طه بونيني - الجزائر
وحدك من يعرف
اسمي: جابر.
العنوان: غزّة.
الوضع الاجتماعي: محاصر.
انطلقت بنا سيّارة الأجرة من حيّ الشُّجاعية شرقَ غزّة، وراحت تبذل أقصاها لتصل إلى بيت حانون في أقرب وقت ممكن. أخذَ السائق المخضرم يغذّي دوّاسة الوقود بشكل يؤهله لإحراز وقت قياسي جديد. لعب الزمانُ والتَّكرار فيه دورا، ليبدو على هذه الهيئة. جذعُه ملتصقٌ بالمقود، وبدنه يُكابد البرد والمسافات كلّ يوم.
لقد اخترق السّائقُ الضّبابَ صباحا بنفس السرعة التي شقّ بها الريح الباردة وبِرك الماء، على طول المسافة التي قطعناها. حتّى السيّارة المعطوبة تبدو وكأنّها قد تطوّرت بفعل وُعورة الطريق واهترائها، إلى سيّارة تتصبّر على الحُفر بجَلَد.
كان السَّائق يتحدّث ويقُود، وفي الوقت نفسه يتلفَّتُ يمينا وشِمالا، وإلى الوراء عبر المرآة الخلفية. أمّا الذي لم أفهمه هو تلك النافذة المفتوحة رغم البرد القارص، والتي لا يثنيها لتهشيم رأسه والتغلغل إلى تلافيف مخّه إلّا تلك الكوفية.
جلس بجانبي رجلٌ يحتمي من البرد بكل ما أوتي من لباس، ورغم ما يعانيه فقد تمكّن هذا الرجل من إيجاد الإرادة لحمل جريدة تغطّي ما يجري وراءها كالغمامة، وقد كان يحاذيه شابٌّ يبدو بوضوح من خلال مظهره أنّه حمّال بإحدى أسواق الخضر التي تفتح في الصباح الباكر.
على الكرسي الأمامي كان يجلس شيخٌ طاعن في السنّ، تحكي تجاعيده حكايات الزيتون، وتحمل بين طيّاتها أزمات الوطن ونكباته. آلمني أن أراه يشكو ويستأذنُ للتوقّف في حرج وضيق. وكان السائق يتبرّم لذلك، ثم يتوقّف بعد لَأْي. لقد كان يعاني التهابا في المثانة، كما يعاني أغلب سكّان غزّة من أمراض لا حصر لها، بل يشكُون حتّى الصحّة الضائعة في الفراغ.
كانت الريح في الخارج صرصرَ عاتيا، لا تشجّع على الخروج. منذ أيّام فقط كنّا نشكو انعدام المطر، وها نحن اليوم وقد أوشك الخريف على الانصرام، نكابد عناء الوقوف في الخارج.
"من فضلك ارفع صوت الراديو"، ردّدها الحمّال وقد طنّت في أذنه كلمة: "التغيّر المناخي."
استمعَ الشابُّ للإذاعة لثوان، ثمّ عاد ليغطّ في نومه. استمَعَ لبِضعِ كلماتٍ حولَ التغيُّر المناخي، وتلك الأشياء التي تخصّ باقي الكرة الأرضية. لم تزد هذه الاستفاقة عن أضغاث أحلام. إنّها محاولةٌ عادةً ما يقوم بها عقلنا اللّاواعي، متمسّكا بإنسانيته، رغم الحصار واللاإنسانية والعزلة المفروضة علينا فرضا.
قلتُ في نفسي: "هل تتصوّرُ الحديث عن مشكلة التغيُّر المناخي في قطاع غزّة؟ لقد صار السرطان مرضا شائعا، كصداع الرأس، وهذا الشابّ يقضُّ مضجَعَه الهنيء التغيّر المناخي".
لعلّ هذا الموضوعَ مُهمٌّ جدّا، فقد جعل العالم كلّه يتّفق، ولأوّل مرّة في التاريخ. ليتَهُ اتّفق لفكّ عزلتنا.
الكثير من المسائل تشغل ذهني، كلّما ركبتُ سيّارة الأجرة. منذ شهور وأنا أشقّ هذه الطريق، مرّتين كلّ أسبوع. رحلةٌ في الصباح الباكر من يوم الأحد، ورحلةٌ مساءَ يوم الخميس. تحتوي صباحات الذهاب على سرب من الأفكار المنعشة. وتتشبّع مساءات الإياب بعواطف الشوق.
