عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال سلامة - الأردن

الخديعة الكبرى


"لا تحمل الأمس على رأسك فتبقى مطأطئ الرأس بين هامات مرفوعة".

أذكر أنني قرأت هذه العبارة من زمن بعيد، اتّخذتها شعارا لي، دفنت الأمس في قلبي لأبقى مرفوعة الرأس، ولم أدرِ حينها أنّ هذه المقبرة سيأتيها يوم تفيض بما فيها، أين سأدفنه؟ لا أستطيع حمله على رأسي، ولم أعد أحتمل دفنه.

الأمس يحمل الكثير، لكن شيئا واحدا بقي يكبر ويكبر، قلت دفنته، فكيف يحيا من يموت؟ إنه ينمو ويكبر، تغلّب على قلبي وقوي عليه. قتل كل المشاعر الجميلة، كل الأحاسيس ليسيطر هو وحده.

أسمعهم يتحدثون عن الحب، وأكاد أجزم أنني لم أعرفه يوما. وكأن الحب شيء خرافيّ لا وجود له، نضحك على أنفسنا به.

الابن ينادي: ماما، ماما، أنا أحبك ويركض تجاهها يريد احتضانها وتقبيلها، تقابله بوجه عابس وصراخ:

"انظر إلى نفسك، انظر إلى ملابسك، لماذا لا تهتم بترتيب ونظافة شكلك؟ لا أحد يسمع كلامي، ابتعد عني."

يرتد الطفل كئيبا خائب الرجاء.

تشاهد الأمهات يحضن أبناءهن، وينهلن عليهن بالقبل، وهي لا تذكر أنها فعلت ذلك يوما. لا تذكر أنها شعرت بشوق إليهم إن غابوا عنها، لا تحركها مشاعر الأمومة، أيُعقل أن تخالف فطرة الكون؟

*****

صوت الباب يطرق، تأذن للطارق بالدخول، رفعت نظرها تجاه الداخل إلى المكتب، بدا مرتبكا، طلبت إليه الجلوس، كلمات متلعثمة تخرج من فمه، واضطراب واضح في حركة عينيه وارتجاف أصابعه:

"أرجو أن تأذني لي بالمغادرة باكرا اليوم."

"لماذا؟ العمل المتراكم منذ مدة. ما هذا الاستهتار والتقصير؟"

زاد ارتباكه وتوتره وهو يقول: "زوجتي مريضة، وهي الآن في المشفى، وعليّ أن أكون إلى جانبها."

تصرخ بصوت عالٍ وقد غادرت وراء المكتب بعصبيّة ظاهرة لتقابله وجها لوجه:

"قلت لك ألف مرة، العمل قبل أيّ شيء. متى ستلتزم بذلك؟"

لم ينطق بحرف واحد، وغادر مسرعا.

زوجته مريضة؟ يريد البقاء بجانبها؟ لماذا؟ ما حاجتها إليه؟ إنها حجة ليبرر بها مغادرته، وربما إن كانت حقا في المشفى لا يصل إليها ويجد في غيابها فرصة للتسكع هنا وهناك، يظنني غبيّة أصدق هذه الأكاذيب.

*****

"تبدين جميلة اليوم. ماذا فعلت؟"

تبعده بيدها وكأنها لم تسمع ما قال، لتبادره بالقول: "ألم تلحظ أنك تكثر من التدخين؟ وأن رائحة فمك لا تُطاق؟ كما أنك لم تحضر ما طلبت منك قبل أسبوع، وكذبت بشأن مكان وجودك أمس، أرجوك، كيف تأتي لتلاطفني بعد ذلك؟"

أدار رأسه للجهة الأخرى، متجاهلا ما قالت وغطّ في نوم عميق، وقد علا صوت شخيره بشكل منعها النوم. غادرت السرير، جلست على مقعد في غرفة المعيشة، تدقق النظر في الظلام، صرخت بصوت كتمته في صدرها:

"أنا أكرهكم، أكرهكم جميعا، ليتكم تعلمون حقيقة مشاعري، ليتكم تنظرون في مقبرة قلبي، ألا تشعرون؟ ألا تفهمون؟"

أدارت بحركة عفويّة مفتاح المذياع إلى جانبها، ليصل إلى سمعها صوت وديع الصافي يغنّي:

الحب هالحرفين مش أكثر،

بيطلعوا قد الدّني وأكثر،

وعليهم تعمّر أساس الكون،

أيّ نبي بالحب ما بشّر؟

وعم تسألي شو الحب يا أسمر.

ضحكت وضحكت، علا ضحكها يمزّق سكون الليل، سالت دموعها من شدّة الضحك، أيعقل أن يوجد أحد يتغنى بشيء خرافيّ لا وجود له؟ الحب. الخديعة الكبرى التي صدّقها الناس على مرّ العصور، الوسيلة التي نجمّل بها وحشيتنا الداخليّة، أنانيتنا المفرطة في تحقيق الذات، نجمّل قُبح نفوسنا بكذبة اسمها الحب.

هدأت نوبة الضحك، لتبدأ بالبكاء، صرخت: "أريد أن أحب، أريد أن أشعر بهذا الوهم الذي يتحدثون عنه، أريد أن أُخدع."

غالبت النعاس وقد ترآى أمام أعينها أنها تحفر في مقبرة قلبها، وتخرج ذلك السرّ الدفين، لتعيش في خديعة كبرى.

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A آمال سلامة     C 0 تعليقات