عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

إبراهيم طوقان وهموم التعليم


إلى متى سيظل إبراهيم طوقان يعاني من هموم التعليم؟

فراس حج محمدينفث الشاعر المعلم إبراهيم طوقان [1] على مدى أربعة عشر بيتا من الشعر همومه، وما كان يعانيه جراء عمله معلما للغة العربية في فترة كان فيها التعليم له ما له من الأهمية والندرة والقداسة، فما الذي سيقوله إبراهيم طوقان اليوم، وسُلّم التعليم في انحدار على الرغم من الأعداد الكبيرة التي تتسمر في مقاعد الدراسة.

مارس إبراهيم طوقان التعليم في مدرستين؛ الأولى مدرسة النجاح الوطنية ومكث فيها سنة دراسية واحدة هي السنة الدراسية 1929/1930 [2] بعد تخرجه مباشرة من الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم يعود بعد سنتين إلى التعليم المدرسي مرة أخرى عام 1932 في المدرسة الرشيدية في القدس [3]. وتنقل الشاعرة فدوى طوقان، شقيقة إبراهيم، عنه ضيقه وتبرمه من هذه المهنة، فلم يكن طموحه أن يكون معلما، بل صحفيا في إحدى الصحف في القاهرة مدينة الشعر والجمال ليكون قريبا من عالم الأدب والشعر والثقافة عموما [4].

كتب إبراهيم طوقان قصيدته الشاعر المعلم خلال عمله معلما للغة العربية في المدرسة الرشيدية في القدس، والتي لم يمكث فيها سوى فصل دراسي واحد، لم يكمله بسبب المرض الذي ألم به وقتها [5]، والقصيدة في الأعمال الكاملة مؤرخة بهذا التاريخ: 31/3/1933[6]، أي بعد أن ترك التدريس في هذه المدرسة بحوالي أربعة أشهر أو يزيد، وكأنه يستذكر تلك التجربة، أو لعله يرد على من لامه لترك ذلك العمل، مثبتا كذلك أنه كتبها في نابلس وليس في القدس.

لم يشأ طوقان أن يعارض أحمد شوقي في قصيدته المشهورة، والتي أضحى بيتها الأول شعارا للتعليم في وطننا العربي الكبير "قم للمعلم وفه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا"، وإنما أراد أن يعبر من خلال تلك القصيدة ما كان واقعا فيه من هموم يعانيها جراء روتين يومي لم ير فيه نفعا كبيرا، ولم يلبِ طموحه الشخصي.

الشاعر أحمد شوقيوعلى الرغم مما لحق ببيت أحمد شوقي والقصيدة بكاملها من معارضة ساخرة من كثيرين ممن يعانون معاناة مستمرة من سوء الأوضاع التعليمية، وخاصة أوضاع المعلمين المعيشية، إلا أن قصيدة أحمد شوقي ما زالت قصيدة المواساة والرؤيا، بسبب ما تحمله من أفكار ترسخت في وعي المثقفين العرب والمجتمع العربي عبر تاريخ طويل، نابع من رحم الثقافة الإسلامية التي تشجع العلم والتعليم، ولعل القول المشهور "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، هو ذلك المنوال التي نسجت عليه أفكار تلك القصيدة.

ومهما يكن من أمر، فإن قصيدة طوقان في التعليم لم تكن ناقضة لأفكار شوقي، وإن حملت نفسا ساخرا بعض الشيء، ولكنه أراد أن يقدم تجربته الشخصية في التعليم، فماذا أراد طوقان أن يقول؟

يفتتح طوقان قصيدته مخاطبا شوقي مباشرة وبشكل عفوي سلس، مؤسسا للفكرة العامة للقصيدة:

شَوْقِي يَقُولُ وَمَا دَرَى بِمُصِيبَتِي — قُمْ لِلْمُعَلِّـمِ وَفِّـهِ التَّبْجِيــلا

وَيَكَادُ يَفْلِقُنِي الأَمِيرُ بِقَوْلِـهِ — كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولا

وتتلخص تلك الفكرة أن طوقان واقع في مصيبة ما، فما هي تلك المصيبة يا ترى؟ يتابع طوقان نسج خيوطها، ليعرفنا أول مأساته في البيت الثالث:

اقْعُدْ فَدَيْتُكَ هَلْ يَكُونُ مُبَجَّلاً — مَنْ كَانِ لِلْنَشْءِ الصِّغَارِ خَلِيلا؟

يحيل هذا البيت على قول مأثور عن الجاحظ رحمه الله، يذم فيه مهنة تعليم الصغار، فهم مع طول المدة سيلحقون بعقول معلميهم الضرر البالغ، فيصيرون أطفالا بكيفية ما. ويسوق الدكتور شوقي ضيف في كتابه "العصر العباسي الثاني" عند ترجمته لحياة الجاحظ (ص 608)، قولا تتناقله الكتب عن الجاحظ بأنه "ألف كتابا في نوادر المعلمين وما هم عليه من الغفلة".

