غالية خوجة - الإمارات العربية المتحدة
دبي: الحوار الثقافي العربي الألماني
استضافت إمارة دبي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2008 الملتقى الثقافي العربي الألماني الذي نظمته مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وشاركت فيه مجموعة من المثقفين الألمان والعرب، وتناولت جلساته موضوعات من قبيل: "الاستشراق والاستغراب"، و"من سرق هيغل؟". الكاتبة السورة غالية خوجة تابعت الملتقى عن كثب وأعدت لعود الند التقرير التالي.
منذ أزمنة ونحن ننتظر من يهتم بعقولنا العربية ليفتح ضوء الذاكرة على ضوء المستقبل عبورا باللحظة الحاضرة. وتجسيدا لهذا الاهتمام، بدأت تشع الاحتفاءات بالمعنى الأعلى للوجود الإنساني، أي بالثقافة، في وطننا العربي الذي أدرك متيقنا أن استمراره مرهون ببنيته الثقافية ومدى مثاقفتها للثقافات الأخرى واشتباكها مع الحضارات اشتباكا فاعلا إيجابيا يشرق من قاعدة الحوار الأساسية القائمة على مقولة أنا وأنت وليس أنا فقط أو أنت فقط. وبذلك نعي أنه لا حروب بين الحضارات ولا صراع بين اللغات، بل تفاعل إنساني متواصل خاصة في مرحلتنا الراهنة التي تعاصر الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والتداخل حتى التناغم أو التعارض.
ولأجل الانزياح عن التعارض مع الآخر أيّـا كان هذا الآخر، وتأكيدا على الحركية التناغمية بين اللغات والحضارات، جاء الملتقى الثقافي العربي الألماني الذي أقامته مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تأسيسا لبداية مختلفة ومتوهجة من التضافر بيننا كعرب وبين الآخر (الألماني) الذي تعرفنا إليه من خلال فريدريش شيلر الشاعر والمسرحي منذ عام 1900م، كما تعرفنا إليه من خلال غوته الشاعر الأكثر شهرة بيننا كونه عرف الكثير عنا من خلال قراءته للقرآن الكريم واهتمامه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لدرجة أنه كتب نشيد محمد. كما اهتم بشاعر العصور المتنبي، وهو بذلك يضيف إلى نفسه الاستشراق بشكل أو بآخر. وقد يكون سبب ظهور فاوست هو هذا الاطلاع على الثقافة العربية.
ومن زمنية موازية معاصرة اهتمت كاترينا مومزن بهذا الجانب الغوتوي (نسبة إلى غوته) فقدمته ضمن معيارية فنية وموضوعية حداثية ولذلك تم تكريمها في هذا الملتقى الذي تواصل خلال يومي (26/27) نوفمبر 2008 في ميناء السلام والذي افتتحه حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بحضور العديد من الشخصيات الثقافية العربية والعالمية الهامة، التي رحب بحضورها كل من الأديب الألماني آنز بيرجر والأديب الإماراتي محمد المر.
وبلا شك، نحن بالمقابل، نقدر دور الألمان في تواصلهم مع الثقافة العربية والإسلامية لكونهم أول من قدم هذه الحضارة العربية إلى أوروبا، فترجموا عن العربية الكثير من المؤلفات، وكانت رحالتهم تكتب وتروي بموضوعية عن التسامح المجتمعي العربي. ويؤكد الباحثون موضوعية الاستشراق الألماني قياسا بالاستشراقات الأخرى فيما لو وضعنا جانبا تيودور نولدكه ومن سار على مداره كونه كان يقدم آراء مغلوطة عن الشرق خاصة في كتابه تاريخ النص القرآني الذي سعى فيه إلى إثبات بشرية القرآن.
