عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم يوسف - لبنان

اللعنة على الشيطان


عندما كانت مملكة المرأة بيتها، كان دورها يقتصر على تربية الأطفال، بالقليل من التفرّغ والعناية والكثير من المحبة والإيثار. تواكب زوجها إلى الحقل والعمل في الكرم وعلى البيدر، تسعد معه وتشقى جنبا إلى جنب في "الحلوة والمرّة"، يدا بيد وعرقا يمتزج بعرق؛ وأملا يحدوه أمل. قلوب تأسو وتفرح وتتشارك في المحبة والتضحية والعطاء، إلاّ التعليم، فكان يقتصر على الرجل دون المرأة.

في ذلك الزمن الميمون، أوفدت إلينا وزارة التربية الوطنيّة والفنون الجميلة معلّمة وحيدة من إحدى مدن الساحل إلى مدرسة البنات الحديثة، وكانت فاتحة البدايات في تعليم الإناث.

سمعت أبي يومها يتحدّث عن ضرورة تعليم المرأة. كان متنوّرا يحسن القراءة والكتابة، يحفظ القرآن ويهوى الشعر. أحبّه إلى قلبه ما كان للمعري (1) في رثاء الفقيه الحنفي الحلبي، والجنة الضائعة لأبي القاسم الشابي.

يصغي بجوارحه ليسمع شعرا. وحين يستبدّ به الطرب، يميل برأسه في حركة موزونة رصينة تكاد لا تبين. قلما كرّر قولا أو نادرة، يتقن أسلوب الرواية ولا يعوزه التفتيش عن حديث ممتع وجديد. يحسن الكتابة وخطّه نسخيّ واضح ومقروء. يضع الألف في الكلمة المعرّفة تحت اللام في بداية العبارة، ويستعمل حين يكتب قلم "كوبيا" لا تؤثر فيه الممحاة، يبلّل طرفه من حين إلى آخر بلعابه، فيتحلّل تركيب رصاص القلم بفعل الرطوبة، فتغدو الكتابة ثابتة لا تمحى، ويتحوّل اللون الأسود في رصاصة القلم، إلى البنفسجي الداكن على الورق وفي الفم.

إضافة إلى القرآن الكريم، كان يقتني بعض الكتب: "نهج البلاغة وسفينة النجاة"، وكتاب "الرحمة في الطب والحكمة"، و"ومجاني الأدب في حدائق العرب"، لبعض الآباء اليسوعيين، وكتاب صادر في لبنان عن أولى المطابع التي تأسّست في عام 1751. وكان يملك بالإضافة إلى ذلك كتبا مختلفة للأدعية.

لكنه كان يجهل قواعد اللغة، فلا يحفل بأداة الجزم تقتحم بلا استئذان حرمة الفعل الماضي، ولا يضيره ضمير العاقل يواكب جمع التكسير. كتب إليّ مرّة وأنا في إحدى مدارس مدن المحافظة ليقول: "تأخّرنا عليك بإرسال المصاري (أي المال) لأننا بعنا فائض الحبوب، ولم قبضنا ثمنهم". وصلتني الرسالة بعد أيام عديدة من تأريخ إرسالها، ولا تتعدى المسافة بيننا إلاّ أميالا قليلة، تقطعها مركبة اليوم بأجزاء من الساعة.

يا للهول إن تناهى إلى أبي في العالم الآخر أنني أخاطب حفيدا له في الصين عبر الهواء في الصوت والصورة! من يدري لعل العالم الآخر مليء أيضا بالمركبات الفضائية وتكنولوجيا النت؟ نفسي أحسست بالذهول؛ في المرة الأولى التي تلقيت من حفيده رسالة إلكترونية مطبوعة بالألوان. أين أصبح وأمسى قلمك "الكوبيا" يا أبي؟

