عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » أرشيف الأعداد الفصلية: 2016- » أعداد السنة 12 » العدد الفصلي 06: خريف 2017 » تطوّر دلالة المكان في الشّعر العربيّ الحديث

د. نجود هاشم الربيعي - السويد

تطوّر دلالة المكان في الشّعر العربيّ الحديث


كان الحديث عن المكان في الشعر العربيّ القديم، يبيّن لنا الضغط العاطفي والوجداني الذي يضغط به المكان على مخيلة الشعراء القدامى. ونتج عن هذا الضغط، أن اكتسب المكان دلالة رمزية بعد شحنه بمعان ذاتيّة تعبّر عن أحاسيس الحبّ والوفاء والولاء للمكان بوصفه جزءا من هوية القبيلة أو الأمة. ولذلك، شخّصوا المكان وكافة الموجودات الجماد وضخّوا فيها دماء الحياة لتتمتع بحيوية البقاء والخلود. يحاول هذا البحث أنْ يجيب عن سؤال يتعلق بتطور مفهوم المكان في القصيدة العربية الحديثة. وهذا الجواب له أهمية خاصة بسبب الحضور الكثيف للمكان في النصّ الشعريّ، وإنّ رصْد هذا التطور يضيء جانبا من جوانب التمثيل الرمزي للمكان.

لقد أنتجتْ مخيلة الشعراء القدماء، صورا عن المكان يندر أنْ تجد لها مثيلا في الآداب العالمية، ولذلك استجاد المستشرقون المقطع الطلليّ في شعرنا القديم وحرصوا على ترجمته إلى لغاتـهم لما فيه من إشارات تفصح عن الطبيعة العقلية والروحية للعرب في ذلك الوقت. والمقطع الطللي تزدحم فيه العواطف والذكريات ويحضر فيه الشخوص والأحداث كما لو أنها تتحرك أمام ناظري الشاعر. فالطلل هو المكان بعينه، وحضور المكان ليس حضورا مجرّدا وإنما هو حضور لقيم أخرى تتعلق بالإنسان والحيوان والحياة والموت والحبّ الذي يمثل صورة أوليّة من صور حبّ الوطن. وقد تحول الحديث عن الأطلال في الشعر الجاهليّ إلى التزام صارم حتى صار أحد الخصائص الفنية للقصيدة الجاهلية، لكنّ هذا الالتزام تعرّض إلى نقد من بعض الشعراء العباسيين وفي مقدمتهم أبو نواس الذي طالب بجعل الحديث عن الخمرة بديلا عن ذكر الأطلال[1]. وقد اتخذ أبو نواس نقده لتقليد الوقوف على الأطلال محورا للتجديد الشعريّ، فقال بسخرية:

قلْ لمن يبكي على رسم درسْ = = واقفا، ما ضرّ لو كان جلسْ[2]

ففي ذلك سخرية واضحة من "الأسلوب القديم، لا من التراث ولا من اللغة، وهي سخرية تنطوي على إشارة خبيثة في (ما ضرّ لو كان جلسْ) لأنّ العربيّ البدويّ لا يجلس إلا لقضاء حاجته كما يقول الفقهاء"[3].

أو في قوله:

عاج الشقيّ على رسم يسائله = = وعجت أسأل عن خمارة البلد[4]

حيث يستبدل شغف الجاهلي بالوقوف على الأطلال بالشغف بالخمرة والبحث عن خماراتـها وطريقة تناولها. ولذلك فإن أبا نواس على وعي بضرورة التجديد، فالخروج على "الأسلوب القديم لا يعني الجهل به أو إلغاءه إطلاقا"[5].

