عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غـالـيـة خوجـة - سورية

ألواح عشتار المفقودة


غالية خوجةرائحة الفحم القادمة من شتاء بعيد ترمي ذاكرتي في نبع مجهول. ستمرّ شجرة زرقاء وتلتقط البخور، ولن يعيد المشهد ترتيب عناصره، كما لن يعود ثانية إلى مخيلتي.

لماذا نفقدنا، مرة واحدة، وإلى الأبد؟

جرّبتُ الخروج من النشيد لكنّ كلماته تأبى مغادرة دمي وروحي. ثمة عرائش للغياب تفوح عطرا ورائحة محترقة غريبة ومنعزلة مثل موسيقى إلهيّـة ضائعة. ثمة فحم يحترق في شتاء مضى وشتاء سيأتي، ورائحته تشدني إليّ لعل الهواء الهارب من الغربة يتآلف مع ذاكرة جديدة، لعل مخيلتي تغادرني. وفي الحضور الأشد غموضا، أرى أطيافا تضج بين الكلمات، حولي، في هذه الصحراء، في غرفتي التي هناك، وفي غرفتي التي هنا.

أشعر بأنفاسه الخائنة تتراكم بين الفحم والنار ولا تتطهر.

الصمت الداكن يلفح النخيل. موجات البحيرة تنتظر الصباح.

وريثما تستيقظ طيور شكوكي، أستدير فيّ. أعِـد ُ ما يتلاشى مني بأني سأحرق وفائي وصدقي وإخلاصي. فهل سأحرقني معهم أم...؟

بعض التي مني تابعتْ: ومنذ خياناته سأكتب عليّ الخيانات. لكن، من أين أبدأ؟ من جسدي؟ أم من خمرة منسيّـة في العشب؟ أم من زيوت التعاويذ المدفونة بين الأضرحة؟ تلوتُ روحي على روحي، فارتعشت المكونات.

ليتني أعود أنا، ليتني أعود إليّ.

ليتني لم أكن، أم ليتني أكون؟

ترانيم من كهوف قديمة تخرج من النقوش. الجدران تهتز. الأشباح تبدأ سكـْـرتها. والفضاء الشفاف كزجاج أزليّ يتهشم.

الأصوات أغصان يابسات تتكسر.

الصمت ينسحب من القواقع.

النصوص التي لم يكتبها أحد ترقص كأوراق الخريف.

والريح، وحدها، تخرج من قناطر النار اللا مرئية.

لا الليل يعيد نجومه.

لا الوقت يستعيد اللحظات.

ووحدي حريق مستعجل يلتهم وحدي، فتنبت الغابات من الرمائم، ويتكاثر العشب بين الصخور. هناك، في آخر غابة، بل في آخر غصن من آخر شجرة في آخر غابة، ألمح روحي شرنقة تؤرجحها الجروح، وحين تخرج من الأسئلة عن الأسئلة، تصير فراشة خرافية، أو كواكبَ لم تألفها المجرات، أو أبجدية غريبة عن الأبجدية.

أزرق مضبّـب هذا العدم.

أرجوانيّ متغازل هذا الفراغ.

والكون، نقطة تحت اسمي. ثمة صدى صاف كمطر مغادر ينشد مع الحلاج: "أنا نقطة الباء"، أو "ما في الجبة إلا الله". أو أنا الإشراق المبكر في لغة السهروردي.

سأترك لكم ما بعد (أو) مفتوحا، لعل قلوبكم تمتلئ بالاحتمالات النورانية أكثر، فتفيض براكين الزمن الآتي بأرواحنا.

مطر على الألواح الطينية المنقوشة بأقلام الغيوب.

مطر على الرقـُـم المهشمة.

مطر على الأنثى اللازوردية وهي تعبر الابتهال إلى الابتهال.

مطر... يحترق. وشتاء لتوّه يخرج من المقابر. والثلج قاب عتمتين أو أدنى.

هل تستغرب الريح من ظنون امرأة تمشي بين العناصر، فلا تتجمّـد الأنحاء، ولا تسيل الأقاصي إلاّ لتحتفظ برائحتها؟

ثمة فحم قديم يشتعل كذاكرة بلا مأوى. وخلف كلِّ ثمةَ، حكاية لامرأة تتناوب السرد مثل شتاء يرقب لعبة َ طفلة تجاوزت الموت َ إلى العاصفة المقابلة، فتبادلت النيران ُ الأجسادَ، واستيقظت الاحتمالات اللا مكتوبة لتقرأ ما يتوارى في الألواح:

لوح النار الأولى:

الجمر الشارد في المدفأة يعني أن المطر الهارب إلى الشجر والنوافذ يختلس همسات العاشقين.

لوح النار الثانية:

اللهب المستيقظ حين يقرع الأجساد يعني أن الوطن أشلاؤنا والسماء تقف على القبور.

لوح النار الثالثة:

الرماد النشوان الذي ليس هنا، ولا هناك، ربما يشير إلى القصة كي تبدأ من النهاية: لكن ّ الألواح المفقودة تأبى الظهور، صاح صوتها من كهف يُـسارر الأحلام، فتدحرجت الخرزة الزرقاء من سماء ستكون، واشتبكت بالمخيلة.

من آنها، وعشتار تبحث عن الذي ليس في الألواح. ماذا لو تأملنا نبضاتها وهي تتصاعد مع رائحة الفحم؟ وماذا لو أن الشتاء اختفى في الشجرة؟

ش

ظ

ا

ي

ا

هل أخبرت الريح القارئ بأن لا يغوص في الدلالة أكثر وإلا ّ أصيب بلعنة المجهول؟ أم أن ّ الدلالة وشتْ للدلالة فطافت النار حول الماء مثنى وثلاث ورباع؟

ما زالت زخات المطر تحط على أوراق الخريف وهي تحط على النوافذ لتغطي أسرار العاشقين، بينما أرقي الأرجواني يأتي مستعجلا، عنيفا، يقرأ ما غاب عن الغابة والغيم والنقطة، ويبدأ ـ دائما ـ من لوح جديد.

لوح النار اللا منتهية:

ماذا (. . .)؟

(. . .) لو أن،

القارئ (. . .)،

أ

ح

ر

ق

هواجسه (. .)،

وذاب مع اللا مقروء بين الأقواس؟

ثمة شتاء يصير فحما.

وذاكرة تنبت من أشجار الثلج.

ومخيلة تنزح عن المشهد لتدخل بوابات القصة.

أين بقية الألواح؟

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A غالية خوجة     C 0 تعليقات