إبراهيم طوقانوهنا يسجل طوقان ملاحظة مهمة وغاية في الدقة تتمثل في معاناة المثقف الذي امتهن تعليم الصغار، فكيف سيعلم هؤلاء الطلبة تاركا عقلية التفكير معابثا معلومات بسيطة هي بكل تأكيد مناسبة لعقل الصغير التي لا تتناسب وعقل الكاتب وآليات تفكيره؟ وكيف له أن يجمع بين العقليتين؟ إنها مهمة صعبة وخطيرة، فلا بد من أنه سيعاني وسيعاني كثيرا، لاسيما وأن المعلم يقضي وقتا كبيرا مع عقول الطلبة سواء في غرف التدريس أو مع نتاجاتهم التعليمية من دفاتر وأوراق امتحانات وأنشطة لا صفية متنوعة.

ولذلك، ترى طوقان في البيت الرابع يعترض على شوقي، ذلك الشاعر الذي عاش حياة القصور، فشوقي لم يجرب التعليم ولو لساعة واحدة، ولو جرّب تلك المهمة "لقضى الحياة شقاوة وخمولا"، فمن أين تأتي تلك الشقاوة ومن أين يتسرب الخمول إلى النفس، أيها الشاعر المعلم؟

يستعرض طوقان فيما يأتي من أبيات مصدر كل ذلك، ليرى طوقان أن مرأى الدفاتر مكدسة أمامه هو أول منبع لتلك الشقاوة، فما زالت تلك الدفاتر مصدر قلق لكل معلم في كل زمان ومكان، يضيق بها ذرعاً، فمتابعتها باهتمام وإخلاص وإتقان مع ما يجد فيها من نتائج تعليمية لا تتوافق مع ما يُقَدَّم للطلبة في غرفة الصف، فإن ذلك يجلب اليأس والخمول عند بعض المعلمين، ولذلك تراه يصل إلى قناعته المتمثلة بقوله:

وَلَوْ أَنَّ في "التَّصْلِيحِ" نَفْعَاً يُرْتَجَى — وَأَبِيكَ لَمْ أَكُ بِالْعُيُون بَخِيلا

فعلى الرغم من أن طوقان لم يقصر في البحث عن الصواب في مظانه الرئيسية من كتب نحوية أو مصادر أدبية، مستشهدا بالشعر القديم وبآيات الكتاب الحكيم، مستحضرا أقوال سيبويه وآراءه، إلا أن ما رآه مذهلا ومخيبا للآمال، وصادما للمعلم، أي معلم، ليعبر بعفوية خرجت بلا تلكؤ أو تردد:

فَأَرَى (حِمَارَاً) بَعْدَ ذَلِكَ كُلّه — رَفَعَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَالْمَفْعُولا

مع تحفظي الشديد على ذلك الوصف لأي طالب مهما كان مستواه في التحصيل، على الرغم من شيوع هذا الوصف بين أوساط المعلمين للأسف الشديد، وهو يعبر عن عدم استجابة الطلبة استجابات إيجابية للمحتوى التعليمي.

ويصل طوقان للنهاية المحتملة للمعلم، الذي يعاني كل تلك المعاناة. إن طوقان لا يستبعد أن يقع قتيلا بين "البنوك"[7] من هول ما يرى، فلا يرى طوقان في عمل المعلم سوى أنه رديف الانتحار.

لاَ تَعْجَبُوا إِنْ صِحْتُ يَوْمَاً صَيْحَةً — وَوَقَعْتُ مَا بَيْنَ "الْبُنُوكِ" قَتِيلا
يَا مَنْ يُرِيدُ الانْتِحَارَ وَجَدْتـهُ — إِنَّ الْمُعَلِّمَ لاَ يَعِيشُ طَويلا

لعل طوقان قد تجرأ كثيرا في هذه الخاتمة، وبعيدا عن كل الكلام النمطي في تمجيد مهمة المعلم ورسالته كما عبر عنها شوقي، إلا أن هذا الحكم بعيد عن الواقع، فمهما كانت الظروف صعبة، فأنت أيها المعلم تؤدي واجبا وظيفيا، فليس بمحكوم عليك بالإعدام لتبقى مقيدا بأصفادها، فأرض الله واسعة وأبواب الرزق فسيحة لمن أراد الراحة والثروة وهدوء البال، فمهنة التعليم بحد ذاتها ليست بهذا السوء الذي وصفه طوقان.