وهذا يبيّن لنا الفرق الحضاري بين المرحلتين حيث الرمال وبقايا الديار والقفار المترامية الأطراف هي التي تلهم الشاعر وهي كلّ ما تقع عيناه عليه، على حين عاش الشاعر العباسيّ في بيئة تشيّد القصور ودور اللهو كالخمّارات وغيرها، وتقع عيناه على جميع المباهج التي لم تألفْها الحياة العربية في الجاهلية. وقد تناول مؤرخو الأدب والنقاد قديما وحديثا هذا الموضوع حتى أشبعوه درسا وجعلوه إرثا فنيا خاصا بالقصيدة الجاهلية، لكنّ الشعر العربيّ الحديث استعاده وبعثه ثانية في النصف الأول من القرن العشرين على يد عدد من الشعراء من أمثال: علي محمود طه المهندس وإبراهيم ناجي وغيرهم. وتعدّ قصيدة إبراهيم ناجي (العودة) نموذجا لهذه الاستعادة، فهي تستعيد المكان رمزيا وما جرى فيه من ذكريات استعادة فيها قدسية روحية تقترب من الحسّ الصوفي، فأطلال إبراهيم ناجي تختلف عن الطلل الجاهلي الذي كان دائما طللا دارسا، ويكثر فيه بعر الآرام، في حين أن إبراهيم ناجي خاطب المكان المهجور من الناس ولم يكنْ بالضرورة طللا دارسا، وأضفى عليه لونا قدسيا بأنْ جعله (كعبة) في التمثيل على طواف الشاعر حوله وارتباطه المقدس ببقايا هذا المكان الذي تحضر فيه روح موصوفة بالحسن والجمال:

هـذه الكعبــة كنـّا طائفيهــا = = والمصلّين صباحا ومساء

كم سجدْنا وعبدْنا الحسن فيها = = كيف بالله رجعنا غرباء[6]

وتتضمن الأطلال في شعر إبراهيم ناجي عنصريْ المكان والزمان مندمجين معا، وما فيهما من علاقات إنسانية سابقة يجري استحضارها في مقطع استعادة المكان. ويجب أن نفرّق بين الطلل القديم وطلل إبراهيم ناجي، فالطلل الجاهلي هو طلل حقيقي تراه العين رؤية حسيّة مباشرة، أما طلل إبراهيم ناجي فهو طلل مجازي يطلقه على المكان الحامل للذكريات القديمة.

ولم تكنْ موضوعة الأطلال غريبة على الشعر العربيّ القديم، فقد كانتْ إحدى مزايا القصيدة العربية، والتزم بها الشعراء منذ عصر ما قبل الإسلام حتى العصر العباسي عندما تمرّد بعض الشعراء العباسيين وفي مقدمتهم أبو نواس على هذا الالتزام كما ذكرنا، وجعلوا مطلع القصيدة حرا يقرره الشاعر في لحظة الانفعال الشعريّ لكلّ قصيدة. لكنّ رجوع إبراهيم ناجي إلى إحياء هذه الخاصية الفنيّة في القرن العشرين، لا تعني أنه كان تقليديا ولم يجددْ في هذا الاستعمال. ومن أجل هذا التجديد تخلّص إبراهيم ناجي من الذكر النمطيّ للأماكن الدارسة في الشعر الجاهلي، وحاول أن يجعل المكان أكثر حركية بأن يتصور الأحداث الماضية وكأنها تجري على نحو حيّ ومتزامن مع لحظة النظم الشعريّ:

دار أحلامـــي وحبــــــي لقيتْنـــــا = = في جمود مثلما تلْقى الجديدْ

أنكرتْنا وهي كانتْ إنْ رأتْنا = = يضحك النور إلينا من بعيدْ[7]

فهذا الأسلوب الشعريّ يدمج الحالتين السابقة والحاضرة للدار في لحظة شعورية واحدة، فالإحساس هو الذي يشكّل الهيأة الجديدة للمكان، وليست حالته الحقيقية، بل الاندماج بين التخيل والحقيقة هو الذي يصنع بلاغة الأسلوب في حركيّة المكان. ووصف المكان في النصّ السابق وغيره، يكشف عن الحالة الوجدانية للشاعر أكثر مما يكشف عن حقيقة المكان وطبيعته، فالشاعر اتخذ المكان مرآة تعكس حالته وتوتره الداخلي. وبطريقة شعرية يخلق تقابلا بينه وبين الطلل (أو هذا الطلل العابس أنت؟)، ويجعل من صورة الطلل استعارة تعبّر عن صورته وتأثره النفسي أمام الطلل الذي يختزن حياة سابقة كاملة:

