د. عبد المجيد عطار - الجزائر
قراءة في مسارات الإبداع الصوفي
آليات التخطي: قراءة في مسارات الإبداع الصوفي
الجمال في الإسلام أصل أصيل، سواء من حيث هو قيمة دينية، عقدية وتشريعية، أو من حيث هو مفهوم كوني، وكذا من حيث هو تجربة وجدانية إنسانية. ومن هنا كان تفاعل الإنسان المسلم مع قيم الجمال ممتدّا من مجال العبادة إلى مجال العادة، ومن كتاب الله المسطور إلى كتاب الله المنظور، ممّا خلّد روائع من الأدب والفنّ الّتي أنتجها الوجدان الإسلامي في قراءته الراقية للكونين وسياحته الرائعة في العالمين؛ عالم الغيب وعالم الشهادة.
والجمالية الإسلامية تنبع أوّلا من حقائق الإيمان، إذ تشكّل الوجدان الإنساني فيها ممّا تلقاه من أنوار عن رب العالمين، الرحمن الرحيم، وما انخرط فيه بعد ذلك، سيرا إلى الله عبر أشواق الروح، مبدعا بإتباع تعاليم نبيّه أروع ألوان التعبير الجمالي، من سائر أشكال العبادات والمعاملات والعلاقات، انطلاقا من حركته التعبدية في جمالية الصلوات ولوحاتها الحية الراقية وما ينظمها من عمران روحي ومادي، إلى هندسة المدائن الإسلامية بما تحمله من قيم روحية سامية، وقيم حضارية متميّزة جدا، إلى سائر النشاط الإنساني الذي أبدعه المسلمون في علاقتهم بربّهم وعلاقتهم بأنفسهم وبغيرهم، إلى علاقتهم بالأشياء المحيطة بهم، بدءا بالمسخرات من الممتلكات والحيوان، إلى المحيط الكوني الفسيح، الممتدّ من عالم الشهادة حولهم إلى عالم الغيب فوقهم. كل ذلك تفاعل معهم المسلم، فأنتج أروع الأدوات التعبيرية والرّمزية، ممّا لا تزال تباريحه المشوقة بالمحبة، من الترتيل إلى التشكيل تفيض على العالم بالجمال والجلال أبدا.
يقول زكي نجيب محمود: «الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية كيف يفرق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء، فإنّه مع معرفته تلك، يظل بعيدا أشدّ البعد عن القدرة على بيان الأسس الّتي إذا توافرت في شيء ما، كان ذلك الشيء جميلا، وإذا غابت عن شيء ما، كان ذلك الشيء مسلوب الجمال، بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس، وقد يحدث هنا أن يتصدّى للمشكلة مفكر موهوب في عمق التفكير ودقته، فيتناول هذه التفرقة بين الجمال والقبح، حتّى يصوغ أسسها ومبادئها وشروطها، وعندئذ يقال عن مثل هذا المفكر: إنّه فيلسوف، كما يقال عما يكتبه في هذا الموضوع: إنّه (فلسفة الجمال)، ولنلحظ هنا أنّ عملية النقد في مجال الفنّ والأدب، إنّما هي فرع يتفرّع عن (فلسفة الجمال)، ولذلك فقد يختلف النقاد في الأساس الذي يقيمون علليه نقدهم، باختلافهم في المذهب الفلسفي الذي يناصرونه»[1].
لقد استطاعت الفلسفات القديمة أن تصل إلى قناعة بأنّ القيم الثلاث (الحق – الخير – الجمال) هي القيم الكبرى في الوجود، وأنّه تحت مظلة هذه القيم الكبرى تندرج القيم الإنسانية جميعا فروعا لها، وقيمة (الخير) تلك تنبثق من التفرقة بين ما هو رذيلة وشرّ، وبين ما هو فضيلة وخير، هذا التفرقة يقوم بها مفكر موهوب – طبقا للتصوّر الفلسفي – يتميّز بدقة التحليل، ونفاذ البصيرة، فيصوغ تلك الأسس الّتي على وجودها تبنى الفضيلة، وعلى غيابها تبنى الرذيلة، فإذا تحقق لذلك المفكّر ما أراده، عددناه فيلسوفا، وعدد مما كتبه (فلسفة الأخلاق)[2].