وعلى غير العادة، فقد رافقتني منذ الانطلاق تغاريدُ حنين واشتياق مُبكّر، وهذا كلّما وقَعَت عيني على خاتم الخطوبة. هذا أملٌ آخر يعطي للوجود معنى. أملٌ بوسعي التحكّم به. أرهقتني الآمال الكبيرة.
كانت الريح في الخارج تعزف موسيقى الرعب، وكان وجداني يعزف أنشودة النبض على إيقاع القلب.
تمثّلَ الخاتَمُ أمامي ككتابٍ وألبوم صور،
كشاطئ غزّة، الذي يفتح نافذة على العالم،
كشمسٍ تبعثُ الدفء في جسدي وتدفع عنّي البرد والصقيع.
التقيتُ بصاحبةِ الخاتم وعائلتها، أوّل مرّة في قسمٍ بمدرسة ابتدائية، احتمينا جميعا بها، عائلتي وعائلتها في حرب صيف 2014.
كُتِب لنا النجاة، ولا زلنا نحتمي ببعضنا البعض. نحتمي من العالم الذي يحاصرنا، ومن العدوّ الذي يتربّص بنا. نتّقي شرَّ الحصار، والجوع والبطالة والمرض. نتحصّن من جميع هذه الغِربان التي تحوم فوق رؤوسنا كلّ يوم.
كان فكري ينساب في الصفاء كقوس قزح، عندما انفتح الباب الذي كنتُ أرمي بثقلي عليه. لحسن الحظّ، تشبّثتُ بكرسيّ السائق، وأحكمتُ إغلاق الباب. نظر إليّ الشخص المغلّف بجانبي شزرا، ثمّ عاد إلى جريدته. لولاه لما التصقتُ بالباب أصلا.
حاولتُ زرعَ ألوانٍ زاهية في السَّماء الملبّدة من جديد، لكنّي لم أستطع، فأنا لم أجد الخاتم. ورحتُ أخاطب نفسي وأرتجف كالمجنون: "هل يُعقل؟ لقد سقط".
وانهار الصباح فجأة عندما سقط الخاتم.
توقّف الزمان، واستحالت الثواني ساعات. وصرت أسمع صوتي الداخلي يكبر ويتعاظم. أحاول الجهر للسائق برغبتي في التوقف، لكنّني أصطدم بالخجل والخوف والبرد، وقد رأيتُ ردّ فعل السائق حيال رغبة الشيخ في التوقّف. ثمّ قلت في نفسي: "ماذا عن الخاتَم الذي ورِثَته الفتاةُ كابراً عن كابر، والذي استقرّ في البِرك تهاونا منّي؟"
سُرعان ما ارتدّ صدى الواقع المثبّط داخل جمجمتي. وتغلغل عميقا حتّى كاد يُلجمني. حينها أحسستُ بالبرد لأول مرّة منذ ركوبي السيّارة بل بالتجمّد.
مشهدُ التجمّد هذا، قد تكرّرَ خلال حياتي كثيرا.
ابتعَدَت السيّارة قليلا، واستمرّت الحياة. فالحياة لطالما استمرّت. أغمضتُ عَينَيّ، واستسلمتُ لإغفاءة صغيرة، هي أشبه بالغيبوبة منها إلى النّوم الهنيء.
أحسستُ ببعض المرارة تضايقُ حلقي، وتنتشر في كياني كلّه. نفس الشعور بالغثيان يجتاحني كلّما فقدتُ شيئا عزيزا. لقد فقدت الكثير، نزِفَت حياتي أشخاصاً وأشياءَ. وفي كلّ مرّة أفقدُ فيها شيئا أمضي قُدما. أفقد وأمضي، أفقد وأمضي، حتّى أوشكتُ الوصول إلى طريق مسدود. إنّه شعور سلبي يدفعني لأن أمقتَ نفسي. أجدُ حينها ذاتي تدافعُ رغبتي في الكلام. إنّه إحساسٌ يكتمُ الأنفاس.
وقلت لنفسي: "أنا مضطرّ لاستعمال قوّة التجاهل مرّة أخرى. فقدتُ الوطن والأخ والقريب والصديق. رأيتُ أحلاما كثيرة تئنّ وأخرى تنتحر. لكنّ الأحلام والآمال لا تنفكّ تولد من جديد، من رحم الفراغ أو المعاناة، أو لا أدري. إنّها تولد رغم كلّ شيء، إنّها مثل نبتة تتفتّق من الصخر".
خَلُصَ ارتباكي لنتيجة: الخاتم لا يدرك أهميّته غيري في السيّارة ولهذا فأنا من عليه السَّعي لاسترجاعه. عندها تحرّرت فجأة ًكلمةٌ متجاوزةً حشرجةَ حلقي: "توقّف".
