عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هدى أبو غنيمة - الأردن

فتنة الضوء


هدى أبو غنيمةانقطع التيار الكهربائي. هرعت إلى الشرفة أستطلع حقيقة الأمر في الشارع والعمارات المجاورة، لعله عطل في داري أو في الحي كله. بدا الظلام ملاءة سوداء تلفنا جميعا، رفعت رأسي إلى السماء أتتبع ضوء نجومها. لم تكن السماء صافية؛ لا قمر ولا نجوم سوى وميض بعيد يظهر تارة ويختفي تارة أخرى، بعيد بعد نفسي القلقة عن هدأة السكينة في عالم تفتنه الأضواء، وتسلبه إنسانيته، ليبدو مثل من يتباهى بما يملك، وهو معدم إنسانيا.

آثرت البقاء في الشرفة لبرهة، وقد وخزتني عينا طفل دق بابي ظهيرة ذلك اليوم القائظ، وهو يحمل كيس قمامة كالح يشبه وجوه تجار الحروب والبشر. عرض علي أدوات منزلية بسيطة، ثم همس لي بخجل: يا خالة أريد ماء باردا وطعاما.

عرفت من لهجته أنه من الذين شردتهم الحرب الأهلية في بلده. كان الكيس أثقل من جسمه النحيل، وحول عينيه هالتان داكنتان يشوبهما احمرار دائرة النار التي أسلمته إلى هذا المصير.

تلمست طريقي وسط الظلام باحثة عن شموع أحتفظ بها لمثل هذه الظروف فلم أعثر عليها أو على مصباح يدوي. عدت لألوذ بالشرفة باحثة عن وميض ما يؤنس وحشتي، والهواء ثقيل والحر يكتم الأنفاس، وهواجسي خفافيش ليل.

حانت مني التفاتة إلى نافذة في العمارة المقابلة، وقد انبعث منها ضوء مصباح. قلت: ثمة ضوء في مكان ما دوما فالحياة لا تعرف العدم. ترى ماذا ستفيدنا كل التقنيات التي نملكها في مواجهة أخطار الاحتباس الحراري، وحرائق الغابات وارتفاع منسوب المياه في المحيطات مهددا وجودنا البشري بالزوال؟ من سينجو من هذا الطوفان نتيجة العبث البشري بالبيئة؟

عاد التيار الكهربائي مثل ابتسامة أضاءت وجها حزينا، تعالى صوت التلفاز، وتوالت صور الكوارث والفواجع ومشاهد الدمار والقتل والتهجير، وانتبهت كم تخمد حواسنا ألفة الاعتياد. اكتشفت كم كنت أهدر من الطاقة في إضاءة معظم غرف البيت، وأصدع رأسي بضجيج التلفاز غير مصغية لحديث أو لحن يحاور شجن النفس. أترانا كلما افتقدنا أنس الإنسانية والمحبة في عالمنا نعوض نقصها بالضجيج والأضواء؟

أطفأت الأضواء، واكتفيت بضوء جانبي وعدت أحاور الإنسان في ذاتي.

D 24 شباط (فبراير) 2016     A هدى أبو غنيمة     C 14 تعليقات

7 مشاركة منتدى

  • كان الظلام نافذة على تأمل ما يُغَيِّبُهُ تشغيل الآليات الكهربائية من إنسانيتَنا، ومن ثَمَّ تألق النص في تَجْلِيَةِ بلاغةِ معنى الفتنة في العنوان، والتي تعني في الأصل اللغوي: "جِماعُ معنى الفِتْنة الابتلاء والامْتِحانُ والاختبار، وأَصلها مأْخوذ من قولك فتَنْتُ الفضة والذهب إِذا أَذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيِّدِ"، كما كان تشبيه كيس الطفل بليغا في الوقوف على مفارقة النور والظلام حين قالت الساردة "يحمل كيس قمامة كالح يشبه وجوه تجار الحروب والبشر". أحييك بحرارة على هذا النص الجميل.


  • الأستاذة القديرة هدى
    عنوان النص ملفت وجذاب. أخذني النص معه إلى الأمل على جناح طائر في جملة أحببتها: ثمة ضوء في مكان ما فالحياة لا تعرف العدم، والتفكير في سؤالك الذي تأملته طويلا: أترانا كلما افتقدنا أنس الإنسانية والمحبة في عالمنا نعوض نقصها بالضجيج والأضواء؟
    لك كل التقدير والمحبة.
    حماك الله.


