عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 99: 2014/09 » مفهوم الأدب والأديب عند الرافعي-ج2

د. بغداد عبد الرحمن - الجزائر

مفهوم الأدب والأديب عند الرافعي-ج2


أدناه الجزء الثاني والأخير من القراءة في مفهوم الأدب والأديب عند مصطفى صادق الرافعي

بغداد عبد الرحمنلعل القارئ لآثار الرافعي الشعرية تتجلى له كل تلك الحقائق التي انتهى عندها كثير من النقاد والدارسين، معترفين له بحسن السبق فيها. وفي ذلك جاء قول عبـد العزيـز المقـالح:

”والحقّ أنَّ الرافعي كان يصطنع الأسلوب في بعض كتاباته وكان يصوغ بعض الجمل بقصد الإبهار حيناً والتعليم حيناً لكنه في أغلب ما كتب يصف تجربة ذاتية ويؤسس من خلال الحديث عنها فَنّاً جميلاً ... فكانت أعماله الأدبية صورة من نفسه وصورة عبر اللون والضوء والمعنى من الواقع الخاص والواقع العـام“ 23.

وظلَّ فهم الرافعي لمعنى الأدب، مفهوماً وتصوراً، عند النقاد مشوباً بنوع من الاختلاف في تصديقه والدعوة إليه، حيث ذهب بعضهم إلى نعت ذلك الأدب بالغامض والمبهم، لكن كتابات الرافعي لا تدل بشكل من الأشكال على تعمد الإغراب والتكلف، وإنما هي الدليل على أن الرافعي أراد من وراء ذلك، الإشارة إلى تمام علمه بلغة الضاد ومدى سعة اللغة العربية في أوضاعها الأسلوبية والبلاغية، ولعل هذا ما يؤكده شوقي ضيف قائلاً:

”حقاًّ قد يجري الغموض والالتواء في جوانب من كتابته، وهما طبيعيان لمثل هذا الكاتب الذي كان يسرف في التعمق والتغلغل في معانيه إسرافاً تنوء به اللغة، فلا تنهض بما يريد أحياناً، غير أنها حين تواتيه، يجتمع لتعبيره جلال الإدراك العقلي وجمال الأسلوب اللفظي، إذ كان له ذوق مهذب مصفى وحسّ دقيق مرهف وعقل يقتدر على التجريد والتوليد والنفوذ إلى العلاقـات والدلالات البعيـدة“ 24.

بعد هذه الإلمامة بمعنى الأدب عند الرافعي، نستخلص جهوده وآراءه التي وضعها لتوضيح القواعد والشروط التي تشرع للأديب سبلَ الإجادة في عمله الأدبي، وقد تطرق الرافعي في كتابه "وحي القلم" إلى مثل تلك المسائل العديدة التي حددت معالم الأديب، بدءً بتعريفه للأديب في قوله: ”لو أردتَ أنْ تعرف الأديب منْ هو، لما وجدت أجمع ولا أدقّ في معناه منْ أنْ تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط“ 25.

إنَّ المُسَلَّمة التي ينطلق منها الرافعي في تحديده لملامح تلك الشخصية هي أنَّ الأديب يعيش في واقع تؤطره حدود الزمان والمكان، ومتى تبلورت أحاسيسه وأفكاره توسع مفهومه للكون والحياة والإنسان. ومن ذلك، يفر الأديب منْ أنْ تأسره تلك النظرة الضيقة للواقع، بل عليه تصحيح نظرته إلى الوجود والإنسان ونفي عنهما كل غثاثة وفضاضة، ليرقى بهما إلى درجات عالية من الكمال والإبداع اللذين لا نهاية لهـمـا 26.

وإنَّا لنعثر على الكثير من هذه المعاني بصورة عميقة فيما أنتجه الرافعي أدبياً، ولنتأمل هذه القطعة من كتابته وهو يصف رجل الكمال السماوي:

”وإنك لتراه يستلّ جمال هذه الطبيعة كلها من نفسه الكبيرة ليلقي على الناس محبة منها، كأنَّ الطبيعة لا تجد طريقاً إلى النفوس الضعيفة إلاَّ بعد أنْ تُصَفَّى وتَصْفُو في نفوس الشعراء فتخرج منها كما تنبعث المعاني الغزلية الكبيرة من عيني الحسناء الفاتنة ولكل معنى طابعه الخاص به في النفس مع أنها جميعاً من مصدر واحد“ 27.

