مازن الرفاعي - رومانيا
الأحـلام المـــوؤودة
النهار يودع الشمس والشارع يتحرك تحت مظلة من سحب الشتاء الداكنة الهاربة في كل اتجاه، المطر خفيف رقيق ناعم أنفاسه السريعة المتلاحقة تغسل الأرض، الإشعاعات الأخيرة من الشمس الغاربة تودع الرصيف المبتل تزحف خارجة من النافذة بعد أن وجدت لمسة من الدفء بجانب الموقد.
نظراته من النافذة تراقب عجلات العربات وهي تلتهم أرض الشارع الزلقة بنهم متجهة إلى هدف لا يدري به يلتفت إلى نفسه مخاطبا إياها قائلا: انظري إلى إطارات تلك الآليات كيف تدور متجهة إلى هدف لا تدركه ما أشبهها بأيامي، عربتي يقودها الفقر والطريق مليء بالمطبات والحفر.
منذ سنين أنهى عمرو دراسته الجامعية. حصاد العمر. حصاد عشرين سنة من الدراسة والعمل والكد والتعب، آمال بعد التخرج ونيل الشهادة الكبيرة. بداية تحقيق الأحلام الكبيرة. الخطوة الأولى على اتوستراد المستقبل. سنتان كانتا كافيتين لتحيل غابة أحلامه إلى حقل مهجور إلا من الأشواك. لا تزال البيوت خاوية، والجيوب أيضا، ولا يملك حتى الآن الوسيلة لملئهما. ولا يزال يبحث غير واجد في رأسه عن مكان يجد فيه الحلول. ولا يزال يتساءل ما هي المشكلة؟ وأين يكمن الخطأ؟
شكله مقبول، ونظاراته متقنة الصنع، كفاه بلا قيد، ولسانه لا يعارض. مسموح له بزيارة أهله في سجونهم ومقابرهم ومغترباتهم، حين حاول تعلم السباحة ليطفو فوق مشاكله لاحقته أمواج الفشل العالية، وفي كل يوم كان يدفن حلما جديدا من أحلامه البسيطة المستحيلة. سنتان فقط بعد اليوم الكبير كانتا كافيتين لوأد جميع أحلامه، أحلامه تستقل كل ليلة قطارا بدون عودة، وكل ما استطاع فعله هو أن يطور تلك الأحلام إلى كوابيس.
فجأة أشرقت على حياته وأحبها، وهو الفعل الوحيد الذي يتقنه، رغم اضطهاد الحب واعتقال الأحاسيس ومراقبة العواطف. أحبها، ومن أبواب المجهول إلى عينيها كانت أولى رحلاته، عيناها جزر لجأت إليها أحلامه في الليالي الممطرة.
حولته شمسها إلى زهرة عباد الشمس، فبات يخشى غروبها. ربى المدرسة كانت تخبئ في بحور عينيها الزرقاوين مئات الأسماك المفترسة، كانت كالقمر يسرق الضوء من سيقان الأشجار، ويوما آخر من حياته. تقدم لها ورفضته، رفضت شهاداته الورقية، التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فهي تبحث عن زوج يرفعها ويريحها ولا تضم قواميسها كلمات مثل التضحية والإيثار والكفاح. وخلال أشهر كان حفل زفافها على صديقه عبد الجبار.
عبد الجبار صديق الطفولة الفاشل دراسيا — "أبو المجاري" كما كانوا يستهزؤون به. كان بارعا في إخفاء ذيله، ودائما يفتخر بالقرون التي تزين رأسه، ولا يري مخالبه إلا لأصدقائه وحتى إن فتك بهم فسيسامحونه، فهو صديق يحق له أن يؤذي وقت الضيق. أبو المجاري تزوج ربى المدرسة، أجمل فتيات الحي، ويملك اليوم منزلا وسيارة وربى، فعلى ما يبدو أن المجاري هي الطريق الوحيد لتأمين المستقبل هذه الأيام.
قرر عمرو الهروب في الهزيع الأول من الليل، وحمل في ترحاله أطياف أحلام خطفتها الأيام، وفي القلب دمعة من غبار الهزائم، وفي النبض لا تزال تشتعل الرغبات، وفي الأعماق دبيب التصحر. أحلامه تناثرت كأوراق خريفية صفراء وتداعت كمبنى عتيق، عبر شاطئ الحزن. ولم يبال بطحالب الخوف وأشباح الهزيمة ومطرقة المأساة التي هوت على آماله كحوافر خيول جامحة، لم تتمكن بحور البعد من أن تطفئ اللهيب في الوجدان.
الشمس لا تزال مطفأة. وهو كطائر مهاجر يسافر مرغما بعيدا عن ارض المولد، يقطع المسافات، يطوي الأزمنة، يحوم حول الأمكنة، يستقر برهة يتعرف على ما حوله، وحين يكتشف لذة طعم الاستقرار يحزم أمتعته مغادرا إلى مجهول جديد. حرم نفسه من الطفولة ومن المراهقة ومن الشباب، حرمها من الصحة ومن السعادة، ومن الإخوة والأبوة، حرمها من العطف ومن الحب، ومن كل ما هو جميل وجذاب وممتع.
الزمن يترك علاماته على وجهه. وهو يبحث عن المجهول ما أقسى الأيام الراسمة علاماتها على الوجوه! في ترحاله لا يزال يبحث عن السعادة، عن المجهول، عن التحدي، عن الوجود عن المفقود. الفوضوية تنساب منسلة من كل لحظة في عمره، نفسه المهاجرة بحاجة إلى من يعيد ترتيب محتوياتها وينظمها.
في يوم ما قرر الهجرة، الهروب، الرحيل من شباك الواقع، فما أسهل الهروب! وما أصعب المواجهة! في كل يوم تشرق شمس جديدة على كل العالم، أما هو فلا يزال مغتربا في ملكوت الظلام. بعد قطع تلك المسافات في رحلته الأبدية لا يزال يعيش على أمل أن هناك حياة بعد الموت، ويتساءل: "هل هناك حياة قبل الموت؟"
◄ مازن الرفاعي
▼ موضوعاتي