وراحت أفكاري تتسارع، وكلمات أخرى تتحرّر وتصدُرُ من جوفي كطلقات مدفع. وسرعان ما خَضع السَّائق تحت صرخاتي التي انهالت عليه كالصواعق.
أخذ الجميعُ قسطاً من الراحة بينما أبحث، كانت الرحلة متعِبةً خاصّة للشيخ. عُدتُ أدراجي إلى بركة الماء، لأبحث عن خاتمي المفقود. لم يكن البحث سهلا، لكنّي ازددتُ ثقةً بهذا المبدأ: "إذا لم تأبه لحقّك المفقود، فالعالم كلّه لن يأبه لك".
رجعت بعد برهة إلى السيّارة وأكملنا الطريق وواصل المسافر بجانبي قراءة جريدته، وواصل الشابّ غطيطه، ورجع السائق إلى دندنته وتلفّته وتبرّمه، وبلغنا بيتَ حانون، لكنَّ الخاتم عاد ليُشرِق على صباحي من جديد.
انتصرتُ لنفسي على نفسي، في انتظارِ أن تنتصر فلسطين، وتُشرق شمس الحريّة، ويا له من إشراق!
- عود الند: تصميم خاص بالعدد الفصلي الرابع
◄ طه بونيني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
2 مشاركة منتدى
وحدك من يعرف, زهرة يبرم-الجزائر | 27 شباط (فبراير) 2017 - 19:57 1
"إذا لم تأبه بحقك المفقود، فالعالم كله لن يأبه لك"، وإذا فرطت في حقوقك الصغيرة، ستفرط في الكبيرة منها لا محال. وإذا لم تأبه لأول حق ضائع منك، ستضيع منك حقوق كثيرة بالتعود والتساهل. لقد أبدعت كاتبنا من الجزائر وتماهيت مع الدور حتى بدوت فلسطينيا عركته المحن، يعرف الدروب ويحمل القضية... راقت لي وبكل التقدير..
1. وحدك من يعرف, 1 آذار (مارس) 2017, 09:54, ::::: بونيني طه/الجزائر
السلام عليكم،
شكرا على مرورك الجميل. سعيد أنّها راقت لك. فلسطين تسكننا جميعا ونسكنها جميعا، لعلّها الفيصل بين أن نكون كعرب ومسلمين أو لا نكون. تحياتي إليك.
وحدك من يعرف, يوسف ـ الجزائر | 5 آذار (مارس) 2017 - 18:04 2
الحديث عبر وصف المشاهد داخل سيارة أجرة ،يدفعني دفعا إلى الأديب زكي مبارك وكتابه "الأسمار والأحاديث" .واقرأ معي :" ...في تلك السيارة المفتوحة النوافذ والأبواب فتحا أبديا وفوق مقاعدها الخشبية يجلس المسافرون وقد ارتفع بينهم التكليف .فهذا افندي أصلح من هندامه وكوى طربوشه ...وذاك شيخ كور عمامته ولبس قفطانه،وذلك فلاح متقاعد رأى إخوته أن يكون رب الدار ..."
كما يذكرني بالكاتب الفرنسي guy de maupassant في رائعته boule de suifوحديث الركاب في عربة حنطور.
نعم وصف المشاهد في مثل هذه الظروف يستلزم ـ على الخصوص ـ خصوبة الخيال وشدة الملاحظة.وقد وفقت في سرد حركات الأفراد واحدا واحداووصفها كمن يشاهد شريطا..فتحية عطرة إليك على هذا .ولكن فليعلم الجميع أن كلامي هذا لا مقام له إلا بعد الكلام عن غزة الجريحة.
1. وحدك من يعرف, 11 آذار (مارس) 2017, 15:41, ::::: بونيني طه/الجزائر
شكرا على مرورك الطيب. إنّ الخاتم هنا رمز لكل مفقود، والقصة حول واجب المطالبة بذلك المفقود فأنت من يعرفه وحدك وقد لا يعرف قيمته غيرك.كما أنّ الكثير يعطي المشكلة أكبر من حجمها، فإذا حسم الأمر واستجمع رباطة جأشه، وواجه الامر، وجد المشكلة أصغر مما كان يتصوّر، وبأنّ الخوف قد أعطى المشكل حجما أكبر من الحقيقة. وهكذا عندما استرجع البطل خاتمه، وجد انّ الخوف الذي كان ينتابه لم يكن له مسوّغ. شكرا سيدي مرة أخرى.