الحق والخير والجمال، إذن، هي القيم الثلاث الكبرى في الفلسفات القديمة، وهي صناعة عقلية بشرية بحتة، ترعرعت في ظل التجربة والتاريخ والأحداث. يقول محمد قطب في منهج الفنّ الإسلامي:«إنّ كلا من الفنّ والدين يعبر عن الحقيقة الكبرى، كما يقول: إنّ القرآن يوجّه الحس البشري للجمال في شيء، وإنّه يسعى لتحريك الحواس المتبلّدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء، وهنا يلتقي الفنّ بالدين[3].
«والفنّ الصحيح هو الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمّة الّتي تلتقي عندها كل حقائق الوجود»[4].
والجمال ليس تشكلا ماديا فحسب، ولكنّه بالمعنى الصحيح حقيقة مركبة في مداخلها وعناصرها وتأثيراتها المادية والروحية، وموجاتها الظاهرة والخفية، وفي انعكاساته على الكائن الحي، لأنّ أثره يخالط الروح والنفس والعقل، فتنطلق ردود أفعال متباينة، بعضها يبدو جليا، وبعضها الآخر يفعل فعله داخليا، لكن محصّلة ذلك كلّه ما يتحقق للإنسان من سعادة ومتعة، وما ينبثق عن ذلك من منفعة.
الجمال بداهة لا يرتبط بالمظاهر الحسية، وحدها خاصة، وهذه قضية هامة من وجهة النظر الإسلامية. إنّه إذا كان الاستمتاع بالجمال مباحا في الأصول الإسلامية، فإنّه مدخل إلى ارتقاء الروح والذوق، وسموّ النفس وخلاصها من التردّي والسقوط، ومحرّك للفكر كي يجول إلى ما هو أبعد من المزاهر الحسية الّتي قد كتب عليها الزوال. فالجمال سبب من أسباب الإيمان، وعنصر من عناصره، والقيم الجمالية الفنية تحمل على جناحها ما يعمق هذا الإيمان ويقوّيه، ويجعله وسيلة للسعادة والخير في هذه الحياة[5].
إنّ التصوّر الأوروبي قائم على مادية الإنسان، وحيوانية الإنسان، وإنكار الروح، والسبب في ذلك هو (الداروينية) القديمة الّتي تولّدت عنها الماركسية، وعلم النفس الحديث، وعلم الاجتماع الحديث، وتأثر بها الأدب والفنّ في القرن التاسع عشر والقرن العشرين[6].
ولقد تأثرت (فلسفة الجمال) بهذه التصورات الجديدة للحياة، مثلما تأثرت فلسفة الجمال عند أرسطو بعوامل تاريخية وعقدية، وحمل فلاسفة الجمال الجدد على كل الفلسفات الجمالية القديمة، كما حاولوا بكل قوّة أن يعزلوا الفنّ عن الدين، وأن يصوّروا العلاقة بينهما على أنّها علاقة تناقض وتضاد، فتارة يقولون: إنّ الفنّ غاية، وبالتالي شعارات الدين تفسد الفنون، وتارة أخرى يزعمون أنّ الأديان قيود والفنّ حرية وانطلاق، وثالثة يدعون أنّ الدين عماده الأخلاق، والفنّ لا يعبأ بهذا الجانب، إذ أنّ الفنون لا تعبأ بما هو فضيلة أو رذيلة، ولكنّها تهتمّ بكل ما هو جميل في تصوير الخير والشر، ففي كل جمال من نوع ما.
هناك من يرى أنّ الدين يبحث عن الحقيقة، وأنّ الفنّ يبحث عن الجمال، وهذه المقولة بحاجة إلى إعادة نظر «أليس في الحقيقة الّتي يقصدها الدين جمال من نوع خاص؟؟ ألم نقل: إنّ الجمال ليس مجرّد صورة حسية أو انفعالية، وإنّ الأمر مركّب، وليس على هذا النحو من التبسيط والسهولة ؟ ثمّ ألا يبحث الفن أيضا في إبراز الحقيقة؟»[7].
ومن ثمّ أمكننا القول: «إنّ ألوان الآداب المختلفة قد تبلور حقيقة نفسية، أو تجسّد واقعا اجتماعيا، أو تبرز قيمة من القيم العليا في إطار معيّن، وهكذا نرى أنّ الآداب تقدم لنا ألوانا من الحقيقة في ثوب أخاذ، أو في شكل جميل، إلاّ أنّ تغليف الحقيقة بما يجعلها جميلة ومؤثرة لا ينفي عنها كونها حقيقة، وهكذا الشكل الجميل الذي تزف فيه الحقيقة، يختلف تماما عن الحقيقة العارية المجرّدة الّتي تنتج عن البحوث العلمية البحتة، أو الفلسفية التقليدية»[8].
