عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. سمير كتّاني - فلسطين

بين فكّي الكمّاشة


سمير كتانيعندَما تفاقمت إصابة إحدى أسناني بالتسوّسِ، عرفت مقدار ما تضمره لي من كره وحقد، فقد كانتْ شديدة اللّؤم، تلحّ عليّ بشديد الألم في الأوقات الحرجة، وقدْ بلغ بها الخبث أن لا تختار إلاّ وقت نومي فتطلق سهام الألم عميقة إلى داخل فكّي، أوْ وقت استمتاعي بوجبة سكّريّة لذيذة تطلبها نفسي. وكثيرا ما كانت هذه السنّ تقضّ مضجعي وتؤرِّق نومي، فلا أتركُ مسكّنا إلاّ استخدمتُه، ولا كمّادة إلاّ ودثّرت خدّي بها.

وما كانَ يزيدُ في حنقي من هذه السنّ أنّها كانت تسكن في النهار تتربّص بيَ الدوائر، حتّى إذا أسدل اللّيل ستائره، ولبست بيجامتي، (ولبس أطبّاء الأسنان بيجاماتهم)، واندسَّ الصيادلةُ في أسرّتِهم آمنين، أطلقت السنّ صافرات الإنذار، وصارت تنهش روحي بعضّاتها العنيفة الّتي لا ترحم ضعيفا ولا تراعي لطيفا. وكنت أقضي ليلي متحفّزا ومتوثّبا أنتظر طلوع الشمس من مشرقها حتّى أذهب إلى عيادة طبيب الأسنان.

بيد أنّي كنت لا أمقت شيئا بقدر ما أمقت أطبّاء الأسنان، فكان مقتي لهؤلاء ولعياداتِهِم مقتا خاصّا، فأنا لا أطيق ذكرهم وكلّ ما له علاقة بهم. ولهذا، فما أن يبزغ نور النّهار حتّى تأخذ السّنّ في السّكون، ثمَّ في الوداعة، فتدخل في حالة من الهدوء العجيب والتركيز الغريب، وكأنّها تمارس فنّ "اليوغا"، فلا أعود أسمع لها حسّا، ولا أكاد أدرك لها وجودا. وبسبب اجتماع سكون السنّ وهدوء "أخلاقها" طيلة النّهار، وهلعي من زيارة عيادة طبيب الأسنان، كنت أرجئ علاج السّنّ لليوم التّالي سعيدا، وكأنّ همّا انزاح عن صدري.

وكنت أكرّر هذا التأجيل في كلّ مرّة أصمّم فيها على زيارة طبيب الأسنان في الصباح بعد ليلة معاناة شديدة، عندما تبدأ السّنّ في الهدوء والسّكينة. وكنت أؤمِّل في أن تشفى السّنّ دون تدخّل خارجيّ من طبيب.

إلاّ أنّ الوضع صار لا يطاق، ففي إحدى اللّيالي، أسلمتني السّنّ الموجعة إلى نوبات شديدة ومتواصلة من الألم، حتّى آليت على نفسي ألاّ أؤجّل زيارة الطبيب عن صباح الغد، وهذا ما كان.

بادرت الطّبيب إلى عيادته وطلبت منه أَن يعالج سنّي. ففحصها، ثمّ تنهّد قائلا: "للأسف، ليس هناك الكثير ممّا يمكن عمله، لا بدّ من خلع السّنِّ، فالعصب تالف، ولا فائدة من محاولة إصلاحها".

أُصبْت بالذهول، خلع السّنّ مرّة واحدة؟ ثمّ قلت في نفسي: "لعلّ الخلع يكون على أقساط، أعني دفعات". فسألت الطّبيب متردّدا: "وهل تخلع السّنّ عادة في جلسة واحدة"؟ فضحك وقال: "وهل أقضي شهرا أخلع منها في كلّ يوم منه جزءا"؟

وكدت أسقط مغشيّا عليّ، فأنا لا أطيقُ مجرّدَ التفكيرِ في خلعِ السنِّ، فكيفَ أخضعُ لَهُ برضايَ، وأمشي لهُ على قدميَّ، وفوق كلّ هذا تخلع السّنّ خلعا كاملا في جلسة واحدة، يعني أن يُقضى عليها قضاء مبرما؟