وبالمقابل هناك مستشرقون ألمان أمثال آنا ماري شيمل ومراد هوفمان وغوستاف لوبون وسيغريد هونكه وكتابها شمس الإسلام تسطع على الغرب، ويعقوب كريزمان الذي يعتبر أول من أعد الأحرف الطباعية العربية للطباعة تزامنا مع اكتشاف غوتنبرغ للمطبعة، التي يقال إن مكتشفها حلبي رحل إلى بيروت فأنجزها هناك ثم نقل اختراعه إلى مصر.
وللمؤرخين في تاريخ الاستشراق العربي الألماني عدة آراء، منهم من يقول إنه بدأ مع المرحلة الأندلسية، وثانيهم يقول إنه بدأ مع المرحلة الصليبية، وثالثهم يقول إنه بدأ مع الراهب يوحنا الدمشقي.
وأيـّـا ما تكون البداية، فإن الاستشراق حاول إسقاط الضوء على العرب للتعرف عليهم وإليهم باستشراق كهنوتي تارة، أو باستشراق ثقافي تارة ثانية، أو باستشراق سياسي تارة ثالثة. وهذا الأخير كان المحرك الأساسي لغايات المستشرقين خدمة لبلادهم التي كانت تنهج الاستعمارَ سبيلا.
ومع المتغيرات المعاصرة، تم الالتفات إلى الاستشراق الحضاري خاصة بعد كتاب إدوارد سعيد الاستشراق الذي شكـّـل بؤرة انعطافية فيها من استقراء الاستغراب بقدر ما فيها من الاستشراق. حول هذه النقطة الهامة دارت الجلسة الأولى من الملتقى فاتحة الفضاء التحاوري بين مدير الجلسة فهمي جدعان وبين المتحدثين: مطاع الصفدي وأدونيس وأودو شتاينباخ وكاترينا مومزن.
وحاورت الجلسة الثانية الترجمة كمجال حيوي في الانفتاح على الآخر يمتد من بغداد والأندلس ويتواصل مع مشروع (ترجم) الذي تؤسسه مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. طرح النقاش العديد من التساؤلات، أهمها: لماذا يترجم الآخرون ونحن لا نترجم كما يجب؟ لماذا لا يهتم الآخر بترجمة أدبنا العربي؟ هل للترجمة دور تنويري أم تغييري؟ ما أولويات الترجمة؟ وكيف يتم تطوير اللغة من خلال الترجمة؟ تحدث في الجلسة التي أدارها ليزلي ترامونتيني كل من جلال أمين والطاهر لبيب وشهاب غانم وهانس آنز بيرغر وأنغليكا نويفيرت.
واتخذت الجلسة الثالثة بعدا جدليا انطلق من سؤال: من سرق هيغل؟ وما هي تأثيرات التغيرات السياسية في العالم على الثقافة؟ وإلى أي مجال يتم التداخل أو التحاور أو المحاكاة أو التناص؟ أدار الجلسة عبد الخالق عبد الله بين كل من مصطفى ماهر وخيري منصور وفولكر براون ودانييلا دان مبتدئين بنهاية التاريخ مع فرانسيس فوكوياما الذي أعاد إنتاج الهيغلية تبعا لما آل إليه العالم بعد الحرب الباردة. أثبتت الجلسة العلاقة بين هذه الأطروحة وسقوط جدار برلين حيث دخلنا مرحلة ما بعد التاريخ. وهناك مؤرخون ومنهم ألمان يرون أن النظام العالمي الجديد بدأ مع سقوط غرناطة 1492 واكتشاف العالم الجديد.