ولعل صورة الطبيعة في ذهن هذا الإنسان، تحتل أعلى درجات الجمال في الوجود وعندها أصبح حريٌّ به أنْ يوظفها في إنتاجه الفني، ليُنَمِّي مداركه العقلية ومستواه الشعوري أثناء العملية الإبداعية. وأمام هذه الحقيقة، يحاول الرافعي تتبع مصدر وجودها الذي لا يتمثل لنا إلا في قولـه: ”إننا لا ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلاَّ إذا كانت النفس قريبة من طفولتها ومرح الطفولـة ولعبها وهذيانها“ 28.

ولكن هذه النظرة الشاملة لوظيفة الأديب عند الرافعي، تجلت بقدر وافر في إلحاحه على وجوب توفر فكرة الجمال في العمل الأدبي، لأنه في اعتقاده كلما كان المتلقي قادراً على الاستمتاع بذلك الفنّ، كلما كانت لديه القابلية لتذوق ضروب فنية مختلفة.

ومع هذه الصوفية الحالمة في هُيَام الرافعي بالطبيعة وتقديسها، إلاَّ أنه لم يُقْصِ المجتمع بهمومه من إنتاجه الأدبي، بـل في الوقت الذي يتلظَّى فيه المجتمع بنيران مشاكله، نجد الرافعي يُوصِي الأديب ألاَّ يتخلف عن الأصول الاجتماعية وأنْ: ”يتسع إحساس الأديب بالحياة، وبفنونها وأسرارها في كل من حوله، إلى إحساسه بالكون ومجالاته وأسراره في كل ما حوله“ 29.

فمعانقة الأديب قضايا المجتمعات وآلامها وآمالها من أوجب واجباته، وهو الاتجاه الذي يسايره أيضاً طه حسين حين يبادر إلى القول: ”بأنَّ الأدب لا يُقَاسُ بالجمال، ولا يُقَاسُ بإِرْضَاء الذوق ولا يُقَاس بتعميق المعاني والآراء وهذا المذهب الفلسفي أو ذاك، وإنما يُقَاس قبل كل شيء بالإعراب عن حاجات الشعوب إلى ما يقيم حياتها المادية قبل كلّ شيء“ 30.

وفي نفس المعنى، يذهب فؤاد مرعي موضحاً مهمة الأديب الأساسية، بعد التأثير في القراء، هي خدمة أغراض المجتمع والتعبير عن مشكلاته، وفي ذلك يقول: ”مهما كانت قوة التأثير الحيّ الذي يمارسه الموضوع المصوّر على القارئ، فإنَّ ذلك التأثير لا يحقق غايته ما لم يكنْ يمسّ مصالح الناس الحيوية“ 31.

ومع هذا، تبقى القيم الفنية والجمالية الخالصة في الأدب مطلباً لابد من أنْ نتلمسه في النصّ الأدبي، ولكن توفره يحتاج من الأديب أناةً ورويَّةً وتفكيراً يتولى على إثرها تربية ذوقه الفني، ليتيح لأدبه الاستمرار بل البقاء والخلود، ولعل ذلك لا يصدق، إلاَّ إذا أخلص الأديب لفنه، واستغرق فيه، مما سيجره إلى تقديس الجمال في كل شيء، وفي كل صورة، سعياً نحو الحقيقة وطلباً للسعادة 32.

وعكف الرافعي بعد ذلك على دراسة طبيعة تلك الجمالية وما تثيره من لذة ومتعة في نفسية القارئ باعتبار اللذة الجمالية في الصياغة ليست أساس الفنّ كله بل هي تحررٌ إلى لذة أكبر 33. ومن هذا المنطلـق، جاء حرص الرافعي على توظيف اللذّة في المثير وبيان درجة الاستمتاع بها، وفي هذا يقول:

”واللذة بالأدب غير التلهي به، اتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعاً على ذلك فيخرج إلى أنْ يكون ملهاةً وسخفاً ومضيعةً، فإنَّ اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغـة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس وهي الأصل في جمال الأسلوب“34.