آه مما صنع الدهر بنا = = أو هذا الطلل العابس أنت؟

والخيال المطرق الرأس أنا = = شدّ ما بتْنا الضنك وبتّ[8]

الشاعر إبراهيم ناجيوإبراهيم ناجي أكثر وعيا من الشاعر الجاهلي بتأثيرات الزمن على المكان وعلى المستعيد لذكرياته، فهو يعبّر عن فعل الزمن نصيّا بتجسيمه واستعارة أعضاء الكائن الحيّ له:

وأنا أسمع أقدام الزمنْ = = وخطى الوحدة فوق الدرج[9]

والتجسيم هنا، يبرز قوة الزمن وفعله المؤثر في المكان من نحو قوله:

وأناخ الليل فيه وجثمْ = = وجرتْ أشباحه في بهوه[10]

فهو يوظّف في صورة الليل بالبيت السابق صورة الليل عند امرئ القيس ليبيّن الوقع الشديد للزمن وثقله وسكونه في لحظات شعورية معينة:

وليل كموج البحر أرخى سدوله = = عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلْت له لما تمطّى بجوزه = = وأردف أعجازا وناء بكلْكل[11]

وفي قصيدة (يا دار هند) يرتجي الشاعر أيّ شيء أنْ يقوم بإخباره عن غياب الأحبة والأصحاب، حاله حال عنترة الذي خاطب دار عبلة:

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي = = وعمي صباحا دار عبلة واسلمي[12]

فإنّ إبراهيم ناجي يرتجي الدار العجماء أن تخبره عن غياب هند:

يا دار هنـــــــد إن أذنت تكلمـــي = = يا دارهـــا عيشي لهنـــد واسلمي

فدمي الفداء لحبّ هند وحدها = = وأنا المقصّر إن بذلت لها دمي

ولقد حلفت لها ودمعي شاهد = = أني فنيت علمت أم لم تعلمي[13]

وفي زمن إبراهيم ناجي الذي كان يفتقر إلى وسائل التواصل الحديثة، كان المرور على ديار الأحبة هو الوسيلة المعتادة لمعرفة الأخبار أو التذكّر والتأسّي. وعندما أراد الشاعر أن يعبر عن ذلك شعريا استعان بالتراث الشعريّ لدى العرب الغني بقصائد الديار والبقايا والأطلال وغير ذلك من بقايا الأحبة مما يثير الشجن في النفوس، فاتخذه وسيلة من وسائل إثارة العواطف وشحذ المخيلة. ومع ذلك فإنّ درجة المطابقة بين النصّ والواقع تبدو كبيرة لاسيما أنه لم يعتمد الرموز والأساطير لصياغة فكرته عن المكان، وإنما عبّر عن ذلك بشكل مباشر.

وفي النصوص التي كتبها ناجي حول المكان كان غالبا ما يشرك (المخاطب الحي) في المناجاة الشعرية:

اسقني واشربْ على أطلاله = = وارو عنّي طالما الدمع روى[14]

فهذا الأسلوب، أكثر تأثيرا، لأنه يشرك القارئ في الحالة الوجدانية ويجعله جزءا من بنية النصّ اللسانية. وفي حالات أخرى، يوسّع دائرة المناجاة عن طريق الاستعانة بـ (المخاطب الجماد):

يا رياحا ليس يهدأ عصفها = = نضب الزيت ومصباحي انطفا[15]

وعلى هذا الأساس فإنّ الأطلال في شعر إبراهيم ناجي تتضمن عنصري: المكان والزمان، وما يحضر فيهما من علاقات إنسانيّة سابقة يجري استحضارها واستعادتها بالأساليب البلاغية الشعرية التقليدية.

