عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محسن الغالبي - السويد

ضباب


محسن الغالبيفجأة لمحتُ وجهها خلف نافذة القطار القادم من الشرق. كان الفجر قد انبلج للتو وقد غطى ضبابه صفحة النافذة، فبدا وجهها هو الآخر ضبابيا. لكنني أعرفه من بين كل الوجوه حق المعرفة. أقرأ خطوط عينيها ورشاقة أنفها وهلامية شفتيها ولو هبط ضباب الشمال كله.

اقتربتُ من النافذة يكاد القلب يرقص من شدة الفرح. أردت أن أصرخ أنني اشتقت وأن الانتظار قد فتّ عضدي، لكن فوضى المحطة وعواء القطار كانا كفيلين بخنق صرختي فأحجمت.

مددت يدي وأشرعت أمسح عن النافذة ذاك الضباب. أفزعني أن وجهها كان يتلاشى مع كل بقعة ضباب تمسحها يدي. بدأت يدي تتثاقل في المسح كأنني أخشى أن يختفي وجهها، أن تختفي هي مع هذا الضباب.

يدي تتثاقل، لكنها لا تتوقف.

ذهب الضباب كله.

وذهب وجهها كله.

ذهب المسافرون الهابطون من القطار كلهم وتلاشوا كأن لم يكونوا.

تلاشت المحطة بأسرها. وذهب العالم كله خلف الضباب الذي كان يغطي وجهها. ذهب العالم بذهابها.

تسمرت في مكاني مذهولاً لا أدري ما يجب فعله.

صرخت الى حدٍ شعرت معه أن أوتار حنجرتي تتمزق. أحسست أن المحطة ترتعد تحت سيل صرخاتي رغم اختفائها. بكيت كطفل هدّه الجوع وحيدا. تلفتّ يمنة ويسرة فأدركت أنْ ما من أحد قد سمع صراخي.

قفزت نحو مكانها. لم أجد شيئا. وقعت في الشك. إما أن تكون غير موجودة هي، وهذا محال فقد كانت ملامح وجهها أكثر يقيناً من وجودي، أو أني أنا من لا وجود له، وهذا محال ممكن جداً، ولا سبيل إلى نفيه.

أدرت وجهي كي أترك القطار فأبصرتها جالسة أمامي. كانت ملامحها هذه المرة أشد وضوحاً وجلاءً.

مشيت نحوها بخطى متثاقلة وكأنني أستعذب المسير إليها. ومع كل خطوة نحوها كان الضباب يهبط فيما بيننا، حتى إذا بلغت مجمع نظرينا، لم يبق َ غير الضباب. حينها أدركت أنني مجرد وهم.

لملمت ُ وهمي وغادرت المحطة.

كان انكساري، شبه انتحار.

واستحال ما كان فردوس روحي، بعض ناري.

غادرت المحطة واقسمت ألا أعود إليها. بل أقسمت ألا ادخل المحطات كلها، وكل المطارات، وكل الموانئ. أقسمت ألا أدخل الشوارع كلها، والساحات كلها، وألا أدخل المدن، كلها.

غادرت الاماكن كلها، إلى غير رجعة.

لم أعد أفكر فيها. نسيتها تماما. تماما. أقسم أني نسيتها. نعم ما زلت أرى وجهها، والضباب، خلف النوافذ كلها. أبتسم نصف ابتسامة ثم أشيح عنها، لأكمل مسيرتي العبثية في اللامكان.

لم أعد أفكر فيها.

JPEG - 30.3 كيليبايت
مسافرة في قطار
D 1 حزيران (يونيو) 2021     A محسن الغالبي     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • في وقوف الناس على بوابات المحطات تباين، فمن مسافر يتشوق للمغادرة، وآخر يتألم من فراق، وثالث يعانق حبيبا عائدا، ورابع مازال ينتظر.
    والمحطات في الحقيقة نسخة مصغرة عن الحياة، تجتمع فيها الوجوه والمشاعر والرغبات والخيبات.
    وكاتبنا وضعنا في محطة مزدحمة، وفاجأنا بوجه حبيبته يظهر له من نافذة القطار، بدا الأمل مشرقاً لقصة آتية، قصة رومانسية بطولة عبد الحليم وزبيدة، لكن تلاشت القصة الجميلة حين تلاشى الضباب، وجعلنا نقف على عتبات وجع الحبيب يقف وحيداً في محطة خالية من المحبوب، ثم يراها مجدداً لتختلط في مخيلتنا الحقيقة بالوهم، ويبدو الأمر محال ممكن!
    وتبدأ المعاناة في البحث عن الحقيقة، صراخ غير مسموع، وجسد غير مرئي، ومشي مستعذب يفضي إلى الفراغ.
    ثم الأيمان المغلظة بعدم العودة، وعدم البحث، وعدم الرد، ومع ذلك تتراءى صورتها خلف كل النوافذ، فيشيح بوجهه. فهل يشيح بقلبه أم يبقى القلب معلقاً؟!
    هناك إيقاع جميل في بعض جمل النص، (كان انكساري، شبه انتحار ِ.
    واستحال ما كان فردوس روحي، بعض ناري.)
    من ناحية أخرى فقد صاغ الكاتب تعبيرات قوية في جمل مختصرة (فتّ عضدي) (عواء القطار) (كطفل هده الجوع وحيداً)
    إنه نص من عدة نصوص للكاتب الذي احترف فن الوقوف على حافة الجنون، هناك في مكان ما بين الحقيقة والوهم، لينقل لنا خلجات النفس، وأحاديث الروح، وخيبات الجسد، بسرد مشوق يسحبنا خلفه من وديان العقد، إلى قمم التنوير.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 21: عود الند تبدأ عامها السادس عشر

تجليات الغربة في كتاب "رأيتُ رام الله"

ارهاصات الدراسات المقارنة في الأدب العربي

حضور علم الأصوات في النشاط الثقافي العربي

منهج الكتابة التاريخية عند ميشال فوكو