ما كان منّي إلاّ أن رجوت الطّبيب كلّ الرّجاء ألاّ يألو جهدا في استخدام الوسائل الأقلّ وحشيّة وعنفا للتّعامل مع سنّي، رغم ما أكنّه من بغض لها، لكنّي لا أدري لم هبطت عليّ الرّحمة بالسّنِّ فجأة، وكأنّي أتمنّى أنْ تخفّف من عدوانها فأبقي عليها دون أن أخلعها ونعود خليلين وفيّيْن نصبر على عوادي الأيّام. وهنا بدأت أوقن من أنّ السّنّ لم تعد تؤلمُني بتاتا. تساءلْت أين اختفى الألم؟

وكمْ تمنّيْتُ أنْ يعاودني الألم الآن حتّى أريح ضميري المعذّب الّذي راح يعنّفني على "التّفريطِ" بسنّي. ليت سنّي تؤلمني لأرتاح وأقتنع بأن لا مناص من "تسريحها" من العمل بعد سنوات طوال من الخدمة في قضم الجوز واللّوز، وفي خضْم البطّيخ والخيار. ولو لم تقطع السّنّ حبل الوداد لكنت من الحافظين لعهدها، البارّين بإحسانها، وأنا لم أكن لأجلس هذه الجلسة المرعبة في مقعد العيادة البغيض، الّذي يشبه كرسيّ الإعدام الكهربائيّ.

تلقّيت طعنة مؤلمة من حقنة التّخدير، وما هي إلاّ دقائق قليلة حتّى تهدّلت شفتاي، وتجمّد لساني، وتحجّر فكّي، وشعرْت كأنّ خدّي كرة في حجم بطّيخة أو أكبر. يا اللهُ!

تقدّم الطبيب بكمّاشة صغيرة من فمي، فأُصبْت بالهلع، أردت أن أتكلّم وأقول للطّبيب بأنّي غيّرت رأيي وقرّرت أن أبقي على سنّي لأمنحها فرصة للتّحسّن، فأشرت إليه بيدي، فتراجع بكمّاشته قليلا إلى الوراء نافد الصّبر، وحاولت أن أفتح فمي إلاّ أنّي لم أقو على ذلك، يبدو أنّ الخبيث زاد من جرعة البنج فشلّ فكّيّ تماما. ولم أستطع التّحدّث والتّصريح بما يدور في نفسي، ويبدو أنّي استغرقت من وقته الكثير وهو ينتظر منّي أن أقول جملة مفيدة، ولهذا، لم يسمح لي بالمزيد من محاولات الكلام، فقال: "لا تخش شيئا، أنا فقط سأحرّك سنّك قليلا، ثمّ نرى ما يمكن فعله".

وتجالدت متظاهرا بالاحتمال والجرأة، وشعرْت به يعمل كمّاشته المعدنيّة في سنّي الّتي لم تعد تؤلمني، لكنّ الكمّاشة كانت تقلقل فكّي كلّه بشدّة.

وأخيرا، انتهت المعمعة، فوجدتني مسرعا إلى الإشارة بيدي لأتكلّم، فدسّ في فمي حفنة منَ القطن الكثيف وأمرني أن أعضّ عليها بالنّواجذ، ولما رآني مصرّا على الكلام، نزع القطن من فمي وسأل: "ما الأمر"؟ قلت بصعوبة: "قرّرت أن أمهل السّنّ حتّى يوم غد، فلربّما تتحسّن". فقهقه بصوت عالٍ، ورفع يده اليمنى وقد صارت السنُّ في يده، بعد أن انتزعها مباشرة، أراني إيّاها مضرّجة بالدّم.

عدْتُ إلى بيتي في ذلكَ اليومِ، وبدأَ ألمُ الخلعِ يتزايدُ، فعمدْتُ إلى المسكّناتِ، وكانَ هذا حالي طوالَ تلكَ اللّيلةِ.

رحم اللهُ سنّي، فإنّ لها وحشة.

D 25 آذار (مارس) 2015     A سمير كتاني     C 1 تعليقات