وعلى الرغم من تأثيرات تلك البلاغة المكانية من التراث الشعريّ الجاهلي:

قفْ يا فؤاد على المنازل ساعا = = فهنا الشباب على الأحبّة ضاعا[16]

فإنّ التزامه، كما يبدو هنا، بعادة الوقوف والاستيقاف ومحاولته إحياء هذا الأسلوب الشعري الجاهلي في القرن العشرين، لا يعني أنه لم يجددْ في هذا الاستعمال. فهو لا يستغرق في المكان الطلل إلا ليبثّ من خلاله عواطفه الداخلية، أو بالأحرى يتّخذه مجرد وسيلة قادرة على إثارة المعاني والصور في نفسه. ولعلّه قام بعملية الإحياء هذه لأنّه أحسّ أن الطريقة التي استعمل بها شعراء الجاهلية موضوع الأطلال كان لها تأثير كبير في المتلقي في ذلك العصر. ولذلك أراد أن يحيي هذا الأسلوب ليؤثر في المتلقي ويظهر تأثير الزمان والمكان في الإنسان وحياته ونظرته إلى الكون. وهذه محاولة مهمة من شاعر معاصر يحاول أن يبني قصيدته على أساس من التراث الشعري العربي القديم، ويجعل لغته وأسلوبه منسلّين من ذلك التراث.

وإذا كان حضور المكان في شعر إبراهيم ناجي، يمثّل أسلوبا في الكتابة الرومانسية، فإنّ النصّ الشعري عند السياب يتحرر في معظم الأحيان من النزعة الرومانسية الموغلة في الذاتية إلى آفاق أرحب، تعبّر عن أزمة وجودية وإنسانية تمتزج بالانفعالات النفسية العميقة للشاعر في لحظة معينة. وهكذا كان حضور المكان في قصيدة السيّاب حضورا كثيفا. ففي قصيدة (القرية الظلماء) تستحضر الذكريات عن طريق ظلال الصوت أو بقاياه (الصدى) الذي يتمثل الأجواء القديمة وما تحمله من ذكريات ذات حضور وجدانيّ كثيف:

القرية الظلماء خاوية المعابر والدروب

تتجاوب الأصداء فيها مثل أيام الخريف

جوفاء... في بطء تذوب

واستيقظ الموتى.. هناك على التلال، على التلال

الريح تعول في الحقول. وينصتون إلى الحفيف

يتطلعون إلى الهلال

في آخر الليل الثقيل.. ويرجعون إلى القبور

يتساءلون متى النشور!

والآن تقرع في المدينة ساعة البرج الوحيد.

لكنني في القرية الظلماء.. في الغاب البعيد[17].

وإذا كان النصّ الشعري عند إبراهيم ناجي، زاخرا بالصور الرومانسية ويمثّل مرحلة غنيّة بالصور والتمثلات الرومانسية في الشعر العربيّ كما ذكرنا، فإنّ نصّ السياب أكثر تمثيلا للأحاسيس الوجودية التي تتحسّس مشكلة المصير الإنسانيّ في رحلة الحياة. فالصورة التي رسمها للقرية، هي في الحقيقة صورة للقبر ولعالم الموت من حيث الظلمة والخواء، وهي جوفاء تتجاوب فيها الأصداء وتلعب بها الريح. فقدْ أمعن السياب في رسم صورة قاتمة للقرية شبيهة بصورة القبر، والناس فيها مجرد أشباح، كأنّ السياب يتحدث واصفا مصير الإنسان ومصيره وليس مصير القرية. فالشعور بالخواء وهو شعور وجوديّ بالعدم، لا يتعلق بالحالة الموضوعية والخارجية للمكان وإنّـما هو شعور داخليّ للسياب أسقطه على القرية.