ففي مرحلة أولى، يعمل الرافعي على حصر الأدب الهادف في حدود اللذة الجمالية مشيراً إلى أنَّ تقويم النص الأدبي يتمّ على أساس ما يتضمنه من معاني الفضائل، والقدرة على التوجيه نحو المثل والقيم الصحيحة. وذلك في اعتقاده حتى لا يقع الأدب في جوّ مضطرب تتجاذبه السلبيات من ميوعة وانحلال. وفي ظلّ هذا التصور، نأخذ قول الرافعي وهو يحدثنا عن فهمه للحياة:

”من فلق الصبح ومن روعة الشمس، ومن إقبال الليل وإدباره، وبما يعرفه من هذه اللغة التي تنزل بها السماء ما يتصل بنا من معانيها، لغة القضاء حين يسأل ولغة القدر حين يجيب، وبما يستوحيه من معاني هذه الإشارات التي تتحرك بها روح جوارح الطبيعة، وهي مزيج من لغة البقاء الأرض الذي يريد أنْ ينتهي ولغة الخلود السماوي الذي يريد أنْ لا يفنى، فالحياة يا شاعري العزيز لا تخرج من الدواة، ولا تقطر من القلم، بل أنا أحسب هذا المداد الكثير الذي أراقه عليها الناس هو جعلها كما يقول الناس سوداء“ 35.

إنَّ الرافعي الكاتب يعيش في هذا المقطع لحظة مضيئة تجيش فيها عاطفته وتتدافع حتى تجرفه إلى القول بمثل تلك التعابير (لغة القضاء، جوارح الطبيعة، لغة الخلود، إلى آخره)، وإنْ شئتَ من منظور آخر، فهي صور جمالية بهية الوصف وقعت في نفس كاتب رقيق واقعي.

وبهذا يمكن القول بأن الرافعي حُظِيَ بمستويين من اللذة الفنية في كل ما أبدعه: حِسِّي وعَقْلِي. فالأول كما يُعَرِّفه جابر عصفور مرتبط بالألفاظ المتناسبة في وزن معتدل، وأما الثاني فإنه يتمثل في تلك المعاني التي تتناسب فيما بينها تناسب صوابٍ وحقٍّ 36. ولكن تمثيل ذلك كله عند الرافعي، إنما يتمَ من خلال ذلك التقيد المتحد بين القلب والعقل، إيماناً منه بأنَّ جمال الأسلوب إنما يبنى ويدرك بهما، لذا يأتي الأديب عنده جامعاً بين الجمال الحسي المرتبـط بالمشاعـر والذكريات ومعالم الماضي والحاضر، والجمال العقلي الذي يتصل بعلوّ أسبابه ومعانيه وسموّ فنّه البياني وذاك حتى يأتي بما لم يأت به السابقون من قبله، وإنما يمثل ذلـك كلـه في روحـه وصورة حياته بكل آماله وآلامه، ومن ثم فإن طبيعته وذوقه لا يتوقفَا إلاَّ عند إنتاج أعمـال ولآثار نموذجية 37.

وهنا، يلتقي الرافعي مع أبي حامد الغزالي في تقريره لفلسفة الجمال المعبر عن ذاك الفنّ المهذَّب، حين يقول: ”يدرك الجمال الحسِّي بالبصر، والسمع وسائر الحواس، أما الجمال الأسمى فيدرك بالعقل والقلب“ 38. ولعل هذا الطرح، كان منطلق الرافعي ليسـأل نفسه عن مهمة الأديب: أهي للإمتاع واللذة أمْ للفائدة والتهذيب؟

إلاَّ أننا نجد فلسفة الرافعي في الجمال قريبة من منظور المنفلوطي الذي يجمع، كما يذكر أبو رية، بين ما يرضي وجدانه وقلبه، ومع ما يتناسب في الوقت نفسه مع عقله وفكـره 39. ولما يصل الأديب إلى هذا المستوى من الامتياز الفني، سوف يثير ويحدث في المتلقي لذة يفصح من خلالها بصدق عن ذات نفسه، وعندئذٍ نسلم بتسميته: "الأديب العبقري".

وتقودنا العبارة الأخيرة، إلى الحديث عن مفهوم العبقري والنابغة في الأدب عند الرافعي، وما يتصف به صاحبها من مواهب واستعدادات طبيعية، تمكنه من ذاك الإبداع الأدبي. وفي هذا المنحى، نجد للأستاذ شوقي ضيف ومضات تتلألأ، إذْ نجده يقول:

”كم من الناس عاشوا وماتوا دون أنْ يشعر بهم أحد، وكذلك كم من النماذج الأدبية أصبح هشيماً تدروه الرياح أو قُلْ أصبح هباءً، لأنه لا يحمل الصفات التي تبقي عليه فضلاً عن تلك التي ترفعه شامخاً في الوجود البشري كالطود الراسخ“ 40.