وأخيراً، هل كان طوقان يعاني من أزمة ثقة في النظام التعليمي في زمانه؟ ولو شاهد ما نحن فيه اليوم من مشاكل تربوية متشعبة لأدرك أن وظيفة المعلم ليست سهلة، في ظل كثير من المغريات المعاصرة، والتي تُبْعِد النشء الصغار عن منظومة العلم والتعليم، وتجعل معظم مقولات طوقان في قصيدته ناطقة بألم الواقع المعيش، فهل من مَخْرج مما نعاني منه ليكون التعليم استراتيجية لبناء الأمة فكريا ومادياً؟

علينا أن نبحث عن الجواب في كل إدارات دولنا التي تنفق ما تنفق من أموال على الاستهلاكيات والفرعيات والمهرجانات الفنية، مبتعدة عن أساس صناعة كل مجتمع، فبغير التعليم وصناعة الوعي لن يصلح الحال البتة، فلنتأمل ذلك، جعلتُ فداءكم!

= = = = =

[1] . ولد الشاعر إبراهيم طوقان عام 1905، وتوفي عام 1941م.

[2] . الأعمال الشعرية الكاملة، إبراهيم طوقان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1993، ص 28

[3] . السابق، ص 31

[4] . السابق، ص26

[5] . السابق، ص31

[6] السابق، ص 176

[7] . في الأصل كلمة إنجليزية (bench)، وتعني المقعد الخشبي الذي يتسع لشخصين، وهي المقاعد التي كانت شائعة الاستخدام في المدارس الفلسطينية، وما زال منها بقية إلى الآن.

D 25 أيلول (سبتمبر) 2012     A فراس حج محمد     C 6 تعليقات

3 مشاركة منتدى

  • مقالة ريادية ممتعة تسلط الأضواء على شخصية عبقرية نابلسية، وفيهابعد معرفي عميق ومقارنات طريفة وصائبة، وان دلت على شيء فعلى المستوى الحضاري-التعليمي الفريد الذي كانت تنعم به فلسطين الحبيبة في ثلاثينات القرن الماضي ، قبل أن يأتي الصهاينة الارهابيين الأدعياء لينشروا الرعب ويروجواالأكاذيب عن شعب فلسطين المتجذر تاريخيا في هذه الديار المقدسة !


  • إلى جانب الدعوة لاحترام المعلم و تبجيله، جزء من قصيدة أمير الشعراء يتحدث عن تراجعنا في العلوم و المعارف، وتقصيرنا في اللحاق بركب الحضارة، وجزء آخر يتحدث عن عظم واجب المعلم ومسؤوليته. 
    وَإِذا الـمُـعَـلِّـمُ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ
    جـاءَت عَـلى يَدِهِ البَصائِرُ حولا
    وَإِذا أَتـى الإِرشادُ مِن سَبَبِ الهَوى
    وَمِـنَ الـغُـرورِ فَـسَمِّهِ التَضليلا
    ورغم ذلك فإن شوقي كتب هذه القصيدة - كما تفضلتم- من برجه العاجي! 
    ويصدق الشاعر حين قال فيه
    لو جرّب التعليمَ شوقي ساعة َلَقَضَى الحياةَ شقاوةًً وخمولا
    شكرا لك أستاذنا
    دمت بود. 


  • مكمن جمال هذه المقالة أنها أشارت إلى زاوية رؤية كل من شوقي وطوقان، فشوقي ربيب القصور يتكلم بأريحية دون معاناة أو هموم، بينما طوقان يصدر عن معاناة وتجربة قاسية. ولعل طوقان يتحدث عن معاناته كشاعر طموح كما أشار الأخ فراس، فمن الصعب أن يرضى بهذه المهنة الشاقة التي تتطلب صبراً وجلده لا يملكه بالتأكيد أي شاعر، فالشاعر روح منطلقة لا قدرة لها على الركون أو الجلد.
    أما هموم التعليم فهي بالتأكيد كبيرة جداً، وهي تزداد من جيل إلى جيل في ظل تخلف يضرب أطنابه في كل شيء، فالتربية في عالمنا العربي تتقدم شكلاً، وتتراجع مضموناً، رغم البهرجة والزيف وحفلات الزار والأفلام المحروقة التي يسوقها أعلام التربية في بلداننا التي شقت بهم.
    تحياتي للأخ فراس على جهوده المتواصلة في غير مجال.


في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 76: الإعلام: عندما تكون الحقيقة بين الضحايا

خزانة شهرزاد: مقتطف

مصطلح ومفهوم التبئير

نزار قباني: نثره ومدى احترامه للمرأة