إنّ اقتصار الفنّ على دور البحث عن الجمال وحده، تعطيل لوظيفة حيوية، وهو الذي يمكن أن ينقل الفنون والآداب إلى متاهات العبثية والانفلات، ومهما كان الجمال مطلوبا لذاته، فإنّ فاعليته تكون أقوى وأجدى إذا ما ارتبطت أسبابه بتجلي الحقائق وإشراقاتها، وإذا كانت الحقائق قد شابها بعض الزيف أحيانا تحت التصورات الفلسفية، فإنّ القرآن قد وضع أيدينا على الحقائق الكبرى في الدنيا والآخرة، وأعطى للمؤمن قناعات تامة لا تتزعزع في كثير من الجوانب، ولكن يبقى الباب مفتوحا للكدح والتجربة من أجل الوصول إلى حقائق جديدة، ومن المعلوم أنّ صور الجمال لا تعدّ، وأنّ آفاق الحقائق المختلفة لا تحدّها حدود، والأديب المسلم يستطيع أن ينطلق دون عائق في عوالم الحق والجمال والخير والتوحيد.
وإذا كان الأدب أساسا هو التعبير الجميل، فإنّ الفكرة هي عماد العمل الأدبي، ولها هي الأخرى جمالها، لأنّ العمل الأدبي كل لا يتجزّأ، والجمال ينسحب على الشكل والمضمون معا، وهذا ما أشار إليه بعض النقاد، وفي الصدق الفني جمال يوله حسان بن ثابت الأولوية:
وإنّ أشعر بيت أنت قائلـه = = بيت، يقال إذا أنشدته، صدقا
والمنفعة في العمل الأدبي لا تتنافى مع القيم الجمالية، وهذا راجع إلى قدرة الكاتب وبراعته في الأداء، ولقد استطاع كتاب كبار أن يجمعوا بين المنفعة والقيم الجمالية فأبدعوا أدبا جديرا بالاحترام[9].
إنّ الجمالية لا تتناقض مع الإسلامية في مضمونها الأدبي إلاّ حين تكون منفصلة عن النَزعة الأخلاقية، أمّا إذا تحاورت مع القيم الأخلاقية فلا تناقض، فالأدب يقوم برسالة هادفة، لتحقيق القيم الإنسانية العليا الّتي تحقّق السعادة للفرد والمجتمع. وتهب الحياة بقوّة وفاعلية، وتمدّها بأسباب النجاح، وتؤكد قيم الفضيلة والحق والخير.
إنّ رسالة الأدب الإسلامي جزء من رسالة الإسلام الشاملة، والإسلام يعلي القيم الجمالية، ويعلي من شأنها، ويحيطها بسياج من العفّة والنقاء والطهر، ويفتح الباب واسعا أمام الإبداعات الفنية والأدبية الخلاقة، ويزيد الكلمة الجميلة شرفا حينما يكلفها بأعظم رسالة، وأسمى مهمّة، وأرقى دعوة.
إنّ البيان سحر وحكمة، جمال ومعنى، صورة فنية أخاذة، وحقيقة تشرق بالخير والحق والفضيلة والنور.
وهل الأدب إلاّ ذاك؟
التصوّف والفن: قراءة في المنهج
التصوّف والفنّ كلاهما من مفردات عالم الوجدان بشكل أساسي، والبحث في العلاقة بينهما من المباحث الّتي تقف على تخوم العلم، ولما كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوّره، فإنّ العجز يبدو قائما على إصدار "حكم"، إذ نحن بإزاء ما يستحيل تصوّره، ومن ثمّ تعريفه تعريفا جامعا مانعا، يعرف ذلك كل من خاض تجربة دراسة أي من الظاهرتين: "التصوّف" و"الفن"، طامحا إلى ضبط أي منهما بضوابط المنهج العلمي، فكلاهما تجربة شخصية فردانية تقوم في المقام الأوّل على الذوق، غير أنّ استحالة "الحكم" لا تعني الإحجام عن السعي للاستكشاف والاقتراب أملا في أن تسفر المحاولة عن الاقتراب من الدور الذي يقوم به الفنّ في "النسق الصوفي" بالنظر إليه من منظور فلسفة الدين، الذي يعدّ هو الآخر فرعا حديث الميلاد من فروع البحث الفلسفي. وبقدر ما تشكل الاعتبارات السالفة قيودا على حركة الباحث بقدر ما تفتح له آفاقا واسعة لارتياد أرض بكر وهو العلاقة بين ظاهرتين مركبتين أشدّ التركيب كلاهما له جذور راسخة في عالم الوجدان.
