عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

يوسف بونيني - الجزائر

الأب جلّاب والأم دولاب


يوسف بونيني"الأب جلّاب والأم دولاب" يقول المثل اللبناني ومعناه: أن الرجل يعمل ويجلب المال والأم هي المقتصدة التي تتعامل مع ما جاء من مُؤن. هل هذا يصح في كل الأوقات وفي كل الأزمنة؟ لا أظن، وإليكم تفسير ما أقصد.

الرجل جلّاب نعم لأن من واجباته النفقة على العيال، فهو الملزم بتوفير حاجيات البيت، وجلب كل ما يلزم من أكل وشرب ومُؤن مختلفة كاللباس ومختلف المستلزمات التي تدخل في شؤون البيت. كما من واجب الأب أيضا تسديد ما يستعمل البيت من خدمات الدولة من ماء وكهرباء وغاز، وتوفير العلاج واقتناء أدوات الراحة والزينة لأفراد العائلة جميعهم، إلى آخره.

لكن مع تغير ظروف المعيشة وتقلد المرأة عبء العمل عن حاجة أو عن غير حاجة، أصبحت النساء كالرجال على السواء مطالَبَات بتوفير ما يطلبه البيت من حاجيات.

إن النفقة على العيال، إن هي صدقة، فهي أيضا عبء كبير لما يلاقيه المنفق من متاعب ومشاق. ذلك أن حسن التدبير هو أهم مزية لو توفرت صلح أمر البيت كله. وقد أصبح المنفق هو الحارس الوحيد على كيفية صرف ماله، يحاول ما استطاع أن يبتعد عن التبذير والإسراف، مخافة الوقوع في الحاجة واللجوء الاضطراري إلى الدين.

نعم كانت الكثير من النساء، كأمهاتنا وجداتنا فيما مضى، "دولابا" تحافظن على ما يجلبه الرجل من مؤونة وتحسن استعمالها طيلة الشهر، إلى حد أن صاحب البيت لا يشعر بالحاجة وقت نفاذ ماله قبل الوقت إن حدث حادث كنزول الضيف على البيت أو حدوث طوارئ مثلا.

ومع تقدم المدنية، والتغيير الذي طرأ في نمط المعيشة ووفرة السلع والخدمات وتنوعها إلى حد الرفاهية، أصبحت معادلة الإنفاق تشكل عبئا على المنفق وحدهـ وفي كثير من الحالات أصبح الأب جلابا ودولابا في الوقت نفسه. فبالإضافة إلى ما يعانيه العامل أو ما تعانيه العاملة من جد وكد وتضحية في مكان العمل لجلب المال، فهو ينفق طاقة زائدة على حساب صحته ووقته، للسهر على حسن استعمال أفراد الأسرة لما ينفقه الأب أو الأم.

استهلاك الكهرباء مثلا خدمة للبيت، أصبح مشكلة صعبة الحل، وسببا في حدوث المناوشات بين الأب أو الأم والأبناء، وأصبح الأب هو الخاسر الأكبر في مسالة تحكمه في هذه الخدمة. فجيل " شبكة الإنترنت ومشتقاتها" كأدوات اللعب والهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون لا يكترث بتاتا ولا يأبه لمسألة الغلو في استهلاك الكهرباء ليل نهار.

يقوم الابن، مثلا، بتشغيل كل ما له من أدوات اتصال في وقت واحد. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى إشعال أضواء الغرف في وضح النهار كلما دخل الولد أو البنت لقضاء حاجة معينة كلباس ثوب أو جلب شيء معين، أو ترك ضوء غرفة أو بهو في حالة اشتغال وذهاب الابن إلى مكان آخر بحجة أنه سيرجع إلى ذلك المكان ثانية ولا داعي لإطفاء مصباح الغرفة.

ويعلم الله ما مدى غلاء مادتي الكهرباء والغاز اللتين تأخذا عند التسديد ما يزيد عن 30 في المائة مما يتقاضاه العامل المأجور أو المتقاعد من الطبقة الوسطى في مدة ثلاثة أشهر. وفي هذا الصدد، وقفت يوما على شيء عجيب صدمني وأنا داخل إلى غرفة ابني الصغير، فإذا بي أجده حاملا بيد هاتفه المحمول يدير في لعبة وينظر في الوقت نفسه إلى شاشة الكمبيوتر لفيلم بوليسي. نعم هذا هو الاستغلال الحقيقي للوقت اثنين في واحد، كما يُروَّج لغاسول الشعر.

تصور ان الشاب إذا ما دخل مطبخ المنزل، وصادف أباه هناك، فيلاحظ هذا الأخير تصرفات ابنه معظمها خاطئ تحتاج إلى تقويم. فمثلا يفتح الابن الثلاجة ويمكث وقتا معتبرا وهو يتفرج ما بداخل الثلاجة من أكل وشرب. وإذا ما حاول الأب إرشاد ابنه على أن فتح باب الثلاجة طويلا يفسد غاز الثلاجة ، كان رد فعل الابن ردا غريبا ، يفهم منه أنه لم يخطئ.

والمرأة التي لا تقتصد عند طبخها للغداء والعشاء، ما دام المتوفر لها من خضر وفواكه كثير. والبنت التي تسرف في استخدام منشف الشعر، وفي استعمال مواد التنظيف عند نظافة غرف البيت، والحديث يكاد يطول في هذا المجال.

هذه الملاحظات كلها وتزيد، يقص الآباء تفاصيلها يوميا عند لقائهم ببعضهم البعض رغبة في الترويح عن النفس من جهة وفضولا في معرفة إن كانت هذه الظاهرة موجودة في بيوت أخرى من باب "إذا عمت خفت".

وداعا لزمن كان فيه الناس "يُرقِّعون" ما عاب من الملابس والأحذية، فالولد الآن يغير أحذيته وملابسه كلما خطر له ذلك. وصدق من قال: "العصر الذهبي هو العصر الذي كان الذهب فيه منعدما".

"الأب جلاب والأم دولاب" مثل جاوزه الزمن منذ مدة عند الكثير من العائلات، والسبب يعود حسب فهمي، كما أسلفت، إلى تغير نمط المعيشة الذي أثر في الشعور بالمسؤولية، وما انجر عنه من تداعيات.

عندما تتخذ الوسائل غايات ، وعندما تنتقل كثيرا من الكماليات إلى ضروريات ما لم يكن له نظير من قبل ، وفي غياب التوجيه والإرشاد وتوعية هذا النشء بأخطار الإسراف وضرورة الاقتصاد في المعيشة وتوجيه الأموال إلى ما هو مفيد وما يدر من خير وربح ، أصبحت المشاكل تتفاقم والمسؤوليات تتميع ولاح في الأفق نهاية التماسك الأسري.

وأرى أن لتخفيف عبء هذه الاثقال المنصبة على كاهل المنفق وحده، وزيادة على ما يقوم به هذا الأخير من توعية مستمرة لأفراد الأسرة وهو مرغم على ذلك، على الأبوين أن يشعرا بضرورة التفاهم بينهما وطرح مشاكلهما جانبا، وتوحيد جهودهما قصد التوجيه السليم لنفقات البيت، وهذا لإعطاء أفضل درس للأبناء في مجال الاقتصاد في النفقة، لا بل على أفراد الأسرة جميعها الوقوف لتحمل أعباء البيت مشتركين، ومحاربة اللامبالاة التي عمت وطمت. الاتحاد قوة كما يقال.

ولا بد على أهل الحل والعقد، القائمين على شؤون العباد أن يُجروا مختلف الدراسات السوسيولوجية والنفسية وتوفير الأطباء الأكفاء المتخصصين لتشخيص الداء الذي أصاب هذا الجيل الأخير الذي أزعُم واثقا أنه ضحية وقته وظروفه.

وفي المقابل، كثيرا ما تراودني نفسي وتقول لي: ألم يقل أديبنا الدكتور طه حسين في أواخر الخمسينات: " متى رأيت الشباب يحبون المهل ويصطنعون الأناة ويأخذون أنفسهم بالرفق؟ ذلك شيء لا يوافق طبائعهم ولا يلائم غرائزهم ولا يتأتى لأمزجتهم".

فما بالك لو ما زال طه حسين حيا يعيش بيننا: أتراه يستمر في القول ما قاله في حق الكثير من الشباب الذي هو الآن أكثر اندفاعا وحماسا وعجلة؟

نعم "الاندفاع أخص خصائص الشباب" كما قال أرسطو طاليس منذ خمسة وعشرين قرنا، ولكن الخير كل الخير في أن يندفع الشباب فيما يجدي وينفع أيضا، ولننظر إلى تاريخ البشرية ومقدار مساهمة الشباب في نهضته.

ورحم الله المصلح البشير الإبراهيمي عندما قال عن الشاب الجزائري في مقالته الرائعة: الشاب الجزائري كما تمثله لي الخواطر: "أتمثله حلف عمل لا حليفة بطالة، وحلس معمل لا حليس مقهى، وبطل أعمال لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقة لا رائد خيال".

"الأب جلاب والأم دولاب"، لا لا، بل الأب أو الأم جلاب، والأم أو الأب دولاب، ما دام الوضع قائما كما هو عليه الآن.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2020     A يوسف بونيني     C 0 تعليقات