  • كلما زادت التفاصيل من حولنا سرقتنا من أنفسنا ومن لحظاتنا الحميمة. التأمل عبادة منذ الأزل وصفاء روحي حرمتنا منه ليس الكهرباء، بكل ضجيجها، بل زاد التشتت مع كل هذه الأجهزة المتشبثة بأيدينا، لا تفارقنا ولا تترك لخيالنا حرية الانطلاق والتأمل.
    مثير في النص أن ساعة الخلوة بالنفس تجعلك تفكر بما حولك من أناس أضناهم الألم كالطفل المشرد.. الذي كان في الذاكرة لكنه لم يكن سيخطر على البال لولا لحظة التأمل تلك بعد غياب الكهرباء.. والضوضاء.
    الإنسان يزداد قسوة مع كل تقدم تقني يحيط به..
    هل سيكون الزمن القادم أكثر سوداوية وقتامة وانشغالاً عما حولنا..؟


  • الضوء اختراع كبير وباهر،وكل اختراع يأتي بنعمة تتولد عنها نعم كثيرة، يرجع فضلها الى كيفية الاستعمال .وحين نفقد الانارة نرجع الى عالمنا البدائي،الجميل فيه أنه يدفعنا الى الهمس ومخاطبة النفس وسط سكون وثبات.فالفيلسوف الاول كان يحمل قنديلا ويمشي في المقابر بحثا عن الحقيقة.
    على كل حال، فنصك جميل سيدتي ،والجميل فيه أنه يخاطب العقل والقلب معا. بورك فيك.


  • السلام عليكم أستاذتي الكريمة،
    أنا شاكر لك على هذه الكلمات المنتقاة التي تقرؤها وكأنّك تسمع معزوفة، إذا غيّرت فيها لحنا تغيّرت القطعة الموسيقية كلّها. ثمّ فالموضوع لا ينفكّ يصنع الحدث كلّ يوم، بل هو موضوع العصر. التلوّث والاحتباس الحراري ويد الإنسان العابثة التي تبطش وتضرب خبط عشواء في هذا العالم، حتّى أردته فوضى ودمار.
    واختفت الإنسانية وراء الغابة التي يقودها عصبة مجانين يتقاسمونها كالوحوش. أليست الشمس بطاقتها حلّ؟ أليست الرياح العاصفة حلّ؟ أليست الحلول كثيرة لتوفير الطاقة؟ فلم إهدار الحياة، هل نفعل ما نفعل تحدّيا للطبيعة؟!!
    وكما قلتِ فإيجاد الحلّ بيد الإنسان. ذلك الكائن النّادر.
    تحياتي


    • حية طيبة أستاذ بونيني طه ,كل االشكر والتقدير لملاحظاتك القيمةفي لحظات قد يعود الإنسان إلى بدائيته الأولى نتيجة عبثه بالطبيعة,وتعاليه على إنسانيته مفتونا بأضواء المدنية الحديثة وأسيادها الذين يزورون معاناة الإنسانية كلها.ويتاجرون بالبشر.دمت بخير

  • الكل خائف ولذا يلتجأ الى ان يحيط نفسه بالعديد من الاصوات لتاخذه بعيدا عن خوفه وترفعه عن واقعه .حين تنطفأ كل الاضواء ننتبه الى الانا التي فينا ولكننا لانجرؤ على التحرش بها فنفتح المذياع .كل الخوف مصدره الصمت.نادرا مانجد احدا يجرؤ ان يجلس في الظلام وفي صمت و يتجرأ على فتح الصندوق الاسود داخله .


  • السلام عليكم
    تحياتي لأديبتناالعظيمة
    الظلام سابق في وجوده على النور.يقول المولى في كتابه (والليل نسلخ منه النهار)و(خلقكم في ظلمات ثلاث) الظلام هو مرحلة تكوين الاشياءومنها أيضا أفكار الانسان التي يكتشف فيها نفسه ثم العالم.
    والصمت هو دليل حياة فكرية صاخبة بالانوار، ذات يوم بحثت عن الاسباب الكامنة وراء ثرثرة الناس فتبين لي أن الانسان يثرثر من خوفه من التفكير بالامور المهمة.
    والحضارة كما ذهب ابن خلدون ، لكي تستمر يجب أن تكون القوى الروحانية فيها مصاحبة للقوى المادية وإلا فالحضارة مصيررها للزوال.
    أنا أعتقد أنك في حوار مستمر مع نفسك بكل الظروف والحالات المظلمة أو المنيرة.
    دمت لنا.


في العدد نفسه

كلمة العدد 117: الصحافة والإنترنت: نهاية العصر الورقي؟

وداعا أنيس البرغوثي

الرحيل

فراشة

قــرع