طرحت الجلسة أسئلة مهمة على صعيد السوق والليبرالية والاحتمالات بين الإرهاب واختزال العالم بين الربح والخسارة السياسية:
1. أولريش بيك، عالم الاجتماع الألماني، يتحدث في كتابه ما العولمة؟ عن "ميتافيزقا للسوق"، معتبرها البنية الفوقية لأصولية السوق التي تختزل الثقافي والمجتمعي في قيم الربح والخسارة؟ أليست السوق في منطق الليبراليين الجدد، الذي يقول بإطلاق يدها بلا قيد ولا شرط، خطر على أبعاد الحياة الأخرى، وبلغة أخرى على غنى الثقافات البشرية وتعددها؟
2. الحرب على الإرهاب، ألا تدخل في باب فرض سيطرة نموذج للحياة والحكم والتفكير على نماذج أخرى؟
3. إلى أي حدّ أعاد فوكوياما إنتاج هيجل والهيجيلية بحيث يلبي استراتيجية الهيمنة تحت شعار العولمة؟
4. كيف يمكن للسجال حول سرقة هيجل وتجييره لنظام عالمي جديد أن يتجاوز النطاق الأكاديمي إلى الرأي العام؟
5. أي دور للثقافة أمام التحديات السياسية الراهنة؟ هل علينا أن ننهج طريق إدوارد سعيد وتشومسكي، التي ترفض فرض نموذج على نموذج وتفكك المركزية الغربية وميكانيزماتها الظاهرة والخفية أم طريق فوكوياما التبريري؟
6. هل تمر البشرية في حقيقة انحسار المركزية الحضارية تبعا للمتغيرات الاقتصادية والسياسية الدولية الراهنة وصعود قوي لبعض الحضارات مثل الحضارة الصينية والهندية؟
وكذا، كان لا بد من مناقشة دور المثقف في حوار الحضارات: من هو؟ ماذا يفعل؟ كيف ينجز دورا فاعلا في زمن مخلخل نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا؟ أدار الجلسة سعيد حارب مشاركا كلا ّ من فهمي هويدي ومحمد عابد الجابري وأدولف موشج.
تجاذبت الآراء ما كتبه أنطونيو غرامشي عن المثقف العضوي وما أثاره سارتر بعد الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى ما شهدته مرحلة الحرب الباردة من كثافة في البحث عن دور المثقف الذي في النهاية عليه أن يكون البوصلة الأخلاقية المشعة التي تقوّض الخلل وتعيد الحياة الإنسانية إلى أفلاكها الطبيعية بعيدا عن الزيف الثقافي والخداع الثقافي والمثقف المتزأبق بين السلطة والمصلحة الخاصة والأيديولوجيات وغيره. المثقف هو القاسم المشترك الإنساني الذي يفعـّـل الأشعة المضيئة لينتج حيزا مختلفا للأرواح والمجتمعات والأزمنة والأمكنة مع الأخذ بعين المعنى أن يكون لوسائل الإعلام دورا إيجابيا بعد تجربتها التخريبية التي طالت كثيرا.
وعليه:
1. هل يستعيد المثقف الآن دورا مسروقا أم يجترح دورا محظورا بعد انسداد الآفاق، وعسكرة الدبلوماسية الدولية، والعزف الصاخب على وتر الإثنيات وحروب العقائد؟
2. هل سيفلح المثقفون شرقا وغربا في إنقاذ العالم من هذا التورط بعصاب الهويات سواء كانت قاتلة كما يسميها أمين معلوف أو عصابية وخانقة كما يسميها داريوش؟
3. ثمة فرضيتان حول التاريخ إحداهما تنذر بنهايته والأخرى تبشر بقيامته، أي دور للمثقف في هذا، وهو الكائن المشروط بأطر أيديولوجية وطبقية وغيرها؟
4. إن مثقفي العالم ومنهم العرب والألمان أيضا يعانون من ميراث الحرب الباردة التي سطت على الثقافة، وسيّستها، إضافة إلى ارتهانها لهذا القطب أو ذاك.
