هم في جيلي شَهِدوا الكثير. أتذكّر الكثير من الأمور المؤسفة كالحروب والقتالات، كما أتذكّر أمورا سارّة، والعديد ممّا عِشتُه لا علاقة له بالجيد أو بالسيِّء، أو لنقل هو ممّا يُعطَف على الإنجازات البشرية التي حقّقها البشر والتي سهّلت حياتهم حينا، وزادتها صعوبة أحياناً كثيرة.
عِشتُ ظهور الإنترنت وانتشارها في ربوع المعمورة، كما عشنا ظهور القنوات الفضائية، والهواتف النقالة، وانتشار الحواسيب المكتبية منها والمحمولة، وكافة الوسائل الرقمية المتطوّرة. وفي وقتنا هذا تحوّل نمط حياة الإنسان بفعل وسائل التواصل الاجتماعي.
وشهدنا العديد من الأوبئة والأمراض الجديدة، وهذا ينضوي ضمن الأمور الضارّة التي عِشتُها، لكن لم أرَ بل لم ترَ البشرية مرضا استشرى فيها كالنار في الهشيم، وأخضعها في أوج قوّتها التكنولوجية والعلمية حتّى أتت كورونا. فانضمّ هذا الفيروس لخوارق الأمور التي شهدَها جيلي في هذا الزمان.
لم أعتقد يوما بأنّ العالم الذي لطالما حيّرني وحيّر الفلاسفة والمفكرين والخلق جميعا، هو عالم هشٌّ لهذه الدرجة، وبأنّ كلّ شخص فيه سيخاف على نفسه لحدّ اليأس والقنوط، ولحدّ العزلة في البيت، واعتزال العمل والأصدقاء وكلّ النشاطات التي تعوّدها، لأجل فيروس اسمه كوفيد 19.
الحالة التي تملّكتنا هي حالة لم نتوقّعها من قبل. لم تتوقف الحياة من قبل. لم تمرّ علينا هذه الأجواء لا نظريا ولا تطبيقيا ولا فلسفيا. نحن نعيش واقعا لم يكن في الحُسبان. ورغم مرارة العيش، وفداحة الأوضاع خاصة والموت يمتطي الثواني واللحظات حاصدا الآلاف من الأرواح. لكن المفارقة في الأمر أن هذه المحنة أهدتنا منحا كثيرة.
ومن هذه المِحن ما يتعلّق بعلاقاتنا بذوينا، بنظرتنا لأنفسنا، وللنّاس مجتمعا وأشخاصا، لوظائفنا، ولحياتنا بصفة عامّة. كما أنّها علّمتنا في العالم والإنسان ما لم نكن نعلم. ومن فرط ما عقّمنا الأشياء والسطوح في المنزل والشوارع، تعقّمت عقولنا ممّا كنّا نسمّيها بديهيات أو مسلّمات، وصارت الحياة حقلا جديدا للاستكشاف، وعُدنا أطفالا، نسأل في كلّ شيء، ونحاول إعادة معرفة كلّ ما عرفناه كما لو أنّنا لم نعرفه!
ألهذه الدرجة زعزعت كياننا هذه "المِحنَة المِنحة"، و"الضارّة النافعة"؟
نعم بل أكثر. المهمّ، لم أكن أظنّ نفسي سأمكُث في المنزل اليوم كلّه دون أن تنازعني نفسي في الخروج. لكنّي فعلتُ ذلك. وامتنعت عن مغادرة منزلي إلا لقضاء حوائجي الضرورية.
وقد انتقلت إلى المنزل المستأجر الذي أسكنه الآن مع أسرتي الصغيرة، منذ قرابة عام، وهو حوشٌ يضمّ فناءً كبيرا، يصلُح لإدخال السيارة ولعب الدراجة والركض وزرع النباتات، لكنّني لم أشبعه منذ انتقلتُ إلى هذا البيت، فأنا رجلٌ لا يُطيق ضجيج الشارع عندما أكون في المنزل، وما فائدة المنزل إذا غزاه الشارع؟
ومنذ أن فتكت الجائحة بالعالم، وصار الحجر الصحّي سبيلاً مفروضاً، صار الحوشُ ميداني المُفضّل، فبين استماع الراديو والقراءة، والقيام ببعض الرياضة، وسقي المزروعات مساءً واللعب مع ابني صلاح الدين بالكرة أو بالدراجة، أو إصلاح الكثير ممّا اعترى أرجاء المنزل من أعطاب، فعُدتُ بنّاءً تارة وسمكريا تارة أخرى.
وقد جرّبتُ صنع أشياء كثيرة، منها ما يُسمّى "Compostage" وهو صُنع السماد العضوي المنزلي باستعمال بقايا الطعام، لتخصيب التربة لأجل نباتاتي المزروعة في الفناء، لكنّ الأمر انتهى بأن أنتجتُ الديدان فرميتُ صندوق السماد، وهكذا باءت هذه التجربة بالفشل.