إنّ استعمال المكان وتوظيفه في الشعر، ليس استعمالا عاديا، وإنّـما هو استعمال رمزيّ لمعان يريد الشاعر تمريرها. فالبياتي مثلا، يصوّر قريته على غير ما صوّر السياب قريته. فالبياتي، يجعلها جزءا من دائرة سياسيّة فاسدة، حيث تفقد القرية خصوصيتها المكانية الضيقة للتحوّل إلى رمز كلّي يشمل العراق كلّه:

وهناك عبر الحقل، أكواخ تنام وتستفيقْ

عبر الطريق

بشر ينام ويستفيق

بشر ينام مع الدواب السائبات على سواءْ

ما دام ينعم بالثراء

ابن السماء

"العمدة" الموهوب، والخبز العريق

حلم الملايين الجياع من الرقيق

ولم الشهيق؟

الخبز تنضجه السياط الداميات لم الشهيق؟[18]

فالقرية التي يتحدث عنها البياتي، قرية عامة قد تكون في صعيد مصر أو العراق أو في أيّ مكان في العالم، يخضع فيه الإنسان إلى سيّد قاس. فهذا الإنسان رمز لواقع مسحوق، والسيد رمز للسلطة المتجبرة والقمعية.

إنّ وظيفة الوصف هي قدرته على التجسيم والتمثيل ومزج الانفعال الداخلي بالخارجي، وهو كما يقول قدامة بن جعفر: "ذكر الشيء كما فيه من الأحوال والهيئات ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركّبة من ضروب المعاني كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها ثم بأظهرها فيه وأولاها حتى يحكيه بشعره ويمثله للحسّ بنعته[19]. والسياب بارع في تصوير المعاني المركبة على نحو ما مرّ بنا حيث مزج ما بين الحالة الانفعالية له وما يشعر به تجاه المكان والحالة الخارجية التي تتمثل في المكان الموضوعيّ، حيث تتحول الكتابة الشعرية إلى كتابة للذات وقدرة على التعامل مع كلّ ما هو خارجي على أنه جزء مما هو داخلي.

بدر شاكر السيابوقد حرّر السياب اقتران المكان بالمشاعر الرومانسية الصرفة، بأنْ منحه دلالة رمزية عن طريق اقترانه بالأسطورة:

شباك وفيقة في القرية

نشوان يطل على الساحة

(كجليل تنتظر المشية

ويسوع) وينشر ألواحهْ

إيكار يمسّح بالشمس

ريشات النسر وينطلق

إيكار تلفقه الأفق

ورماه إلى اللجج الرمس

شباك وفيقة يا شجرهْ

تتنفس في الغبش الصاحي

الأعين عندك منتظرة[20]

واستعمال الأسطورة هنا، يقوم بوظيفة أسْطرة المكان الحقيقي وجعله مكانا خالدا في الزمان. فقدْ استعان بالأساطير القديمة والأساطير الدينية لتحرير (وفيقة) من سجن القبر ومتاهته. فتصنع لها أجنحة مثل أجنحة إيكار وتطير بعيدا عن متاهة الموت، لكنّ الوعي يعيده إلى الحقيقة الأزلية وهي استحالة الخلاص، مثلما استحال على إيكار ذلك الذي طار بأجنحة مصنوعة من الشمع لكنّها سرعان ما أذابتها حرارة الشمس فسقط ومات[21]. فخلاص وفيقة من سجنها يحتاج إلى معجزات الجليل أو يسوع الناصري التي اشتهر بها وهي تحويل الماء إلى خمر وشفاء المرضى. فإذا كان المكان/الطلل عند إبراهيم ناجي هو مكان تجاوزه الزمن وقضى عليه، فإنه في شعر السياب يصارع الفناء والاندثار بمحاولة بعثه مرّة أخرى. وهذا المعنى، لا يمكن تحقيقه إلا بمعجزة، وليس أقدر على ذلك غير الأساطير القديمة ومعجزات الأديان. وهذا تطور في الرؤية الشعرية للمكان، فبعد أنْ كان طللا دارسا لا يحمل سوى ذكريات الماضي، فإنّ الرؤية الشعرية للمكان في مرحلة السياب كانت تعيد خلق المكان بالتصور الرمزي وبالأساطير لمنحه حركية متواصلة. وفي معظم الأحيان، يشحن المكان بدلالة سياسية:

