بقادي الحاج أحمد - السعودية
البسمة المضيئة
أكانت رقيقة كسيقان النال؟ أم رقيقة كالشعاع؟ لا كانت رقيقة كأنثى، ممتلئة إشراقا كالمصباح، تشع منها الأنوثة عبر بسمة مضيئة. التقاها في الحافلة التي كانت تنقلهم وآخرين إلى مكان العمل كل يوم. كانت حافلة خاصة، ليست حافلة المواصلات العامة. كانت تحملهم كلما أشرقت شمس يوم جديد. تبدأ رحلتها من أقصى شمال مدينة أم درمان– الثورة، التي يطل عليها التاريخ من على قمة الجبل، حاملا بيارق معركة كرري.
تصعد الحافلة الروابي وتنحدر نحو النيل، مارة على الحارات لتـنتقي من المحطات ركابها من وسط الزحام واحدا فواحدة في تتابع وغير تتابع. واصل الحافلة سيرها نحو النهر وفوقه عبر الجسر إلى مدينة الخرطوم، حيث أماكن العمل المختلفة. كان الجميع مشتركين في الحافلة: رحلتان عبر النهر نزولا وصعودا. كان لكل مكانه المخصص، لا يبدله إلا إذا جلس عليه أحد الضيوف.
هي سمراء: الكنبة في الصف الثاني من الأمام. كانت تخصه هو وسمراء. كل من بالحافلة يعرف ذلك. جـمعت الحافلة بينهما على كنبة واحدة، وكذلك فعلت بقلبيهما. كان يميل كل منهما إلى الأخر، ليس عندما تهتـز الحافلة وتتعثر على مطبات شارع الزلط، ولكن عندما يرى كل منهم صاحبه: القلب منه أو منها يرف ويفرفر مثل طائر علق في شرك.
ركب الحافلة من أمام شارع بيته. كانت الحافلة في ذلك اليوم شبه فارغة. تخلف كثير من ركابها. لعل السائق بكر قليلا فتخطى الكثيرين. أحس بالوحشة لأن مقعد الكنبة في الصف الثاني من الأمام خال، ولا يضم سمراء. آخذ ينظر عبر النافذة. الحافلات العامة تزدحم بالركاب: طلبة المدارس، موظفين، موظفات وعمال. المحطات تجمهر الركاب فيها يزداد ويزداد. كانت الحافلة عندما تقف بعيدا عن الجمهور لتأخذ أحد المشتركين، تهرول إليها جـموع المنـتظرين في المحطة غير مصدقين وجود حافلة بها مقاعد فارغة في هذا الكون، لا يوقفهم عن الركوب إلا سماع كلمة "خاص. خاص."
شعر بالانقباض ليس بسبب منظر الزحام الذي يطل عليه عبر نافذة الحافلة بل بسبب خلو المقعد بجواره من "البسمة الضواية." ترى لماذا تأخرت؟ هل أصابها مكروه؟ بدأ الظلام يتمدد بداخله. كان بعيدا يتخبط في ظلام الهواجس. ركبت الحافلة من محطة غير محطتها، وجلست بجواره دون أن ينتبه. بدون مقدمات أشرق النور بداخله دفعة واحده، وتدفق النور كله عليه عند سماع صوتها وهي تقول ضاحكة:
"هه. نحنا هنا. مشيت وين أنت؟ وكنت مع منو؟"
" حصلت الحافلة بعربية جيراننا. ركبت وقعدت هنه جنبك وأنت ولا هنه. سرحت وين؟"
أخذ نفسا عميقا. كان يريد أن يتمطى، أن يفرد طوله. ولكن عمليا ذلك لم يكن ممكنا.
قال: "كنت بعيدا. بعيدا."
قالت وهي تنظر إليه بنظرة سكبت فيها كل دهاء حواء: "حـمد لله على السلامة."
قالتها وقد كست وجهها ابتسامة أضاءت كالمصباح. نظر إليها بشغف شديد، وقال: "الله يسلمك."
◄ بقادي الحاج أحمد
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