يعتبر إبراهيم زكريا الفنّ "قوة روحية" خلاقة توجد من العدم مخلوقات لا مادية كالموسيقى والشعر والموجودات مرئية كالنقوش والرسوم، أمّا تلك المخلوقات الّتي يبدعونها فهي كائنات عجيبة يجمع بينها كلمة "الفن"[10].
وإذا كان عبد الرحمن بدوي قد أشار إلى ملكة خاصة عند التصوّف تمكنه من ممارسة التجربة الصّوفية في السعي للاتحاد بالإله، فإنّ بعض مدارس علم النفس الحديث ترى ذلك في الفنان. فحسب كارل يونغ فإنّ الفنان ليس مخلوقا عاديا يبدع أعماله عن قصد وتفكير وروية، بل هو مجرّد أداة في يد "قوة عليا"[11]، ويتسم مفهوم يونغ على مستوى البنية بروح قدرية تعدّ هي الأخرى ملمحا من ملامح التشابه بين الفنّ والتصوّف، فالعمل الفني يصنع الفنان وليس العكس، ومن العبث مطالبة الفنان بتفسير عمله وهو أقرب إلى الحلم. لابدّ أنّ يظل غامضا ملتبسا[12].
وعلى يد هنري برجسون وصل مفهوم الفنّ إلى قمة الصّوفية، فالفنّ في فلسفته "عين ميتافيزيقية"، والفنان قادر عبر الإدراك المباشر النفاذ إلى "باطن الحياة"، وعين الفنان تملك مقدرة صوفية هائلة على الاتحاد مع موضوعها[13]، وفي النهاية فإنّ الفنّ عند برجسون حدس يستولي على الذات العارفة فيجعلها تتطابق مع موضوع معرفتها على نحو شبه صوفي. وفي فلسفة شوبنهور يصل الأمر إلى نوع من المطابقة بين المتصوّف والفنان، فالفنان هو الذات العارفة الخالصة المتحررة من الإرادة وأسر الجسد وعبودية الأهواء، فهو لا يعيش إلاّ بوصفه مرآة لموضوعه، بعد أنّ فقد ذاته واستحال ذاتا عارفة خالصة، وفي نهاية معمار فكرته اعتبر شوبنهور أنّ الفنّ «أداة المعرفة والعرفان»[14].
الطبيعة التأويلية للفنّ والتصوّف
وقد يكون البعد التأويلي في الفنّ والتصوّف هو الرابطة الأعمق بينهما، فمع تحوّل الفنّ بشكل واضح خلال العصور الحديثة إلى الغموض والذاتية والانقلاب المتسارع من الأطر كافة، دينية واجتماعية وحضارية، ليصبح تعبيرا فردانيا عن مكنون مبدعه تأتي أهمية استحضار مفهوم "الغنوصية" كنموذج تفسيري لهذه العلاقة.
و"الغنوصية" من الكلمة اليونانية "غنوصيص" ومعناها "علم" أو "معرفة" أو "حكمة" أو "عرفان"، وفي التراث العربي الإسلامي تستخدم كلمة "عرفان" عند المتصوّفين لتدلّ على نوع من المعرفة يلقى في القلب في صورة "كشف" أو "إلهام"، و"العرفان" هو العلم بأسرار الحقائق الدينية والخصائص الإلهية، وهو من وجهة نظر صاحب العرفان أرقى من العلم الذي يحصله عامة المؤمنين البسطاء أو لأهل الظاهر من العلم الديني الذين يعتمدون النظر العقلي، والعرفاني هو من لا يقنع بظاهر الحقيقة الدينية بل يغوص في باطنها لمعرفة أسرارها. وهي معرفة تقوم على تعميق الحياة الروحية وإحلال الإرادة محل العقل، فالمعرفة هنا لا تعني اكتساب معارف بل بذل مجهود متواصل بقصد التطهر والوصول للصيغة الغنوصية اللازمة للاندماج في العالم الإلهي الذي جاء منه الإنسان. وترى الغنوصية أنّ ثمّة جوهرا واحدا يجمع كل الديانات، ولذا لا تقدم نفسها كديانة جديدة، بل كباطن للشريعة القائمة، ومهمّتها الكشف عن المغزى العميق للعقيدة الّتي ينتمي إليها الغنوصي بواسطة معرفة باطنية وكاملة لأمور الدين[15].
