آمال سلامة - الأردن
حــــــــرة، ولــكـن ...
متثاقلة مشت تتأمل الوجوه. وجوه كثيرة تمرّ بها. هذا وجه طفل لم تترك الأيام بصماتها عليه بعد. وذاك وجه امرأة تحكي حكايات زمن مضى. وهناك وجه رجل ما زال يحمل بقايا من أمل.
أسرعت السير كي لا تتأخر عن لحاق الحافلة التي ستقلّها إلى مكان عملها، ونجحت في ركوبها بالوقت المناسب. أسندت رأسها إلى المقعد مستعرضة ساعات الصباح الأولى: إعداد طعام الإفطار؛ إيقاظ الأولاد؛ الاستعداد للذهاب للعمل أو المدرس؛ ارتدائها ملابسها بسرعة البرق مهملة زينتها كالعادة؛ إغلاق الباب، والعودة للطابق الرابع بعد النزول للتأكد من إطفاء الغاز؛ لقد أصبحت كثيرة النسيان.
صور متلاحقة تعرض أمامها. صورة طفلة صغيرة تحرق أمها يدها بالسيجارة لأنها وجدت محفظتها تنقص خمسة قروش. لم تأخذها، لكن أختها قالت لها: "قولي أنت فيُرفع العقاب عنّا." قالت لأمها: "أنا أخذت النقود،" فأشعلت أمها سيجارة وبدأت تطفئها في يدها وهي تقول: "هذا ليس لأجل المال بل كي لا تفعليها مرة أخرى." وتقول الطفلة في نفسها: "وهل هناك مرة أولى لتكون هناك مرة ثانية؟"
السماء ملبدة بالغيوم تنذر بيوم عاصف ماطر. قالت: "أتمنى ألا تمطر عندما أخرج من عملي." وعادت الصور تزدحم في مخيّلتها. ومن وسط الصور تخرج صورة تحاول تجاهلها ونسيانها، ولكنها تصر على أن تطفو على السطح باستمرار. إنها في غرفة استقبال الضيوف في منزل أهلها، وجماعة من الناس الأغراب فيها. كانت خائفة من الدخول إليهم، ولكنها بطلب من أمها والتهديد بوالدها دخلت، لتصبح بعد فترة قصيرة زوجة لواحد من هؤلاء الأغراب الذين كانوا في الغرفة. لم يجبرها أحد على الزواج، وطلب إليها أن تقول موافقة صراحة، وقالت: "نعم."
أهو هروب؟ أهو أمل في حياة أفضل؟ أحقّا كانت حرة في اختيارها؟ حقيقة هي لا تعلم. لكنها تتذكر أن حبيبها قال لها: "لا أستطيع الزواج منك، فأهلك لا يقبلون بي، وأنت تعلمين السبب، لذلك عليك أن تمضي في طريقك." تخلّى عنها، وبقيت وحيدة كما كانت دائما.
أتراها أحبّت حبيبها، أم وجدت فيه خلاصها؟ وهل عرفت الحب يوما؟ نعم، أحبت إصبعها. ذاك الإصبع الذي ما انفكت تمصّه وتمصّه طوال الليل. أنهت المرحلة الجامعيّة وهو حبيبها الوحيد تحضنه وتضمّه بحنان. لم تفلح المحاولات كافة في جعلها تقلع عنه. تركته عندما تزوجت، هكذا فجأة دون مقدمات. كانت تخشى أن يستيقظ زوجها ويراها تمصّ إصبعها، لكنها تركته هكذا وحدها فجأة.
نظرت من نافذة الحافلة، فإذا هي على وشك الوصول. ضربت الجرس لتعلن للسائق رغبتها في النزول. مشت خطوات قليلة ودخلت مكان العمل.
"أريدك أن تطبعي لي هذه الورقة الآن، وبسرعة،" قال المدير.
"حسنا، سأنتهي منها خلال دقائق."
أخذت الورقة وهمس عجيب يتردد داخلها: "ألا تستطيعين قول لا ولو مرة واحدة؟ هذا ليس عملك، وأنت هنا لست طابعة. إلى متى تلبين رغبات وأوامر الآخرين ولا أحد يشعر بوجودك وألمك؟" ووجدت نفسها تفتح باب غرفة المدير، وتصيح في وجهه بأعلى صوتها:
"أنا إنسانة، لي رغبات و أحاسيس ومشاعر. أنا لست آلة وجدت للآخرين. لن أطبع هذه الورقة،" ورمت الورقة على المكتب وخرجت.
بعد يومين كانت تقول لزوجها: "أجل، سأنهي تنظيف المنزل، وبعد ذلك أصلح قميصك، ثم أذهب لشراء حاجيّاتنا من السوق، ولن أنسى المرور على عملك لتقديم إجازة لك." وضحكت من نفسها ثم قالت: "لم لا؟ فأنا الآن لا أعمل خارج المنزل."
◄ آمال سلامة
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