ومن تجاربي العديدة، تركيب رفٍّ في أحد جدران المطبخ، وانتهى به الأمر في الأرض، هو وكل ما يحملُه. لكن علينا أن نكون إيجابيين، فقد صمدَ لأيام طويلة، ولم يسقُط حتّى أتخمتُه بالأشياء، عندها خرّ ساقطا.
لكن حمدا لله، فالكثير من تجاربي المُتكَورِنَة ظفرت بالنجاح.
ولا أنفي أنّي ضقت ذرعا مرّات عديدة، فتبرّمتُ من حالي أمام هذا أو ذاك، وقد صِرنا بعدما كنّا نُطلق سيقاننا في كل حدب وصوب، نجري في عجلات دوّارة كالهامستر. لكنّنا تعوّدنا. وصارت الصحّة والعافية في المنزل، المغلَّفَين بالروتين والتكرار، أفضل النعم وأحسن ما يُمكن أن تُعطينا إياه، الحياة المريضة أصلا! و
صارت أشياءً بسيطة تزرع البسمة في أيامنا، كنباتاتي المزروعة، وفنجان القهوة، ومرافقة ابنيّ صلاح الدين ومحمّد، وسماع أخبار الأهل عبر الهاتف.
ذكرتُ البديهيات سابقا، وكيف صارت مجالا لإعادة النظر. ألم نكُن نعتقد الصحة أمرا مُسلّما، والذهاب للعمل كذلك، والخروج مع الأسرة للترفيه، والجلوس في المقهى للاستمتاع بفنجان قهوة رفقة صديق أو جريدة، أو مجرد المشيء في الشارع. لم يُعد كلّ هذا متاحا فجأة.
والحمد لله فبعضنا راشدون يفهمون ويعُون ما يجري، لأن البعض الآخر من أطفالنا ومراهقينا وبعض الراشدين عمراً المراهقين عقلاً، لا يستوعبون ما يحدُث فلا يصبرون على المنزل، ويضيقون بجدرانه كثيرا.
لقدّ علّمتنا هذه الأيام في أنفسنا ما لم نعلم، وعلّمتنا في ذوينا ما لم نعلم، فقد تعلّمنا أن نبقى مُحاصرين في منزل واحد، دون أن نفتعل شجارا أو نشعل نارا.
صرتُ ألعب مع أسرتي ولم أكن ألعب هكذا من قبل. وصِرتُ أقرأ بالإنجليزية ولم أفعل من قبل. ولا زلتُ أصارع قراءة كتاب همنغواي "The Sun Also Rises"، منذ أخذت عطلتي المسبّقة، واستقررتُ في بيتي، بلُغته الأصلي، أي الإنجليزية، ولا زِلتُ معه حتّى وقت كتابة هذه الكلمات. لكنه يستحقّ العناء فهو كتاب فريد لكاتب فريد.
وقد استنتجتُ خلال قراءتي له، بأنّ أحداثه حقيقية، وليدة ذكرياته التي خزّنها بين فرنسا وإسبانيا، خلال عمله في باريس، وبحثت حول ذلك فوجدتُه صحيحا. ولا شكّ أن العالم سيُنتج أدبا وفنّا غزيرين حول هذه الأيام العصيبة، وسيسيل الكثير من الحِبر حول سيّد التغيير: فيروس كورونا.
ستولد أفكار جديدة، وفلسفة جديدة، ويبرز إنسان جديد، أكثر تواضعا.
العصرُ الكوروني صَنَع الملحمات في الشرق والغرب في الشمال والجنوب. لقد قتلنا، لكنّه صقَلَ معدننا.
- لافتة: عود الند عدد خاص كورونا
◄ طه بونيني
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
طه في العصر الكوروني, يوسف ـ الجزائر | 28 نيسان (أبريل) 2020 - 08:21 1
إستخلصت من النص على علو قيمته ، أن صاحبه في هذا العمر يحسن التصرف في أمور الحياة أمام هذا الحجر المنزلي بالقيام بأعمال يدوية مفيدة .فحيرتي وأسفي عظيمين وأنا أرى أولادنا المراهقين والصغار على السواء يهدرون أوقاتهم كلها ، خلال هذا الحجر الصحي ، في التفاهات أمام هواتفهم النقالة .وأجزم أن الإدمان على هذا لا يقل ضررا عن وباء كورونا الذي سيتبخر يوما. ودعني أصدق قول زهير بن أبي سلمى : " وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده وإن الفتى بعد السفاهة يحلم". ومما أعجبني في النص الجمع بين النقيضين في قولك : وصارت الصحة والعافية في المنزل المغلفين بالروتين والتكرار أفضل النعم وأحسن ما يمكن أن تعطينا إياه الحياة المريضة أصلا". شكرا أستاذ طه على هذا المجهود.وصح صيامكم.