وهكذا فإنّ الفنّ قد تبادل مع التصوّف التأثير والتأثر، ليس فقط على مستوى العلاقة التاريخية والاشتراك الوجداني الواضح فيهما، بل تجاوزت العلاقة ذلك لتصل إلى تشابه بنيوي ملفت من حيث السمات العامة والطموح إلى إعادة تعريف الأشياء عبر قدرة يتصوّر المتصوّف والفنان أنّه يملكها وأنّه قادر باستخدامها على الإحاطة (أو الخلق من عدم) بناء على الإرادة.
موضوع الجمال والفنّ مستمر بلا نهاية، ومنابع الفنّ باقية ما بقي الإنسان وتتطور بتطور الحياة ومتطلباتها، والفنان هو ما يتجاوب مع حركة الحياة والآخرين، وهو من يكتشف جوانب التلاقي بين عالم الواقع والخيال والمثال على قدر إدراكه، ذلك من خلال رؤيته العميقة وبحثه الدائم عن الكمال.
النظرة الجمالية والتجربة الصّوفية
الحنين للجمال جعل دعوة الفنّ في كثير من الحقب التاريخية دعوة للخلاص من الحسّ والسمو بالروح. ولقد تفطّن الصّوفية لهذا المعنى، ولم يغفلوا عن الدعوة للجمال بالجمال، ومعانيهم تدور في موضوعي الجمال والحبّ، وعليهما منشأ الكون والخلق. لقد خاطبوا في الناس ذلك الشيء المشترك، وهو الحنين للجمال والكمال، فكسبوا الألوان، وأنشدوا الأشعار ورقصوا[16]. ولم يبق ضرب من ضروب التعبير الفنّي إلاّ واستخدموه لخدمة الدين والإنسانية لا لقصد الفنّ ذاته. فاللون الأخضر مثلا ارتبط بالسّندس والاستبرق في القرآن الكريم[17]، فكان لباس أهل الجنة عند الصّوفية، فملأ خيالهم شوقا للموطن الأوّل "الجنة"، هذا ظاهرهم، وتكتّموا السرّ الآتي معه من عوالم الإفاضة مشيرين لتلك الأسرار فنّا يترجم باطنهم، وأدركوا أثر ذلك اللون على النفس فأصبح رمزا امتدّ عبر العصور وحتّى الآن، فتمثّل عمائم وعباءات وجيب، وأصبح سمة مميّزة وعنوانا لأضخم مذاهب الإسلام.
أمّا الرقص عند الصّوفية فليس غيبوبة ترميهم خارج دائرة الواقع، لكنّه وعي وإفاقة داخلية يدفعها نشاط روحي ليحرّك الراقص – الذّاكر – جسده فيندمج مع روحه في منظومة الكون. وغيبوبة الصوفي إدراك تام للجمال بينما دهشة الفنان جزء من ذلك الإدراك، والصوفي يرغب في الخلاص الحسي والسمو بالروح نحو الجمال والكمال، بينما الفنان يسعى لذلك عبر الحسّ.
أدرك الصّوفية أثر الحسّ على المعنى وارتباط الجسد بالروح، وسعوا للجمال مستصحبين الإدراك العقلي والقلبي، وقد أشار لذلك الغزالي قائلا: «إنّ الجمال الحسي يدرك بالبصر والسمع وسائر الحواس، أمّا الجمال الأسمى – السامي – يدرك بالعقل والقلب. وإنّ القلب أشدّ إدراكا من العين، لأنّ القلب يدرك الأمور الإلهية وإنّ المثل الأعلى للجمال هو الله، فالصوفية هم أصحاب القلوب والمواهب الإلهية»[18].