يقول رفيقي السكران: دعها تأكل الموتى

مدينتنا لتكبر، تحضن الأحياء، تسقينا

شرابا من حدائق برسفون، تعلّنا حتى

تدور جماجم الأموات من سكر مشى فينا[22].

فمدينة السياب، لا تنمو نموا طبيعيا، وإنما تنمو وتكبر بالتهام الموتى والاتساع بالمقابر وليس بالعمران. فانتشار الموتى والتهامه المدينة، هو نقد سياسيّ مبطن لهذا الموت السياسي بالقتل المباشر أو السجن والقمع والتعذيب أو بالفقر والإهمال والأحوال الاجتماعية السيئة. فالسياب يدين في هذه القصيدة مرحلة الستينيات السياسية وما رافقها من أحداث سياسية، فاتخذ مقبرة أم البروم واتساعها مناسبة لنقد النظام السياسيّ في عراق الستينيات.

ومع ذلك فالمكان، يكتسب دلالة إنسانية عندما يكون وعاء لذكريات الطفولة والصبا:

مطفأة هي النوافذ الكثار

وباب جدي موصد وبيته انتظار

وأطرق الباب، فمن يجيب، يفتح؟

تجيبني الطفولة، الشباب منذ صار،

تجيبني الجرار جفّ ماؤها، فليس تنضح

"بويب" غير أنها تذرذر بالغبار[23].

فالسياب هنا كأنه يرثي جدّه ممتزجا بالمكان، فهذا الجدّ الذي كانت حياته الاجتماعية في ذروة نشاطها في إدارة شؤون البيت الكبير وما فيه من حركة ونشاط وعلاقات ومرح الأحفاد والأولاد، وما يستقبله فيه من زوار، هو مكان متسع سعة الحياة نفسها، لكنّه تحوّل إلى مكان موحش مطفأة أنواره وموصدة أبوابه وجافة جراره. فالسياب يصوّر حكم الزمن في المكان:

أهكذا السنون تذهب

أهكذا الحياة تنضب؟

أحس أنني أذوب، أتعب،

أموت كالشجر[24].

لقد بيّنتْ لنا النصوص السابقة، أن استعمال المكان في الشعر العربي، مرّ بمراحل وانتقالات، فهو في القصيدة الجاهلية كان إشارة إلى نمط الحياة الماضية التي كان يحفل بها المكان، فهو على الرغم من دلالته الإنسانية إلا أنه بقي مناسبة للوقوف والاستيقاف ومناسبة للبكاء والاستبكاء. لكنه في الشعر الحديث ولاسيّما لدى شعراء المدرسة الإحيائية كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، كان يتّخذ مناسبة للاعتبار من حكم الزمن وتقلبات الدهر. أما في شعر المدرسة الرومانسية في الشعر العربي، عند إبراهيم ناجي على وجه الخصوص الذي اتخذناه مثالا تطبيقيا، فقد كان مكانا مشحونا بالأحاسيس والانفعالات والأفكار الرومانسية والمشاعر الذاتية. أما الشعر المعاصر ولاسيما عند السياب وشعراء مدرسة الشعر الحرّ، فقد امتزج الذاتيّ بالموضوعيّ والداخليّ بالخارجيّ بشكل واضح.

= = =

الهوامش

[1] محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1984، ص 59.

[2] ديوان أبي نؤاس، حققه وضبطه وشرحه: أحمد عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت، ص 134.

[3] عبد الواحد لؤلؤة، مدائن الوهم، دار رياض الريّس، ط 1، بيروت 2002، ص 19.