وفي ظلّ هذا التصور ذاته، تأتي عناية الرافعي بالأديب العبقري، الذي لا يراه إلاَّ أنه مخلوق بقيت فيه شحنة نفسية وانفعال وجداني سرعان ما يتجسد في جنس من الأجناس الأدبية، وعلامة تلك المعاناة النفسية إنما تدركها فيما يسمى بالإلهام، حين يكتب الأديب ما أراد أنْ يكون، ويأتيه ما لا يشبه ما كان ابتدأ به، فيجيء بالمعنى ثم يقطع عنه بسببٍ حتى يعاوده، فإذا هو بمعنى جديد في موضوعه. وعندئذٍ فقط يتمّ تمام الأديب العبقري النابغة الملهم 41.

وهي نفس النظرة التي عني بها علي شلق في بنائه لمفهوم العبقري حين وصفـه بأنـه: ”ذو رهافة حسية، وعاطفة مشوبة، وإلهام يتلقاه من عالمه الداخلي، والخارجـي يلتقـط السوانح، وتطيف به الحالات المبدعة، فيبدو أحياناً سجين ذاته، وحيداً في غربته، مخفقاً في التعاطي مع الناس، ينشد أبداً عالماً أفضل وأجمل، وأحياناً خارج ذاته بمسافات“ 42.

ولم يتوقف الرافعي عند هذا الحدّ، بل نبَّهَ إلى أهمية عمل الأديب معرضاً في ذلك إلى تلك الصفات الأساسية التي تسمو بالأديب حيث يقـول:

”ثم إنَّ الاتساق والخير والحق والجمال – وهي التي تجعل للحياة الإنسانية أسرارها – أمور طبيعية في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنزاع والشهوات، فمنْ ذلك يأتي الشاعر والأديب، وذو الفنّ عِلاجاً من حكمة الحياة للحياة، فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعة فيه، وهو عالم أركانـه: الاتساق في المعاني التي يجري فيها، والجمال في التعبير الذي يتأدى بـه، والحق في الفكر الذي يقوم عليه والخير في الغرض الذي يساق له، ويكون في الأدب من النقص والكمال بحسب ما يجتمع له من هذه الأربعة،... وتلبس الشهوات الإنسانية شكلها المهذَّب لتكون بسبب من تقدير المثل الأعلى، الذي هو سرّ في ثورة الخالد من الإنسـان على الفانـي، والذي هو الغاية الأخيرة من الأدب والفنّ معاً“ 43.

والذي نستخلصه مما سبق، أنَّ الرافعي يدعو إلى الالتزام بغايات الحقّ والخير والفضيلة موضوعاً، دون أنْ يتعارض ذلك مع جمال العمل الأدبي أسلوباً، وهي في الحقيقة، كما يذهب شوقي ضيف إلى تأكيده، قِوىً تكمن في ذوي الشخصيات الكبرى وفي الأعمال الأدبية الفذَّة، قِوىً تُؤَثِّرُ فينا مباشرة دون وسيط، قِوىً تحقق للأديب وجوده الإنساني الكامل حتى كأنه يشارك بها الوجود كله حياته ونظامه“ 44.

ولعل الفكرة الجوهرية في كل ذلك التي يكرس لها الرافعي كل اهتمامه هي، كما يقول الجوزو: ”ثورة الروح الإنساني التي تتخذ بُعْداً فنياًّ وآخر أخلاقياًّ وثالثاً فلسفياًّ نعني: تجميل الدنيا، وتهذيب الإنسانية، وإقرار الحكمة“ 45.

ولعل دافع ذلك التوجه الجديد لدى الرافعي، إنما مبعثه تلك النزوات والغرائز كالتكسب والزُّلْفَى بالثناء الكاذب والملق الممقوت، التي غلبت على العصر، فتصدى لها محاولاً توجيه الناس نحو الخيـر، باثًّا فيهم كُرْه الشرّ، مطالباً الأدباء على الخصوص الالتزام بالمعايير الأخلاقية في أعمالهم الأدبية لأنَّ كثيراً منهم، كما يذهب أحمد كمال زكي: ”يقدمون لنا قيماً شوهاء ومبتورة وذلك دليل على عدم استكمال أسباب نموهم الفنـي“ 46.