والجمال متعة طيبة ترفع همّة الإنسان إلى مزيد الكمال، بحيث كلّما حصّل الإنسان منها نصيبا ارتقى درجة في إنسانيته، وما أن يدرك هذه الدرجة، حتّى يطلب متعة فوق المتعة الأولى، يرقى بها إلى درجة في إنسانيته فوق الدرجة الأولى، وهكذا دواليك في جدلية دائمة بين الاستمتاع والاستكمال، كل متعة تنقله إلى كمال وكل كمال ينقله إلى متعة فوقها[19].
ويعتقد طه عبد الرحمن أنّ الجمال مراتب، طرفه الأدنى الجمال الظاهر القريب وطرفه الأعلى الجمال الباطن البعيد، وبينهما مراتب لا تحصى.
والأخلاق كذلك مراتب، طرفها الأدنى الخلق الظاهر المقيّد، وطرفه الأعلى الخلق الباطن المحرّر، وبينهما مراتب هي الأخرى لا تحصى. ويعتقد طه عبد الرحمن أنّه كلّما ارتقت رتبة الإنسان في إحدى القيمتين، ازداد قربه من القيمة الأخرى، حتّى إذا نزل أعلى الرتب في إحداهما، كان في الوقت نفسه نازلا أعلى الرتب في الثانية، بحيث لا تفترقان إلاّ في الرّتب الدنيا، أمّا في الرتب العليا، فهما مجتمعان اجتماعا لا افتراق معه[20].
ويخلص مما سبق بتقريره قاعدة ذهبية تقول: «فالجمالي العظيم أخلاقي عظيم، والأخلاقي العظيم جمالي عظيم»[21].
هكذا يتبدّى لنا أنّ أهمّ بحث محوري كانت تحوم حوله التجربة الصّوفية وتستهدفه هو البحث في الجمال، وعن إنتاج الجمال في القول كما في الفعل وتبديد الظلمة بالأنوار ومحو القبح بالحسّ والنضارة وإحلال السلم واللطف والتراشق بالمحبة والورود محل الحرب والقتل والاحتكام إلى السيف والحجارة[22]. في هذه المساعي المتأرجحة بين الوهم والتحقق النسبي يكمن استهلاك الصوفي لتطلعاته ومجاهداته عبر جدلية الفناء عن السقوط للبقاء في المقام ومن ثمّ النهوض.
البحث عن الجمال يمكن أن نسرده في نموذجين نعرضهما بأقلّ ما يمكن من الشروح حتّى لا يكون هناك تشويش على نقاوتها وصفائها:
=أ= البحث عن الجمال الإلهي
شرط مشاهدة المحبوب عند الصوفي هو أن يظهر بوجه مشعّ ناعم خليق بالتملّي والسعادة بطلعة من له البهاء كل البهاء، وله الأسماء الحسنى. وذلك تيمنا واقتداء بالجمال الموعود في سورة القيامة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ؛ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [23]، وحتّى في حالة انقطاع تلك المشاهدات يعود الصوفي إلى مؤانسة الجمال في خلق الله وصنيعه. وبهذا المعنى يقول الجنيد: «ومن هنا [أي في حالة الفقد] عرجت نفوس العارفين إلى الأماكن النضرة والمناظر الأنيقة والرياض الخضرة.. وكل ما سوى ذلك عذاب عليهم، ممّا تحنّ إليه من أمرها الأوّل الذي تشمله الغيوب ويستأثر به المحجوب»[24].
وجمال الإله قد تترجمه عناصر الطبيعة ودوابها وطيورها، كما نقرأ في بعض أحاديث الصّوفية وأدعيتهم، فهل هناك أقوى من هذا النّزوع كدليل على أنّ الوجوه الصّوفية ليست كما قد تتصوّر، بالوجوه الكالحة الباسرة، بل إنّها تذهب للظفر بالانكشافات الجمالية إلى حدّ الاستشهاد، كما يسجل ماسينيون، ويبيّن بأية حماسة وحمية وجدانية قامر هذا العاشق الجسور [الحلاّج] برأسه كما يظفر بجوهرة الجمال الإلهي عن طريق نصر مؤزر»[25]. وكان الشبلي حسب بعض الروايات يشبه استشهاد الحلاّج نفسه بدرة من الجمال المحرم، يتوجّب ستره[26].