[4] ديوان ابي نواس ص 46.

[5] عبد الواحد لؤلؤة، مدائن الوهم ص 19.

[6] شعر إبراهيم ناجي ، الأعمال الكاملة، دار الشروق، ط 3، 1988، ص 14.

[7] المصدر نفسه ص 14.

[8] المصدر نفسه ص 15.

[9] المصدر نفسه، ص 16.

[10] المصدر نفسه، ص 16.

[11] ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط 5، مصر، د،ت، ص 18.

[12] شرح ديوان عنترة، الخطيب التبريزي، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه مجيد طراد، دار الكتاب العربي، ط 1، بيروت، 1992، ص 148.

[13] شعر إبراهيم ناجي، الأعمال الكاملة، ص 130.

[14] المصدر نفسه، ص 33.

[15] المصدر نفسه، ص 34.

[16] المصدر نفسه، ص 103.

[17] بدر شاكر السياب، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، 2000، مج 1، ص 94، 95.

[18] ديوان عبد الوهاب البياتي، دار العودة، ط 4، بيروت، 1990، مج 1، ص 168، 169.

[19] قدامة بن جعفر ،نقد الشعر، تحقيق وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، ص 130.

[20] بدر شاكر السياب، الأعمال الشعرية الكاملة ، مج 1، ص 117، 118.

[21] معجم أعلام الأساطير والخرافات، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، 1999، ص 85.

[22] بدر شاكر السياب ،الأعمال الشعرية الكاملة، مج 1، ص 131.

[23] المصدر نفسه، ص 143.

[24] المصدر نفسه، ص 148.

= = =

قائمة المصادر والمراجع

إبراهيم ناجي ، شعر إبراهيم ناجي، الأعمال الكاملة، دار الشروق، ط 3، 1988.

بدر شاكر السياب ،الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، 2000، مج 1.

الخطيب التبريزي، شرح ديوان عنترة، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه مجيد طراد، دار الكتاب العربي، ط 1، بيروت، 1992.

ديوان ابي نواس، حققه وضبطه وشرحه أحمد عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي بيروت، لبنان، دت.

ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط 5، مصر، دت.

ديوان عبد الوهاب البياتي، دار العودة، ط 4، بيروت، 1990.

طلال حرب، معجم أعلام الأساطير والخرافات، دار الكتب العلمية، ط1 ، بيروت، 1999.

عبد الواحد لؤلؤة، مدائن الوهم، دار رياض الريّس، ط 1، بيروت 2002.

قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحقيق وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.

محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1984.

JPEG - 15.9 كيليبايت
يافطة عود الند العدد الفصلي السادس
D 1 أيلول (سبتمبر) 2017     A نجود الربيعي     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • هنيئا بهذالعدد الجديد من مجلة عود الند.ذكرني هذا المقال الجميل، والخاص بدلالة المكان في الشعر العربي الحديث،بما قاله الشاعر العظيم " الشريف الرضي"في حجازياته:
    ولقد وقفت على ديارهم وطلولها بيد البلى نهب
    فوقفت حتى ضج من لغب نضوي ولج بعذلي الركب
    وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب
    ألا ترون سيدي أن الشريف الرضي كان بارعا عندم استعمل المكان في وصفه الحسي والمجازي في هذه الأبيات.
    فإذا كان شكل المكان اختلفت ملامحه عبر الأزمنة ، فالذي لم يختلف
    هو درجة نبوغ الشعراءفيما بينهم .فالشاعر الفذ ـ في أي عصر كان
    هو الذي يحسن استعمال المكان للتعبير عما يلج في خاطره. بوركت سيدي.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 06: هبّة القدس 2017

صلاح الدين الأيوبي في مرآة أمل دنقل الشعرية

الفونيم والمورفيم عند علماء مدرسة براغ

مبادرة خطوات نَحْوَ التَّمَيُّز: إرشادات

صلاة جمعة رمضانية في الأقصى الأسير