عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

التذوق الأدبي

النقد الأدبي ومقوماته


فراس حج محمدكثيرا ما نسمع عن شهرة شاعر أو قاص أو مبدع من المبدعين، فما السبب يا ترى لهذه الشهرة؟ لعل السبب كامن وراء ما يقدمه هذا المبدع أو ذلك للجمهور، فلولا ذلك الشيء المقدم للجمهور لا أحد يستطيع معرفة ما يكتب، كما أن الطعام والشراب لا تعرف جودته وطعمه إلا من بعد التذوق والاختبار، كذلك الأدب، فإنه يحتاج لمثل هذا، من هنا جاء مصطلح التذوق الأدبي.

إن الأدب من قبيل الطعام والشراب، لكنه طعام للفكر والروح وتلبية حاجات ربما تكون غامضة في النفس البشرية، يأتي هذا الأدب ليحاكي النفس في حاجاتها، ويلامس تلك المواطن العطشى فيرويها، ويوصلها إلى حد الارتواء. عندها نقول: إن هذا الأدب يلبي تلك الحاجات ولا نستطيع الاستغناء عنه، ويسلم شاهدته بكل ثقة نحو العالمية والخلود.

ولكن، كيف يمكن أن نحكم على هذا الأدب ونتحسس مواطن جماله وروعته، وكيف يمكن للأدب أن يسعى إلى إرواء عطش الروح؟ وما هي السمات الواجب توافرها في هذا الأدب حتى يصل إلى مرحلة من انحياز الجمهور له؟

لا شك أن الأدب الناجح هو الأدب المؤثر، وحتى يكون الأدب مؤثرا، لا بد أن يكون هناك استغلال جيد إلى أقصى طاقة ممكنة لتوظيف العناصر الشكلية والمعنوية لإحداث ذلك الأثر.

إن حسن السبك والانسياب في الجملة الأدبية هو أول ما يلفت النظر، وهو الطريق الأول للتذوق الأدبي؛ ولذا فإن الشعراء قديما كانوا يهتمون بمطالع قصائدهم، لأنها ما يشبه العقد ما بين الشاعر والمتلقي، فإن حسُن المطلع ولبى حاجة مغروسة في النفس ازداد المتلقي إمتاعا ومتابعة واستعد لما سيأتي، فإذا ما اكتمل النص، تجده يختال في نشوة اللذة الأدبية وعاش لحظة من الإمتاع يصعب وصفها.

ولكن حسْن السبك والانسيابية لا يكفي، إذ يلزم مع ذلك عناصر أخرى، كالتوظيف البلاغي للألفاظ من مجازات وتشابيه وكنايات، وتقديم وتأخير، وإضافة العناصر الشكلية الزائدة على البنية النحوية لتؤدي غرضا معنويا زائدا على الجملة الأدبية.

أما ثالث مقومات الجملة الأدبية المؤثرة، والذي يظهر عند تلقي النص وتذوقه هو المعنى، ولا نبالغ إن قلنا: إن كل العناصر الشكلية السابقة لم تحدث ذلك التأثير المطلوب منها، إذا لم يكن المعنى المستكن في البناء النحوي له صدى في النفس، حتى يتلاقيا فيتحدا في صورة من التأثير والإمتاع، فإن حدث كل ذلك، استطعنا القول إن ذلك النص عاش في وعي الناس وتمثلوه حياتهم.

ولننظر إلى هذا المقطع من الشعر، والذي يعد من أمثلة التعبير الجيد، يقول أبو تمام:

إِلَيكَ بَعَثتُ أَبكارَ المَعاني = = يَليها سائِقٌ عَجِلٌ وَحادي

جَوائِرَ عَن ذَنابى القَومِ حَيرى = = هَوادِيَ لِلجَماجِمِ وَالهَوادي

شِدادَ الأَسرِ سالِمَةَ النَواحي = = مِنَ الإِقواءِ فيها وَالسِنادِ

يُذَلِّلُّها بِذِكرِكَ قَرنُ فِكرٍ = = إِذا حَزَنَت فَتَسلَسُ في القِيادِ

لَها في الهاجِسِ القَدحُ المُعَلّى = = وَفي نَظمِ القَوافي وَالعِمادِ

مُنَزَّهَةٌ عَنِ السَرَقِ المُوَرّى = = مُكَرَّمَةً عَنِ المَعنى المُعادِ

استهل أبو تمام هذا المقطع، وهو ليس مطلع القصيدة، بالخطاب الذي يشد المتلقي، ويغريه بالسماع، بعد أن سمع كثيرا من أبيات المدح قبلها، ويوظف أبا تمام عدة عناصر للتأثير، فغير الخطاب في أول البيت، تصادفنا لفظة" أبكار" بما تحمله من دلالات خاصة اجتماعية وفنية، فليس بعد البكر من امرأة، وليس بعد المعنى المبتكر من معنى، ولم يكتف أبو تمام بذلك، بل إن هذه المعاني تأتيه بصورة فيها من العظمة ما يوازي عظمة الممدوح معها سائقها يحثها مسرع الخطى، وحاديها المنتشي بروعة المعنى ليوصلها لمن يستحقها.

ويبدأ في البيت الثاني بتقديم الأوصاف الكاملة لتلك المعاني الشريفة التي لا تلفت إلى أسافلة القوم، بل إنها تُهدى لأكابر الناس، والأكثر إمتاعا في هذا البيت هو صياغته، وكيفية بنائه، انظر إلى هذا الانسياب العجيب في قوله: "جوائر عن ذنابى القوم حيرى" لقد نفى عن معانيه الابتذال بهذا التركيب المؤثر، وأثبت في الشطر الثاني لها التميز والخصوصية، وليس هذا وحسب، تأمل لفظة" هوادي" المكررة مرتين، ماذا قصد الشاعر من وراء توظيفها بهذا الشكل؟ ولماذا هذه اللفظة بالذات؟

لعله استخدمها لمعنى الابتكار الوارد في البيت السابق، فقد جاء في المعاجم العربية" وكلُّ متقدِّم هادٍ. والهادي: العُنُقُ لتقدّمه؛ والجمع هَوادٍ. قال الأَصمعي: الهادِيةُ من كل شيء أَوَّلُه وما تقَدَّمَ منه، ولهذا قيل: أَقْبَلَتْ هَوادي الخيلِ إذا بَدَتْ أَعْناقُها. وفي الحديث: طَلَعَتْ هَوادي الخيل يعني أَوائِلَها. وهَوادي الليل: أَوائله لتقدمها كتقدُّم الأَعناق وقد تكون الهوادي من الخيل أَولَ رَعيل يَطْلُع منها لأَنها المُتَقَدِّمة. ويقال: قد هَدَت تَهْدي إذا تَقَدَّمتْ"، ومن هذا المعنى جاء قول العرب ليس توالي الخيل كالهوادي، ولا غفر الليالي كالدآدي". لعلنا أدركنا بعض سر أبي تمام في توظيف هذا اللفظ مرتين لتدل على المعنيين: الهداية والتقدم.

أما بيته الثالث فهو توظيف لصورة بلاغية شائعة ولكن مع هذا الشيوع، إلا أن النظم المنساب انسياب الماء البارد في حلق الظمآن؛ يصور قصيدته بألفاظها ومعانيها بالفرس أو الناقة شديدة الخلقة تامة قوية، خالية من العيوب، إنه يترك ما يدل على الصورة (الخيل/ الناقة) ليربط المتلقي بالقصيدة؛ فينفي عن قصيدته عيبي الإقواء والسناد.

ومع كل هذه الخصوصية لهذه القصيدة المميزة، ذات المعاني المبتكرة، إلا أنها لا تصعب على الممدوح، وهذا مدح متداخل مع الإشادة بالنص؛ فإذا ما استعصت على الآخرين فإنها معه سلسة مطاوعة، ويسجل أبو تمام ميزة أخرى للنص بأنها هي هاجس للمبدعين، تهدي الآخرين، وتقدح زناد الإبداع لديهم، ولكن مع ذلك لا يستطيعون اللحاق بركبها فتظل في الميدان حائزة قصب السبق، وأخيرا يصل فينا الشاعر إلى مربط الفرس والغاية من القصيد؛ قصيدة ليست مسروقة المعاني، مؤكدا ما بدأه من ابتكارها، ويوظف لذلك هذا اللفظ "منزهة"، ويُكْرِم نُزُل قصيدته، فيبعدها عن المعاني المعادة والمبتذلة.

هكذا تكاملت كل العناصر لتقدم نصا لافتا وإبداعيا ومحركا، لننعم نحن بالتذوق الأدبي من خلال الكشف عن التوظيف الجيد لكل العناصر، التي تجعل النص حاضرا في الوجدان.

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات