غمكين مراد - سورية
الحياة في عتمة شمسٍّ لا تغيب
الحياة في عتمة شمسٍّ لا تغيب: رواية "قوس قزح" لـ د. هـ. لورنس
أن يكون للَنفَس ظلّ، أو أن تكون للظلال ترجمة، وأن تكون للروح أرواح أخرى تُهدهدها، وأن يكون اللاوعي ذخيرة الحياة ومفتاح مغارة المجهول، هي ألوان الطيف المرئية في ظاهرها والمخفية في باطنها، المنبعثة من رواية " قوس قزح" لـلروائي الإنجليزي ديفيد هيربرت لورنس (د. هـ. لورنس) رواية النفس البشرية وارتقائها، رواية الصيرورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في زمن الشمس التي لا تغيب عن بريطانيا، رواية المُقَّدس والمُدَّنس، رواية اللاهوت والناسوت، رواية الدوق والعامل والعادة والتمرُّد، رواية آنية وماضية وباقية ما دام النَّفَس المتكرر من شخوصها هم أنا وأنت وأنتم وهم والذين سيأتون.
إن ما أستفيض به في تعداد مكنونات هذه الرواية لهي ذخائر قد تكون خُلبية أمام ما خُفيَّ عن انفعالي بها.
لا يترك لورنس عبر سيرة آل برانغوين كما ماركيز في سيرة آل بوينديا من بعده في "مئة عام من العزلة"، بشخصياتها المتتالية برانغوين، وتوم، وويل وليديا وآنا وأورسلا، تفصيلاً ولو صغيراً إلا ويترك له على البياض حياةً وسيّرةً بحدِّ ذاتها، ولا يترك لهذه السيّرة وهذه التفاصيل الصغيرة إلا أن تمرَّ عبر نظرته إلى الدين، وإلى المجتمع الإنكليزي بكل نواحيه من عيوب ونقص وقّيد، ولا يترك للحياة المُعاشة ببساطتها إلا لغةً مُفعمةً بالشاعرية.
أمام رواية كهذه لا بدّ من انتقائيةٍ في ما عمَّقَّ من الحفرة الروحية داخلك، ولا بدَّ من أثرٍّ يُحتفى به في بلبلة رَعشاتِكَ الكثيرة حتى تهدأ .
لورنس يحمل مجاهر عدّة للولوج في عُمق شخصياته وتاريخ الإنسانية بعدساتٍ تُكبِّر الأجزاء الصغيرة فيها وفيه، لكن حسبّ ما يؤْمِنُ هو به، وحسبَّ ما يُراد لها أن تكون، كمن يؤدي لعبة المصائر: "كانت تلعب بين عمود النار وعُمَّد السحاب بأمان" (ص 102).
يلج لورنس بروحه في أجساد شخوصه ومن ثم يعود إلى البياض، لا يترك صغيرةٍ أو كبيرة من الحسِّ والدهشة، من الحبِّ والحزن، إلا ويعيشها كتابةً: "عندما كان ينظر إليها كان التهيُّبُ المفرط والخوف من المجهول يُغيِّران طبيعة رغبتهِ إلى نوع من العبادة، يجعلانِها بمنأى عن رغبته الجسدية" (ص 61).
"كان يعرف وكان يرتجف غيظاً وكراهية، إذ كانت تُمثل كلَّ تلك الأشياء الشنيعة، تُمثل كلّ شيء شنيع وممقوت، لكن كان ثمّة نُبل في قرارة نفسه أخبرهُ أن فوق كلّ شيء، أنه لا يريد أن يفقدها" (ص 67). هذا على لسان برانغوين عن ليديا البولونية الغائرة على ماضيها المؤلم من هروب وخوف.
وبالشكل الذي يسوق الأحاسيس في برانغوين الذَكَّر سيسوق في نفس آنا الأنثى: "حافظت آنا على مثال أعلى، سيدة حرّة متفاخرة في حلٍّ عن القيود التافهة، تعيش ما وراء التصورات التافهة" (ص 107). لكي يُعبِّر عن انغلاق مجتمعه والقيود المُكبَّلة للمرأة ويُندَّد من خلال آنا ابنة ليديا بالمحيط المُترهل في نظرته الدونية إلى المرأة، وبالتالي خلق آنا المُتمردة على كلّ القيود.
لا يترك لورنس هذه القيود دون أن يعود إلى الأس في توارثها من خلال المقدس الذي لا يُمسّ فيُعيد عذابها من خلال التربية الدينية: "فالطفل كان يُستخّرجُ من لحمها" (ص 79) ، وهكذا كان التكوين، ويكون موقف برانغوين الزوج: "يجب أن تتمزق إرباً كي تخرج الحياة" (ص 79).
وبخروج الحياة، أي ولادة ليديا أم آنا كانفلاق صخرة موسى، تستمر الحياة فعلاً بآنا وبعدها مع (ويل) برانغوين تأتي أورسلا، لكن بعد مخاضِّ حياة غريبة بين زوجين يبدوان كأنهما غريبان عن بعضهما: "ودائما كان ضوء التحوُّل يحترق في قلبيهما" (ص 102).
عبر ثلاثة أجيال يخوض لورنس الحياة في بلاد لا تغيب عنها الشمس ولكن تغيب عنها الإنسانية حسب رأيهِ: "إن أكثر الأدواق إنسانية في إنكلترا يكسب مائتي ألف كل سنة من هذه المناجم، لذلك فهو يُبقي الإنسانية مقلوبةً على رأسها" (ص 363).
ولكي يؤكد هذه الصورة يزيد على ذلك بأن أولئك الراقيين في مجتمعه الرأسمالي يزرعون في العمال بأنهم يجب أن يُغيروا أنفسهم بما يُناسب المناجم والمكان الذي يدلُّ على الموت أكثر من الحياة ، لا تغيير المنجم أو المكان: "إنهم يعتقدون أن عليهم أن يُغيروا أنفسهم كي تلاءم المناجم والمكان بدلا من تغيير المناجم والمكان كي تناسب أنفسهم فذلك أسهل" (ص 361) ، كما المستبد يُريد للشعب أن يُفكِّر كما هو يفكِّر.
كلُّ ذلك يكتبه لورنس بلغة مُفعمة بالشاعرية، وبصور ترقى لأن تكون قصائد في وصفه البيئة أو النفس: "توزعت أعمدة البرق فوق الأرض البيضاء بعيداً تحت تجهُّم السماء" (ص 58).
وهكذا يؤكد لورنس حيال بيئة كهذه من خلال سيّرة آل برانغوين (سيّرة إنكلترا) مسألة الحرمان من السعادة ، وحيث العدالة مذبذبة والزمن ضائع بين قضبان القيود، يؤكد على لسان إحدى شخصياته بأنه لا بدّ للمرء أن يُراقص المجهول: "عندما لا يكون هناك من يبهجها، فالروح غير المُكتفية يجب أن ترقص وتمرح، عندها يرقص المرء أمام المجهول" (ص 192).
= = = = =
لورنس، د. هـ. قوس قزح . ترجمة: فاضل السعدوني. مراجعة: سعدي يوسف. العراق: دار المدى، 1998.