5. هل يعيش المثقف الآن حقبة ما بعد الثقافي بمعناها الكلاسيكي انسجاما مع ما يسمى الـ "ما بعديات"، بدءا مما بعد التاريخ وما بعد الدولة وما بعد الحداثة؟
6. كم حربا كونية وإقليمية أخرى سيقطع العالم قبل أن يستعيد المثقف نفوذه وضرورته في عالم يسعى سادته الأقوياء إلى تدجين المثقف وتهميش الثقافة؟
7. هل يمكن لمثقفي العالم أن يحققوا العبور المحلوم به للغات والأمزجة السياسية وهواجس الهوية والأيديولوجيا؟
8. إن تجاوز السقفين السياحي والدبلوماسي في العلاقات الثقافية بين الأمم يتطلب جهدا يساهم فيه الأكاديميون والمبدعون، فإلى أي مدى يتاح للمثقفين العرب والألمان ذلك، خارج نطاق العلاقات الرسمية التي غالبا ما تحتكرها الدول ومؤسساتها؟
ثم جاءت جلسة حرب اللغات لتكشف اضطهاد الإنكليزية للغات المعاصرة الأخرى، ومن رؤية أخرى لتكشف عنصرية اللغات التي تميز مثنويا بين لغة للكبار ولغة للعامة. ومن ثمة لتتساءل هل أصاب ميشائيل هيرمانتس في كتابه تاريخ اللغات ومستقبلها حيث قضى بالانقراض على أكثر من عشرة آلاف لغة، ولشدة عنصريته لم يذكر اللغة العربية في كتابه الآنف الذكر؟
وضمن هذا المنظور تمّ التساؤل عن دور اللغات غير الإنكليزية وعما الذي ستفعله لتحافظ على كينونتها وبقائها؟ وإلى أي حد تؤثر الأدلجة والسياسة على ظهور لغة وتمويت أخرى؟ وهل جاء دور اللغة الصينية في غزو العالم قريبا أو بعيدا؟
كان المشاركون في هذه الجلسة سليمان الهتلان حسام الدين الخطيب وميخائيل كروكر وإيلما راكوزا.
وحسمت الجلسة الأخيرة حضور التراث العربي في ألمانيا منذ اهتمام الألمان بأهم الكتابات العربية والإسلامية من ترجمة المؤلفات وتحقيق المخطوطات والاهتمام بالشعر لدرجة أنهم اقترحوا تدريس المعلقات في مدارس ألمانيا، إضافة إلى اهتمامهم بالمتصوفة. كما ساهمت المؤسسات والمجلات في هذا الاهتمام مثل مراكز غوته المنتشرة في العالم العربي ومجلة فكر وفن. وجدير بالذكر أن العالمين العربي والألماني تفاعلا مع ثقافتهما منذ أكثر من قرن ونصف لكن بجهود غلبت عليها الفردية. فهل من أسس جديدة للتفاعل الجماعي من خلال المؤسسات ودور النشر والمعارض وسواها؟
أدارت الجلسة أمل جبوري وساهم فيها كلاوس بيتر هازا ومصطفى ماهر وعبده عبود.
أخيرا، بإمكاننا القول إن هذا الملتقى افتتح حالة اللاحوار على الحوار بشكل رسمي، جماعي، وتأسيسي لحوارات أخرى في الإمارات أو في ألمانيا، باعثا على التفكير في منهجية توسع التلاقي الفكري الثقافي بيننا كعرب وبين الآخر سواء من خلال استمرارية الملتقى، أو من خلال الترجمة من العربية إلى الألمانية أو بالعكس، هذا ما عدا المعارض المشتركة التي تحتفي بالثقافة والفن والفكر. وبذلك ينجز الملتقى الثقافي العربي الألماني في دبي إشراقته المبشرة بتعددية الحضور العالمي الإنساني بعيدا عن مرحلة القطب الواحد، حاملا شعلة اللغة العربية إلى الآفاق بشكلها اللائق.
= = =
صورتان من الملتقى
- دبي: الحوار العربي الألماني
صورة لبعض المشاركين في إحدى جلسات الملتقى.
- دبي: الحوار العربي الألماني
صورة من حفل تكريم الشاعر السوري أدونيس والباحثة الألمانية كاترينا مومزن
◄ غالية خوجة
▼ موضوعاتي