عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 103: 2015/01 » الكرم واللُّؤْم بيْن الطبْع والتطبّع

د. سمير كتّاني - فلسطين

الكرم واللُّؤْم بيْن الطبْع والتطبّع


سمير كتانيليْس النّاس سواء في مقاديرهمُ العقليّة والفكريّة والنّفسيّة والتّربويّة، فلكلّ منْهُمْ قدْره وقُدُراته، وضعْفه وطباعه، يتقاسمون نصيبهم من الخير والشّرّ، ومن الكرم واللُّؤْم.

الكريم الأصْل يثبت لديْه كرم أصله ونقاء معدنه رغْم تبدُّل الظّروف المؤثّرة فيه، فتراهُ كريما في حالي اليُسر والعسر، سمْحا في الرّخاء والشّدّة، سهْل الخليقة في الرضا والغضب.

أمّا اللّئيم الطّبع فلا يثبت فيه شيء من أحواله بقدر ما يثبت لؤمه، لأنّه هو أصله وجوهر طبعه. ويشمل لؤمه – إلى جانب سرعة غضبه وأنانيّته وبخله– تلوّنه ونفاقه، فلا يقرّ على حال من الكرم والسّماحة وسهولة الخُلُق، إلاّ بقدْر ما يقضي به حاجته من هذه الحال. فإذا تبدّلت الظّروف من حوله رأيته مجاهرا ببخله، مظهرا كلوحة وجهه وضيق خلقه، لا يردعه إيمان ولا يردّه حياء، فالطّبع يغلب التطبّع، وهو لا يستطيع مجاراة تكاليف كرم الأخلاق لأنّها فوق طاقته واحتماله.

ولئام الطّبع من النّاس تجمعهم نفس الحجّة الواهية الّتي يحاولون بها تقوية أسباب سلوكيّاتهم الهشّة، محاولين إخفاء السّبب الحقيقيّ من وراء هذه السّلوكيّات، الّذي هو لؤم طباعهم وفساد جوهرهم، فينسبون سلوكيّاتهم إلى اضطرارهم إلى التّصرّف على النّحو الّذي يتصرّفون، مع أنّهم في رأيهم كرام فضلاء، كانوا محسنين وذوي فضل على النّاس، لكنّهم لم يعودوا، كما كانوا، متسامحين، واسعي الأخلاق، موفوري الحلم، وذلك بدافع تغيّر الظّروف وتبدّل معاملة النّاس لهم من حولهم، وكأنّ أخلاقيّات الكرم والوفاء والشّهامة والسّماحة والعفو لباس بال يخلعه المرء الكريم الأصل باختياره ومحض إرادته! أو كأنّه عادة عارضة لم تتشرّبها نفسه فهو لا يزال يملك لنفسه منها فكاكا! أو قل كأنّما كرم الأخلاق بأشكاله شيء مادّيّ محسوس يكتسبه المرء بسهولة وسرعان ما يفقده.

إنّ كرم الأخلاق بأشكاله: الجود، الصّبر، السّماحة، التّجاوز عن أخطاء الآخرين، التّذلّل لمن وجب له التّذلّل، التّواضع وغيرها، ليس عسلا مصفّى حلو الطّعم، ولا راحة يطمع فيها الأراذل ومن شابههم، إنّما هو مرارة وألم واحتمال لشدة طمعا في رفعة شأن وزيادة قدر ورضا نفس ذات همّة. وقد أحسن من قال:

لا تحسب المجد تمرا أنْت آكلُه = = = لن تبلغ المجْد حتّى تلعق الصّبرا

ومن يتّصف بمثل هذا الطّمع في رفع شأن نفسه ورضاها لا يمكن له الانفكاك عن طبع كرم الأخلاق إذا ما اعتراه ما يعتري النّاس صغار الهمّة من مشاعر الغضب والظّلم والاستياء والخذلان في تعاملهم مع الآخرين. فإنّ مواجهة نُكران الجميل والظّلم والاستياء واحتمال الأذى وغيرها ليست أهون من مرارة المسامحة وألم الجود، فلماذا إذن لا يعود الكريم الأصل كريم أصل؟

ومتى يكون هذا المرء الكريم متسامحا مع المخطئين غافرا للزّلاّت إذا لم يحتمل أذاهم؟ ومتى يكون جوادا إذا لم يكن بذّالا للمال على من يستحقّه وعلى من لا يستحقّه؟ وهل يكون مكرم الضّيْف كريما حقّا إذا أكرم وفادة بعض ضيوفه وضنّ بالقرى على بعضهم الآخر؟ ومتى كان كرم الأخلاق منوطا بمن يكرم لا بمن يكرم؟ أليس هو نابعا من طيب نفس من يصدر عنه هذا الكرم دونما علاقة بمن يكرم؟ فإذا أكرمك امرُؤ فليس الفضل في ذلك لك، وإن علا مقامك، وارتفع شأنك، وزاد فضلك. إنّما يكون الفضل في ذلك للمُكرم لا للمُكرم، فإنّه لو لم يكن المكرم فاضلا لما أنزل النّاس مواضعهم وعرف لهم أقدارهم.

وعندما يكرمك إنسان فعليك الاهتمام بألاّ يقلّ قدرك عن أن تردّ إكرامه لك بأحسن ممّا أكرمك به حتّى تكون مستحقّا للفضْل، حافظا لقدْر نفسك. فإن أكرمك إنسان ولم تكن صاحب فضل ولا مستحقّا للإكرام فإنّ هذا ليعيبك أنت لا هو، ذلك أنّه عامل من هو أدنى منه قدْرا بمستوى من هو أعلى منه، وهو مستواه هو وقدره وطبيعته، لأنّه كريم الأصل.