استقبلنا "الست لميا"، المعلّمة الوافدة في منزلنا، وخصّصنا لإقامتها "المربّع" والأصح أنّه "مكعّب". بناء مستقل له أربع نوافذ تطلّ على كلّ الجهات، تحمل إليه الهواء في كلّ وقت مهما كان الصيف قاسيا وحارا، إضافة إلى مدخل ناحية الجنوب، درءا لريح شمالية باردة، تبلغ العظم حين تعصف في الشتاء. البلدة ذات طبيعة صحراوية ملعونة. باردة في الشتاء. يلفها أوقات الصيف جفاف وقيظ وغبار يعمي العيون. هذه البلدة عشيقة شهوانيّة محترفة، وليست ساقطة. تعرف كيف ومتى تغري أو تتمنع. بيد أنني لم أتنكر لها يوما وفيها قبور أهلي وأحبابي.

البناء "المربّع" مخصّص لمنامة وإقامة الضيوف الزوار، ما زال قائما حتى الساعة، لكنه تحوّل إلى مخزن للمؤونة، يستخدمه بعض الأحفاد ممن أحبّهم وتربطني بهم علاقات قائمة على كثير من المحبة والتضحية والاحترام، اكتشفت متانة العلاقة بهم عندما تهجّرنا من العاصمة إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 2006، فسخّروا كل طاقاتهم لخدمتنا والعناية بأبسط أمورنا.

لم تكن "الست لميا" متزوّجة، لكنهم كانوا ينادونها بـ"الست" من باب التبجيل. أقامت في "المربّع" لبعض الوقت، وأساءت إقامتها إلى علاقة أخي بزوجته، ولم يكن قد مضى على وجودها بيننا شهر ولا يزيد، كما أساءت إلى علاقة أخي بأهله، ممن احتضنوا الزوجة المغبونة المهانة؛ ووقفوا لاحقا إلى جانبها. تلك الإنسانة النبيلة هجرها زوجها فانتظرت عودته بقرار صعب، بتصميم وصبر جميل. أكرمها أهلي فأغلقت أذنيها عن حديث الناس؛ رضيت بظلمه وأوكلت أمرها للزمن. ثمّ غفرت له وسامحته حين عاد إليها مهزوما وجريحا.

لم تطل بيننا إقامة الست لميا، فانتقلت إلى مسكن بجوار المدرسة، حينما بدأت تلوح في الأفق متاعب الغيرة والخيانة والحسد، وأمكنها بالرشوة أن تكسب مودّتي وتشتري خيانتي؛ لأهلي وضميري.

في الفناء الخلفي من الدار حيث سكنت، كانت تقوم شجرة عملاقة، شجرة توت "شاميّة" هي بعض فاكهة الجنّة التي لم ينه الله عن أكل ثمارها، توت له نكهة "العليق" البري (2). علّمتني التجربة ألاّ أترك آثارا للتوت على ثيابي، ما يشير إلى أنني كنت عند الست لميا، وسببا كافيا يحمل أهلي على تأنيبي وتهديدي، فينعكس سلبا على استقرار الأسرة، وسلامة العلاقة بين أفرادها.

بسليقة "الأطفال" ودهائهم كنت أعرف كيف أحقق أغراض "الست" "وأغراضي" وكيف أخدع أهلي وأخونهم، وأنأى بنفسي عن الريبة والشك. لا ينبغي أن نتذاكى على "الأطفال" لأنهم أدهى وأشدّ مكرا من المسنين.