واستمرَّ الرافعي في دعوته إلى هذا الشكل من الفنّ، ونقصد به أدب الكرامة والفضيلة الذي خصص له جزءً كبيراً من آرائه، مُكَرِّساً فيه القيم الخُلُقِية النبيلة التي على الأديب الاهتمام بها في شتى موضوعاته الأدبية. وظلَّ هذا الاهتمام الأدبي كامناً في نفس الرافعي يطلّ برأسه بين آونة وأخرى، ليس من خلال الموضوعات الأدبية التي تتطرق إليها الصحف والجرائد فحسب، بل حتى من خلال دراسات الأدباء الأدبية منها والاجتماعية أيضاً.

وقد دعا الكثير من الكتاب إلى مثل هذا التصور، مؤمنين بأنَّ طهر الإضاءات الوجدانية وصفاء الإشراقات العقلية في نفس الأديب، هي وحدها الكفيلة في بناء الموضوع وفق جمالية فنّية راقية، بشرط، كما يقول أبو حامد الغزالي، إذا:

”انقدحتْ فيها خواطر الخير من خزائن الغَيْب ومداخل الملكوت، لينصرف عقل الأديب إلى التفكير فيما خطر له فيعرف دقائق الخير فيه ويطلع على أسرار فوائده فينكشف له بنور البصيرة وجهه، فيحكم بأنه لابد من فعله فيستحثّه عليه ويدعوه إلى العمل به“ 47.

وبعد هذا المقدار من المواقف والتصورات فيما يتصل بنظرة الرافعي للأدب والأديب، والتي لا ندَّعي أننا قلنا في شأنها الكلمـة الأخيرة - فقد التمسنا الوقوف مع هذه الرؤى الرافعية، بغية استجلاء أمور أهمها:

أ- أنَّ مفهوم الأدب عند الرافعي ينطلق من الجانب الشكلي للأدب، أيْ اللغة. ولعل أهمّ ما في هذا التصور، أنّ الرافعي آثر على نفسه أنْ يؤسس مستوىً جديداً وجيداً للغة العربية بعد الاستخفاف الذي أصابها من أهلها، حيث ظلَّ يعتبر لغة القرآن الكريم وسيلة فنية راقيـة، وأداة حيَّة لا متناهية يوظفها الأديب لإبداع صور ومستويات من التعبير القادر على المعاصرة. ولعل هذا ما حاول الرافعي الوقوف عنده في مقدمة كتابه "حديث القمر"، حين أشار إلى مذهبه الفني الجديد في الكتابة العربيـة.

ب- نشأ عن هذه القضية إحساس الرافعي المتزايد بقيمة تلك اللغة فصاحـةً وتركيبـاً، وقدرةَ ألفاظها على حَمْل معانٍ يعبر الأديب من خلالها عن مشكلات الحياة وهموم التطور الإنساني الذي يطرأ على أيّ مجتمع من المجتمعات. فرأى ضرورة الاعتماد على المعاني والألفاظ في بناء شكل النص الأدبي، والتأكيد على وجوب الأديب إتقان الصياغة اللغوية لينفذ إلى أسرار الأسلوب البياني وجمالـه.

ج- أنَّ الأديب الحقيقي عند الرافعي هو المبدع بغير تقليد، الذي يسمو بفنه البياني ليدرك حقائق الجمال في المثير التي لم يتذوقها أديب قبلـه، وذلك كله طلباً للكمال والإبداع اللذان لا نهاية لهما، وعندئذٍ يضع يده على محرك الخالد فيه: القلب والعقل، أو العاطفة والفكر.

د- أنَّ الأديب لا يستطيع أنْ يُبْدِعَ أوْ يُجِيدَ إلا إذا التزم بقواعد ترسم له الطريق، تحقيقاً لغايته في هذه الحياة، منها: الأصالة، والجدَّة، والطبيعة، والجمال النفسي والروحي.

ﻫ- التأكيد على القيم الجمالية في الأدب والفنّ، ومدى اتصالها بالحياة، حيث جعل الإمتاع واللذَّة على اختلاف أنواعها من عقليـة وحسيـة وروحانيـة من أهمّ غايات الأدب واهتمامات الأديب في إدراكه للجمال الذي يصاحب عملية التذوق الفني.

