عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بقادي الحاج أحمد - السعودية

الجمل


بقادي الحاج أحمد(1)

الباص يسير منطلقا على طريق الإسفلت الذي يرقد بين التلال والوهاد مثل ثعبان ضخم طويل خطه رسام بارع. على جانبي الطريق، على مد البصر، تمتد الصحراء. من وقت لآخر تنحسر العباءة الصفراء لتظهر الجبال العالية بالقرب من الطريق أو بعيدة عنه. يواصل الباص سيره على الطريق الأسفلتي، وعلى امتداد الصحراء تطل بعض النباتات والجمال متناثرة هنا وهناك. النوق الحمر والسود والبيض، كأن كل منطقه وناحية تقدم وتعرض للمارين ما يخصها من السلالات. الباص يواصل سيره على الطريق الصحراوي والشمس تتوهج في الخارج. مع الهواء المكيف ينطلق غير عابئ بما تفعله أشعة الشمس في الصحراء في الخارج.

(2)

كان الجمل فيما مضى من الزمان هو السفينة التي تجوب هذه الصحراء طولا وعرضا. الآن الباص أخذ عنه حمل الركاب، والشاحنات أخذت البقية الباقية. وإن لم تعد الإبل تعطى الركوب والحمل، كما كانت في السابق، فهي ما زالت معطاءة في لحمها وضرعها وجلدها وخفها ووبرها. وحتى بولها وبعرها لهما من الفوائد الكثير.

(3)

قال تعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. (سورة الغاشية. الآية 17).

(4)

الجمل حيوان ضخم الجثة، قوي الجسم، له قدرة عجيبة على تحمل المعيشة في الصحراء، حيث ارتفاع درجة الحرارة وقلة الماء والغذاء. له انف مفلطح كبير من الداخل، يقوم بعمل المكثف، فيكثف بخار الماء الخارج مع هواء الزفير، فيخرج ثاني أكسيد الكربون ويتكثف بخار الماء، وبذلك يحول دون خروجه، فهو الحيوان الوحيد الذي يستعيد الماء الموجود في الهواء الذي يتنفسه.

لا يعرق الجمل إلا إذا ارتفعت درجة حرارة الجو المحيط به إلى اثـنـتـين وأربعين درجة، أما الحرارة الزائدة فتفقد أثناء الليل. للجمل القدرة على شرب ماء البحر، حيث أن الكلى عنده تتخلص من الأملاح الزائدة. وهو يشرب بغزارة حوالي ثمانية عشر لتر ماء إذا عطش دون أن تتأثر كرات الدم، لأنها خلقت بيضاوية، ولم تخلق كروية كسائر الكائنات، فعندما تمتلئ كرات الدم بالماء تنتفخ وتصبح كروية دون أن تنفجر. يحتفظ الجمل بالبول في المثانة طالما هو في حاجة إلى الماء حيث يمتص الدم الماء والبول مره أخرى. يتحمل فقدان الماء بنسبة ثلاثين في المئة، في حين باقي الكائنات الحية تهلك إذا فقدت الماء بنسبة عشرين في المئة. خـف الجمـل مخزن للماء، ووسادة تساعده في السير في الصحراء.

للجمل أذن صغيرة غزيرة الشعر حتى لا يتعرض لضرر رمال الصحراء، وله عين كبيرة مزودة بصفين من الرموش الطويلة للوقاية من الحصى والرمال المتطايرة. يختزن الدهون في السنام ليقوم بحرقها خلال عملية التنفس، حيث تتحول الدهون إلى طاقة تمده باحتياجاته في فترة الحرمان من الطعام. الدهون تحتوي على طاقة أعلى بكثير من الطاقة المخزونة في الكربوهيدرات.

(5)

الباص يواصل رحلته الطويلة عبر الصحراء، والركاب بعضهم مسترخ وبعضهم الآخر راح في سبات عميق. يلاحظ جاره في الكنبة المجاورة ما يدونه في الأوراق بقلم الرصاص من ملاحظات. يستبد به الفضول. يسأله:

"ماذا تكتب؟"

يجيب بأنه يكتب عن حيوان هذه الصحراء.

قال جاره: "هذا الجمل عجيب. لا يمكن التنبؤ بما يفعل. يمكنك أن تشاهد هذا الفيديو لتدرك سلوك الجمل الغريب."

قالها وهو يضحك ثم أردف: "انتظر." وأخذ يعبث بمفاتيح هاتفه الجوال يبحث عن شريط الفيديو المسجل. فتحه وأعطاه الجوال.

فلم الفيديو كان يصور مشهد عراك شرس بين جملين كبيرين. جمع من الناس تجمهر حول الجملين المتعاركين. كانت هنالك ثلاث مجموعات من المتجمهرين:

المجموعة الأولى: مجموعة الملوحين.

المجموعة الثانية: مجموعة المصورين.

المجموعة الثالثة: مجموعة المتفرجين.

مجموعة الملوحين تلوح من بعيد بالأيدي وبما تحمل من قطر وشومخات وعقالات لوقف العراك بإخافة الجملين بالتلويح والصياح.

مجموعة المصورين أخذت تصور المعركة بكاميرات الجوالات.

المجموعة الأخيرة اكتفت بالفرجة والضحك.

وحده الراعي دخل بين الجملين بعنترية محاولا فض الاشتباك. استمر الحال لبعض الوقت. ناس تلوح وتصيح من بعيد، وآخرون يصورون الحدث، والبقية يمارسون الفرجة على الجملين المتعاركين والراعي الذي يحاول الدخول وسطهما ليفرقهما عن بعضهما البعض، والجملان يواصلان العراك.

فجأة توقف الجملان عن عراكهما وانقلبا معا على الراعي في عراك ضار وبشراسة أكثر من الأول، ضربا بالأرجل. وبركا بالركب والصدور على جسد الراعي الملقى على الأرض وسط الجمع الغفير.

لم تنجح المجموعة الأولى – مجموعة الملوحين – في انتزاع الجسد المسجى على الأرض، كقطعة قماش قديمة بالية وسط الغبار المثار بالأرجل، أو إبعاد الجملين عنه.

المجموعة الثانية – مجموعة حملة الجوالات ذات الكاميرات – لم تفد القتيل في شيء. رغم تصويرها للمأساة في فيلم فيديو على الجوال قابل للتداول.

وحدها المجموعة الثالثة – مجموعة المتفرجين – نجحت في ألا تفعل شيئا أكثر من ممارسة دورها بالكامل: الفرجة والقهقهة. الفرجة والقهقهة على مأساة الآخر.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007     A بقادي الحاج أحمد     C 0 تعليقات