=ب= الحضور الأنثوي
المرأة في الفكر الصّوفي كائن له موقعه الأفضل، والتصوّف الحقيقي لا يستعمل اللّغة الذكورية في أي شأن يمسّ المرأة، بل أجاز التصوّف تسليك المرأة وأن يتولاها شيخ ولقد رفض التصوّف والمتصوّفة اعتبار الجنس ميزان التفاضل بين الذكر والأنثى، بل وقد ذهب ابن عربي إلى أبعد من ذلك في توقير المرأة واحترامها، حيث يقول: إنّ الذات الإلهية أنثى وإنّ التوحيد مذكر، ويستطرد قائلا ليؤكد عظمة التأنيث وقدسيته فيقول: «إنّ الله نهانا أن نتفكّر في الذات الإلهية وما منعنا من الكلام في التوحيد، وهذا يعني قدسية الذات المؤنثة الّتي لا يجوز أن يطالها الفكر، وعدم قدسية التوحيد المذكر وإباحته بالتالي للكلام»[27].
ويذهب أبعد من ذلك حيث يقول: «كن على أيّ مذهب شئت فإنّك لا تجد إلاّ التأنيث يتقدّم حتّى عند أصحاب العلّة الذين جعلوا الحق علّة في وجود العالم، والعلّة مؤنثة، وإن شئت قلت القدرة والقدرة مؤنثة أيضا»[28].
وهكذا تحضر مسألة الأنوثة مع صاحب الفتوحات بخصوصيتها المميزة، حيث تتخذ طابعا معرفيا بشكل واضح وصريح.
وخطاب ابن عربي لا يكف عن الاحتفال بالأنوثة، لينتشر على صفحات الكتابة. فالأنثى عند الشيخ الأكبر محل، والمحل مرآة، والرؤية كعلاقة بين المرآة والمتجلي، وصورته في أساس الإيجاد، ويتطلب هذا الإيجاد محلا أصليا يقبل تجلي الوجود المطلق ويتمثل في الأعيان الثابتة، ويعدّ ابن عربي أوّل من استعمل الأعيان الثابتة للدلالة على الحقائق الباطنية للأشياء[29].
وجلاء مرآة الوجود يرجع إلى فعل التنفيس كحركة رحمة وارتياح، وذلك لقوّة تأثير الحب، وإذا سألنا: من أين الحب ؟ يجيب ابن عربي: من تجليه في اسمه الجميل، فإن قلت والجمال؟ قلنا: «نعوت الرحمة والألطاف من الحضرة الإلهية باسمه الجميل»[30].
فحضور المرآة في فكر ابن عربي يتعلّق بطرحه لمبدأ الأنوثة على المستوى الأنطولوجي، فالمرآة ارتبطت تاريخيا بالجمال والخيال والحب والمرأة. وكل تركيبات هذه المفردات وعناصرها جعلها تقترن بعالم الطبيعة والانفعال، ومن ثمّ الزوال، كما أنّ الأنوثة احتلّت في إطار التفكير الفلسفي مرتبة النقص والتبعية على أساس إعطاء الأفضلية للفاعل بالنسبة للمنفعل[31].
قد لا نكون مبالغين إذا قلنا إنّ التصوّف تجربة جمالية إن على مستوى المعنى أو الخطاب أو الممارسة. والتجربة حين تتحوّل إلى فعل كتابة، نجد أنفسنا أمام النصوص الصّوفية العليا عاجزين عن التعبير أمام الانفعال الوجداني والمتعة الفنية، لأنّها طافحة بالجمال والمعنى، ومتعدّدة الأبعاد والإيحاءات. ولأنّها كذلك، فهي تندرج في تاريخ النصوص الّتي تتعدّى ضوابطها الزمانية وتبقى بعد زوال شروطها الموضوعية، ولعلّ ما يعزّز الطابع اللامقيد بالزمان في تلك النصوص، إضافة إلى فعاليتها الجمالية، هو ابتعادها عن مجرّد محاكاة الطبيعة وطموحها إلى استثمار المطلق المتوجّه إلى مواقف الإنسان الشمولية القصوى، وما يكتنف هذه المواقف من عرضية وقلق ومصادفات وأسرار. إنّ نوعية هذا الاستثمار لا تتحدّد بالتقدّم أو التطوّر أو بصياغة القوانين والمعادلات، كما هو الشأن في العلوم الدقيقة، بل بالمخيلة والحلم كعاملين مخصبين لإنتاج الجمال وتوالد أصنافه وقيمه اللامحدودة [32].