و- أخيراً، رأيه الفلسفي في الإلهام وما يحمله من سمات النبوغ والعبقرية التي بدت في تلك اللَّذَاذَة الروحية من نفس الأديب، وذلك حين يُنْظَر إلى أعماله الأدبية الراقية التي خَذُلَ غيره في الإتيان بمثلها والكتابة على تفاصيلها، هو قد تمكن منها بامتحانه في الحياة الذي أخْرج له الحقيقة الثابتة في أدبه وفنه، فلمْ يبْقَ له من ذلك المألوف إلاَّ ما جرتْ به العادة في القول والنظم.

وبعد هذا كله، فإنا نجد الرافعي برؤاه في تحديد ماهية الأدب ودور الأديب، قد تبوَّأَ منزلة لامعة بين أدباء تلك الحقبة الزمنية ونقادها، والسبب: ”لا إلى إصرار بعض النقاد على آرائهم ولا إلى اتخاذهم مواقف معينة من الحياة والمجتمع ولا إلى عجزهم عن مسايرة ركب الحضارة والتقدم ولكن إلى سبب رئيسي أهمّ من كل هذه الأسباب، وهو طبيعة فهمهم لـلأدب“ 48.

فقد لمس الرافعي واقعه الأدبي وجسَّده في آرائه النافذة بعد إعمال فكره وإسهامه في خلق عالمه الخاص به والمتشكل عموماً من خلال قراءاته المتكررة. وبهذا، كلما اهتدى القارئ إلى مطالعة أعمال الرافعي وتتبع مواقفه وجد ذلك الفن الجميل، الذي لا يستخدم إلاَّ للتمييز بين قيمة أديب عن أديب آخر، أو ناقد عن ناقد آخر.

= = = = =

إحالات المقال

23 عبد العزيز المقالح، عمالقة عند مطلع القرن. ص 134.

24 شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر. مصر. دار المعارف. ط 4. 1971. ص 247.

25 الرافعي، وحي القلم. ج3. ص 214.

26 المصدر نفسه. ص 216.

27 الرافعي، حديث القمر. ص 47.

28 الرافعي، وحي القلم. ج1. ص 47.

29 المصدر نفسه. ص 219.

30 طه حسين، من أدبنا المعاصر. بيروت. دار الكتاب اللبناني. ط1. 1974. ص 346.

31 فؤاد مرعي، مقدمة في علم الأدب. بيروت. دار الحداثة. ط 1. 1081. ص 13.

32 بدوي طبانه، قضايا النقد الأدبي. الرياض. دار المريخ للنشر. ط 4. 1984. ص 21.

33 جودت فخر الدين، شكل القصيدة العربية. بيروت. دار الآداب. ط 1. 1989. ص 123.

34 الرافعي، وحي القلم. ج3. ص 218.

35 الرافعي، كتاب المساكين. بيروت. دار الكتاب العربي. ط 9. 1973. ص 123.

36 جابر أحمد عصفور، مفهوم الشعر. القاهرة. المركز العربي للثقافة والعلوم. ط1. 1982. ص 94.

37 الرافعي، وحي القلم. ج3. ص ص 224-225.

38 أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين. بيروت. دار المعرفة. ب.ط. ب.ت. ج3. ص 6.

39 محمود أبو رية، من رسائل الرافعي. مصر. دار المعارف. ط 2. 1969. ص 42.

40 شوقي ضيف، في النقد الأدبي. القاهرة. دار المعارف. ط 6. 1981. ص 184.

41 الرافعي، وحي القلم. ج3. ص ص 227-229.

42 علي شلق، الفنّ والجمـال. بيروت. المؤسسة الجامعية. ط1. 1982. ص 19.

43 المصدر السابق. ص ص 213-214.

44 شوقي ضيف، في النقد الأدبي. ص 184.

45 مصطفى الجوزو، الرافعي رائد الرمزية العربية المطلة على السوريالية. بيروت. دار الأندلس. ط 1. 1981. ص 171.

46 أحمد كمال زكي، دراسات في النقد الأدبي. ص 24.

47 أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين. بيروت. دار المعرفة. ب.ط. ب.ت. ج3. ص 46.

48 رشاد رشدي، مقالات في النقد الأدبي. القاهرة. دار الجيل للطباعة. ط1. 1962. ص 3.

D 25 آب (أغسطس) 2014     A بغداد عبد الرحمن     C 0 تعليقات