بعض النّاس يحدّث فرحا بأنّ هناك من أكرمه، ويغلب على هذا الصّْنف من النّاس أن يكون سفيها، ذلك أنّ من العار أن تتباهى بنفسك في كل حال، فكيف تتباهى بأنّك "خضعت" لإكرام غيرك؟ فالأولى أن يتباهى من يكرم الآخرين بحسن صنيعه وكظم غيظه وتحلّمه، وقلّ أن تجد كريم أصل يفعل هذا، وذلك أنّ الإنسان لا يكثر من التّحدّث إلاّ عمّا يعرض له من نوادر الأحداث، وما يستجدّ عليه من غريب الوقائع، وسلوكيّات الكرم ليست أحداثا عارضة يقوم بها، بل هي ملامح من كيانه لا تنفصل عنه، وسجيّة من سجاياه لا تستغرب منه.

وشتّان ما بين من يحدّث بإحسان الآخرين إليه، ظانّا بهذا أنّه يرفع من مقامه في أعين من يستمع إلى حديثه، وبين من يستر إكرامه هُو لغيره وهو لا يخشى بإخفاء إحسانه انتقاص قدره.

عندما يخلص المرء نيّته في الإحسان إلى الآخرين فإنّه يكون محسنا، وإخلاص النّيّة إنّما يكون حين لا يطمع المحسن إلاّ في ارضا ربّه وفي التّقرّب منه وفي التّشبّه بأخلاق الصّالحين، لا حين يطمع في تلقّي إحسان ممّن أحسن إليهم مكافأة وردّا للمعروف.

أبدا، لا يختار الكريم كرمه ولا اللّئيم لؤمه، فهي طباع تشدّ وتجذب أصحابها إليها دون إرادة منهم. فالجواد يجود بالغالي والرّخيص، لا يتوانى عن البذل حتّى لو كان في قلّة من مال أو عتاد. واللّئيم يُعرف بخله في الشّيء الرّخيص الموجود كما في الغالي الممتنع، ذلك أنّ اللّؤم والبخل طبيعة جبل اللّئيم عليها، فلا يختلف سلوكه في كلّ الأحوال. لهذا، كثيرا ما تجد اللّئيم "يمارس" لؤمه على أهله وأبنائه وأصدقائه ، فيضنّ عليهم بالرّخيص كما بالنفيس، يمنّ عليهم بمشاعر الأبوّة والأخوّة وكلّ شيْء، مطالبا إيّاهم دائما بردّ هذه "الجهود" المادّيّة والعاطفيّة وترجمة هذا الرّدّ إلى مادّة وعاطفة! فهو يعتبر مشاعر الأبوّة مثلا معروفا يسديه لأبنائه يطالبهم برده عاجلا غير آجل، وإلاّ حجب هذا "المعروف" عنهم وضنّ به عليهم.

تجد الأب غضوبا لا رحمة في قلبه ولا رأفة، يعامل أبناءه بجفاء وسطوة، يسلّط لسانه عليهم، وقد يستعين بالدّعاء عليهم فيلهب أسماعهم بصواعق من الشّتائم تخرّ لها الجبال. وتجد الأم تتفنّن في الويلات والصّيحات، تدعو ثبورا وتصلي أطفالها سعيرا، تحمّلهم كلّ جريرة وخطيئة، تذنّبهم على أنّهم سبب شقائها وسرّ عذابها، وأنّهم لا يستحقّون منها مشاعر الأمومة الجيّاشة.

وتجد المدير يعبس في وجوه مرؤوسيه، يحمّلهم مسؤوليّة عبوسه وقطوب وجهه وتكدّر مزاجه، وكأنّه طفل صغير أو شابّ غرير لا يعرف عن كظم الغيظ وضبط النّفس شيئا، يتلذّذ في "تعذيب" الموظّفين بشتّى السّبل، ويرفع نفسه فوق الجميع.

أمّا الصّديق فيحمّل صديقه تكاليف صداقته له وإحسانه إليه وفق مفاهيمه هو، معتقدا أنّه بصداقته له مستحقّ لمبادلته الإحسان بالإحسان والعطاء بالعطاء. والويل للصّديق إذا لم يبادل صديقه إحسانه، ويردّ عطاءه عطاء.

ما من شكّ في أنّ التّفاوت بين حظوظ أو قدرات النّاس في المآثر الأخلاقيّة هو ما يضفي على الحياة البشريّة الاجتماعيّة طابعها التّنافسيّ الّذي يتأجّج من خلاله الصّراع دوما بين قطبي السلوك البشريّ؛ الكرم واللّؤم، الخير والشر. لكنّ الكرم ومظاهره يطغيان على اللّؤم ومظاهره من جانبين: القلّة الّتي تدلّ على التّميّز، والخير العميم ذي الانتشار والذّيوع. وقد صدق السّموأل إذ قال:

تُعيّرُنا أنّأ قليلٌ عديدُنا = = = فقُلْتُ لها إنّ الكرام قليلُ

فإنّ قلّة عدد الكرام تجعل منهم ذوي الفضل والشّأن في المجتمع، وقوّة تأثير صنيعهم في النّاس تشيع مآثرهم وترفع ذكرهم. ولعلّ الحكمة من عدم قدرة جميع النّاس على تكاليف حسن الخلق والمعاملة لتكمن في إخلاء ميدان السّباق من العوامّ وضعاف النّفوس، حتّى يخلص للنّخب من الكرام فيصير الميدان طريقهم الموصل إلى المجد.

D 25 كانون الأول (ديسمبر) 2014     A سمير كتاني     C 0 تعليقات