جابر سليمان - صيدا، جنوب لبنان
من عناقيد الغضب إلى حصاد الكراهية
قــانــا (1996-2006)
الجزاء القانوني يجب أن يبنى على مفهوم الضرورة، فهو ضروري للاجتماع البشري أولاً، كي لا ينحدر إلى درك التوحش، وضروري للضحية ثانياً، كي لا تتدهور في سلم الآدمية.
القانوني الهولندي هوغو غروتيس—Hugo Grotius
ها هو التاريخ يعيد نفسه في تلك القرية الجنوبية الوادعة، قانا الجليل، التي شهدت قبل ألفي عام معجزات السيد المسيح ودعوته الخالصة إلى التسامح والمحبة بين بني البشر. بعد عشر سنوات ليس اكثر، تعيد دورة التاريخ نفسها في شكل مذبحة ومهزلة في آن. فبعد المجزرة التي تعرضت لها قانا عام 1996 خلال ما سمي وقتها عملية "عناقيد الغضب" تحصد قانا اليوم عناقيد الكراهية المتأصلة في ثقافة الحقد والاستعلاء الضاربة جذورها في الأيديولوجيا العنصرية الصهيونية. والمبررات في المرتين هي نفسها: الدفاع عن النفس ومحاربة الإرهاب وحماية مواطني "دولة إسرائيل." وهنا يكمن جانب المهزلة في دورة التاريخ هذه، عندما يلعب الجلاد دور الضحية، وعندما يصدق العالم المتحضر مقولة "طهارة السلاح" الصهيونية، فيوجه اللوم إلى الضحية بدلاً من معاقبة الجلاد المجرم.
من الأكاذيب التي روجت لها الصهيونية في حروبها ضد العرب أكذوبة "طهارة السلاح،" التي غدت مثار سخرية، حتى في بعض الأوساط الإسرائيلية. فالصحفي الإسرائيلي غبرئيل بيتربرغ يعلق في صحيفة معاريف 5/7/1996 على صدور الطبعة العبرية من كتاب "حرب الحدود" للباحث الإسرائيلي بني موريس، الذي يتحدث فيه عن العمليات الانتقامية الإسرائيلية (المجازر) ضد المدنيين العرب (1948-1956) مثل مجزرة قبية وغيرها، يعلق قائلا: "إن التوثيق الدقيق للوقائع من قبل الباحث ينبغي له أن يدفن نهائياً ذلك الشعار الفظيع والمثير للسخرية عن "طهارة السلاح،" مستنتجا أن الهمجية لم تكن مجرد ظاهرة شاذة وإنما هي ظاهرة شائعة تثير الأسئلة بشأن المجتمع والثقافة والأيديولوجيا، ما دام الجيش الإسرائيلي كان فعلاً ولا يزال جيش الشعب." وفي صيف عام 1982 نشر روجيه جارودي والأب ميشال لولون والراعي ايتان ماتيو إعلانهم الشهير في صحيفة "لوموند" الفرنسية بعنوان "بعد مجازر لبنان: ما معنى العدوان الإسرائيلي؟" كان الإعلان وثيقة تشرح للرأي العام الفرنسي ما جرى في لبنان عام 1982 وقبلها في فلسطين منذ العام 1948. حينها أقامت الأوساط الصهيونية القيامة ولم تقعدها واتهمت موقعي الوثيقة "بالحض على الكراهية والعنصرية ومعاداة السامية،" إذ يربط الإعلان بين مجازر إسرائيل بحق المدنيين في لبنان وبين المجازر النازية ضد اليهود، أو ما عرف بالمحرقة.
وبالعودة إلى مقولة "طهارة السلاح" نعود إلى قانا عام 1996 لنستحضر شهادات بعض الجنود وضباط وحدة المدفعية التي قصفت مقر قوات الطوارئ الدولية وارتكبت في حينها المجزرة بحق المدنيين العزل، ففي تحقيق أجراه الصحفي الإسرائيلي غيل ريبر (كول همير 10/5/1996) يقول أحدهم (الرقيب ط): "المدفع ليس سلاحاً دقيقاً ... لا يجري التدقيق في الخرائط لان هذا مضيعة للوقت ... وفيما يتعلق بقرية قانا، تقصير أو لا تقصير، سقط منهم قتلى. فما أهمية ذلك؟!"
وعندما يسأله الصحفي :"ألا توجد أي مشكلة ضميرية؟" يجيب الرقيب: "هذا جيش وهؤلاء عرب. ويوجد منهم الكثير ... لا توجد لدي مشكلة ضميرية تجاه هذه المسألة ولا لدى أي شخص من الزملاء." ويضيف الرقيب الصهيوني قائلاً: "في هذه الحالة المحددة حدث انحراف في التصويب ... وسقطت القذيفة في مكان ما كان من المفترض أن تسقط فيه ... ولكن لحسن الحظ حدث ذلك."
وفي سياق التحقيق الصحفي ذاته يقول أحد جنود وحدة البطارية المدفعية التي شاركت في قصف قانا: "دخل اتباع حزب الله قرية فيها عرب، وهذه مشكلتهم. زائد عربي ... ناقص عربي، أنت تعلم ما المقصود. هذا ما قاله لنا أيضاً قائد وحدة البطارية."
بارتكابها مجزرة قانا 2006 تضيف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مجزرة جديدة إلى سجلها الحافل بالمجازر ضد العرب كدير ياسين والطنطورة وقبية وبحر البقر وصبرا وشاتيلا وجنين وشاطئ غزة. وفي كل مرة ينجو مجرمو الحرب الإسرائيليين وحماتهم من العقاب. وفي هذه المرة أيضاً فشل مجلس الأمن في إدانة الجريمة بسبب الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل،" وتحول هذا المجلس إلى أداة بيد السياسة الخارجية الأميركية.
يقال أن المجازر لا تدخل التاريخ والوقائع السياسية عبر استحضار أهوالها ووقائعها فحسب، بل عبر ارتفاع صوت الضحية ومعاقبة المجرم أولا. فمن يعاقب مجرمي الحرب الإسرائيليين وحماتهم من مجرمي الحرب الأمريكيين في إدارة بوش؟ ومن المعلوم أن الإدارة الأمريكية الحالية قد تحسبت لما ارتكبت من جرائم حرب في العراق وأفغانستان وغيرهما، ولم تعترف بمحكمة الجزاء الدولية التابعة للأمم المتحدة، معتبرة أن جرائم الحرب يجب أن تحال إلى محاكم وطنية وليس دولية.
ولكن لا يمكن لمجرمي الحرب الأمريكيين والإسرائيليين الإفلات من العقاب إلى الأبد. فمهما طال الزمن ستطالهم يد العدالة الدولية بالضرورة. وفي هذا السياق يقول القانوني الهولندي الشهير هوغو غروتيس:
الجزاء القانوني يجب أن يبنى على مفهوم الضرورة، فهو ضروري للاجتماع البشري أولاً، كي لا ينحدر إلى درك التوحش، وضروري للضحية ثانياً، كي لا تتدهور في سلم الآدمية.
والضروري لا بد أن يحدث لأنه يعبر عن اتجاه حركة التاريخ.
◄ جابر سليمان
▼ موضوعاتي