= = = = =
الهوامش
[1] زكي نجيب محمود، موقف من الميتافيزيقا. القاهرة: دار الشروق، ط3، 1987، ص 110.
[2] المرجع نفسه، ص 136.
[3] نجيب الكيلاني، مدخل إلى الأدب الإسلامي، قطر: سلسلة كتاب الأمّة، 2007، ص 40.
[4] محمد قطب، منهج الفن الإسلامي. مصر: دار الشروق،ط2، 2006، ص 85.
[5] نجيب الكيلاني، مرجع سابق، ص 45.
[6] محمد قطب، مرجع سابق، ص 86.
[7] نجيب الكيلاني، مرجع سابق، ص 30.
[8] المرجع نفسه، ص 35.
[9] المرجع نفسه، ص 40.
[10] زكريا إبراهيم، مشكلة الفنّ، سلسلة مشكلات فلسفية . مصر: مكتبة مصر، 1979، ص 29.
[11] المرجع نفسه، ص 183.
[12] المرجع نفسه، ص 184.
[13] المرجع نفسه، ص 187.
[14] المرجع نفسه، ص 193 – 194.
[15] عبد الوهاب الميسري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، نموذج تفسيري جديد، المجلد الخامس، مصر: دار الشروق، ط1، ص 178.
ويرى محمد إقبال في ختام النبوة، ميلاد للاستدلال العقلي كقانون للعالم الحديث الذي افتتحته نبوّة محمد، ولهذا أبطل (إقبال) كل قول بامتداد الوحي عن نظريات الاتصال المشائية الإسلامية والدوائر الصّوفية التابعة لها، وهو لا ينفي بهذا "الرياضيات الصّوفية"، بل يقطع الصلة بينها وبين المقولات الإشراقية. راجع، عبد القادر محمود، الفكر الإسلامي والفلسفات المعارضة في القديم والحديث . مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1986، ص 373-374.
[16] الرقص عند الصّوفية تعبير جسدي حركي، وليس كفعل محدّد مصاحب لآلة، وهو عندهم يكون في حلق الذكر أو مصاحبا للمدح والإنشاد.
[17] سورة الكهف، الآية 31، وسورة الإنسان، الآية 21.
[18] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت: دار القلم، ط3، 1985، ص 70.
[19] ينظر: طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل . المغرب: المركز الثقافي العربي، 1998، ص 02. وحوار من أجل المستقبل. المغرب: المركز الثقافي العربي، 1999، ص 50.
[20] طه عبد الرحمن، حوار من أجل المستقبل، مرجع سابق، ص 60.
[21] المرجع نفسه، ص 65.
[22] يذهب طه عبد الرحمن إلى أنّه يتعيّن على مفكرينا أن يفكروا في الطرق الجمالية الّتي ينبغي أن تسهم بها الأمة الإسلامية في هذا القرن الجديد، ما دامت تتراءى لنا آفاق الإسهام فيه ببعدنا الجلالي، قوة وبأسا. سوف يكون لنا من العطاء الجمالي ما يجعل أهل هذا القرن يحتاجون إلينا قدر احتياجنا إلى عطائهم الجلالي. ينظر: المرجع نفسه، ص 80.
[23] سورة القيامة، الآيتان 22 و23.
[24] عفيفي محمد، التصوّف: الثورة الروحية في الإسلام . بيروت: دار صادر، ط1، ص 120.
[25] ماسينيون، الحلاّج، ج2 . باريس، 1961، ص 80.
[26] سالم حميش، في التصوّف بين التجربة وإنتاج الجمال، مجلة الوحدة، الرباط: المجلس القومي للثقافة العربية، السنة الثانية العدد 24، سبتمبر 1986.
[27] هادي العلوي، مدارات صوفية (تراث الثورة المتاعية في الشرق). دمشق: دار المدني، ط1، 1997، ص 126.
[28] ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. بيروت: دار صادر، 1970، ج1، ص 217.
[29] ينظر: آمنة بلعلي، تحليل الخطاب الصوفي. الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2002، ص 73-85.
[30] ابن عربي، الفتوحات المكية، ج2. بيروت: دار صادر، د.ت، ص 114-133.
[31] مروة كريدية، الأنوثة في فكر ابن عربي، مجلة نزوى، ع3، ص 20.
[32] سالم حميش، في التصوّف: بين التجربة وإنتاج الجمال، مرجع سابق، ص 157-158.