شجرة توت أخرى: توت أبيض ذات طعم سكري. عرفتها في دار النبي. لعلّه لم يكن نبيا بل من أولياء الله الصالحين. كان يخشاها الأولاد، يخافونها ويبتعدون عنها ما وسعت أقدامهم لأنها "وقف" للنبيّ. لم تكن شجرة تفاح، بل شجرة توت محرّمة. أكلت من ثمارها بلا تردد، بقلب جريء دون ما خوف أو إحساس بإثم. كنت على يقين أنّ ثمارها ستقع وتغطّي الأرض، وأنّ النبي لن يستفيد منها أو يغضب مني وأنا ضيف في داره. أبي يكرم الضيف في داره، فما بالك بحال الأنبياء؟

ذلك الصيف وفي موسم التوت قبل أن تقفل المدارس أبوابها، عادت الست لميا إلى الضيعة ومعها هذه المرّة رشوة مضمونة النتائج. شقيقة لها تكبرني بعام أو عامين. شجّعت أختها على رفقتي إمعانا في رشوتي واستمالتي إلى جانبها. طرت بها؛ فشرّقت معها وغرّبت في الكروم، على النهر وفي أحراج الملول والسنديان، وفي مطارح بعيدة نائية تحمينا من الأنظار. عشت بجانبها أياما لا تزال حاضرة في خاطري لكأنّها حدثت في الأمس القريب.

كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير

فضّيّـة الأسحار مذهبة الأصائل والبكور

كانت أرقّ من الزهور، ومن أغاريد الطيور

وألذّ من سحر الصّبا في بسمة الطفل الغرير

قضيّتها ومعي الحبيبة لا رقيب ولا نذير (3)

أبيع عمري كله بيوم واحد لا يوم بعده، من أيام "الجنة الضائعة". سلام على المراهقة وقدسية العواطف فيها؛ تتفلت من عقال جموحها وغرائزها بلا ضوابط أو حدود، وتسعد في جنات أرضيّة ونعيم.

واللعنة على الشيطان. عليه اللعنة إن أخطأنا أو أصبنا. إذا حققنا نجاحا أو حصدنا خيبة. إذا ارتكبنا معصية أو أنفقنا صدقة وصلّينا. من يصدّق أن الشيطان صبور ومظلوم، فلا يشكو سوء أحواله أو يتذمّر؟ ما من بشريّ إلاّ وفي قلبه عداء وضغينة على الشيطان. ألا ينبغي أن نحسن عشرته لكيلا يغضب، ونبرهن له عن حسن نوايانا لكيلا يغتصب تقوانا ويجرّنا إلى مزيد من الضلال والشهوة الغلاّبة؟ الشيطان عائش فينا إلى الأبد، وينبغي أن نوطن نفوسنا على العيش إلى جانبه في سلام، فلن يأتي يوم يموت الشيطان فيه فيلعن؛ أو يرثى ويؤبّن، حتى الملائكة مدينة في امتيازاتها للشياطين. وهذا لعمري سرّ تعاسة البشر وخطاياهم.

أوهمتها يوما بدافع من شهوتي وشيطاني، أنّ فراخا في العشّ على شجرة التوت. وحرّضتها لتتسلق وترى بعينها. وتجسست على سروالها وساقيها. كان الموقف محيّرا والمشهد عصيّا على الوصف والتعبير، يحمل على التفكّر في قدرة الله وحسن صنعه، أو يرمي في غواية الشياطين. زلزلني المشهد وأصابتني أحوال صعاب، بلغت دقات قلبي حدّها الأقصى، لكأنّها تمزّق صدري لتزوغ منه أو تهرب، وشراييني كادت تتفجّر وعيوني لا تصدق. والشيطان، صاحب "صندوق الدّنيا"، يغريني ويناديني: "اتفرّج يا سلام، عالدّنيا يا سلام". الدّنيا الجميلة، العارية حتى من ورقة التوت تستر عورتها.

= = =

(1) أبو العلاء المعري في قصيدة يقول فيه:

غير مجد في ملّتي واعتقادي = = نوح باك ولا ترنّم شاد

(2) العليق: توت بري تحمله نبتة ذات أشواك

(3) من قصيدة "الجنة الضائعة" لأبي القاسم الشابي.

(4) فؤاد سليمان مؤلف كتاب درب القمر.

(5) مظفر النواب من وتريات ليلية.

D 1 شباط (فبراير) 2011     A إبراهيم يوسف     C 0 تعليقات