عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محسن الغالبي - السويد

هـــواء


محسن الغالبيكدت اقتله حين صوبت المسدس ما بين عينيه الرائعتين، واللتين طالما رعينني بنظراتهما اللتين لا يشك المرء مطلقا ً بصفائهما. لا أتذكر الآن تماما ً إن كان أصبعي العاق ّ قد ضغط الزناد، أم لا. أم أن المسدس لم يكن محشوا ً وأنني كنت أهذي لفرط جنوني في تلك اللحظة، أم أنها شجاعة متهور أخرق قد استولى عليه غضبه.

كان ما أثار غضبي أنه لم يصغ إلي، لم يصغ إلي ّ حينما أخرجت له مكنون قلبي الذي لم يعد يطيق كتمان عشقي المجنون هذا.

كان شوقي إليها يمزق شغاف قلبي، فلا أكاد أقوى على الكتمان. كان حبا ً طاغيا. لكنني كنت على يقين أنه هو ما احتاجه وأصبو إليه، ولو دفعني ذلك إلى اعتزال العالم والاكتفاء بها في صومعة في أقصى الأرض خارج حدود الزمن.

كنت لا أراها سوى ملاكا ً يعرج بي إلى العالم العلوي، إذ يتجاذبني الآخرون إلى وحل الأرض. كانت أشهى من الحلم، وأحلى من الشهوة، بل كنت أرى الله وقد تجسد فيها، كانت حقا ً وكل ما سواها كان باطلا.

كدت أقتله إذ أستهان بقلبي، حتى لقد أيقنت أنه بلا قلب. أردت الدفاع عن قلبي بذراعي، فصوبت المسدس إلى ما بين عينيه الرقيقتين. ظل صامتا ً يقف أمامي مبهوتا ً وقد اتسعت حدقتاه البنيـّتان حتى لقد استحالتا إلى مرآة رأيت فيهما نفسي بكل وضوح وأنا أقف شاهرا ً مسدسي بينهما.

سرر محسن الغالبيكدت أقتله، مع أنه كان أخي وشقيقي. لكنها الحلم، بل اليقين، ولا رغبة لي في التنازل عنها، ولو كلفني القتلُ اليتمَ، فقد كان أخي وأبي معا ً بعدما رحل أبونا عنــّا منذ عصور.

قال لي: هوّن عليك.

قلت: هي لا غير.

قال: لم أرها ولست أعرفها فخذني إليها ولك مني امتلاك الحلم.

قلت: بل اليقين ولا تقل الحلم، فما زال المسدس في قبضتي.

قال: أنا معك وإني لأرجو أن نجدها عاجلا.

كنت على يقين أنها ستلتقيني المساء عند الغروب، لكنها لم تأت. وكنت على يقين أنها تسكن في الضفة الأخرى.

ذهبنا معا ً فكانت الضفة الأخرى صعيداً زلقا. وكنت على يقين أنها كانت قد قدمت من بلد آخر اعرفه حق اليقين. مشينا أياما ً وشهورا ً، وجدنا البلد ولم نجد من نعرفه فيه.

وكنت على يقين اني أعرف وجهها وإن أحاطتها الملايين. تصفحنا الوجوه كلها، وجها ً وجها، ولم أرها.

"هواء كل أشواقي ... أباطيل

ونبت دونما ثمر ولا ورد " (*)

عبرنا العصور والمسافات، وما زلت أسميَ حلمي َ يقينا ً، وما زال أخي يسمي َ يقيني َ حلما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) من شناشيل ابنة الجلبي لبدر شاكر السياب

D 25 أيلول (سبتمبر) 2012     A محسن الغالبي     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 76: الإعلام: عندما تكون الحقيقة بين الضحايا

خزانة شهرزاد: مقتطف

مصطلح ومفهوم التبئير

إبراهيم طوقان وهموم التعليم