عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: مشهور البطران - فلسطين

اسمه عبد القادر


لم يكن مؤذن الجامع الكبير قد ختم بعد تكبيرته الثالثة لصلاة فجر الجمعة الأخيرة من حزيران، ولم يتسن لبائع الفلافل فتح أقفال بابه لتحضير أخلاط الحمص، ولا حتى النسوة تهيأن للاغتسال من آثام ليلة حب عاصفة لخميس فائت، حين تعثرت أقدام أحد العمال بجسم ضخم يسد الطريق إلى القرية.

"اللهم اجعله خيرا."

مد يده الراعشة ليجس كينونة الجسم الممدد على الاسفلت. أنه جسم طري، ولولا عدم التجانس في طراوته لأمكنه التنبؤ أنه حمولة من القطن سقطت من الشاحنات المارة إلى مصانع النسيج في المستوطنات القريبة.

مع أفول عتمة الغبش، بدأت تتضح معالمه. من المؤكد أنه ليس حمولة قطن. ولكن ليس من السهل استيعاب أنه إنسان.

في نور الغسق بانت معالمه واضحة. أزال الرجال النفايات عن وجهه وصدره. عندها فقط تبين أنه إنسان. عار تماما. مسجى بجلال في نور الغسق الرصاصي. كان اعظم ما فيه جماله اللافت للنظر، إذ أن قسماته تذكر المرء بالأنبياء. وقد عز على الرجال اللاهثين جريا من الأزقة الغارقة في طراوة العتمة أن يكون صاحب الجثمان غريبا عن قريتهم. لكنهم عرفوا بطريقة ما أنه ابن هذه البلاد، ذلك أن الروائح المتضوعة من جلده تذكر المرء بتلك الرائحة التي تربك الحواس في حارات غزة. آخرون قالوا إنه خليلي، إذ تبين أن طواحينه تنز غلالة خضراء لها رائحة العنب. لكن ذلك لم يمنع آخرين من التكهن أنه قد يكون من مدينة أخرى، ذلك أن كل مدينة من هذا الوطن كان لها حضورها الواضح في تفاصيل جسده الجميل.

اقترح أحد الرجال وضعه في ساحة الجامع الكبير إكراما وتعويضا له عن المهانة التي تجرعها إبان حياته القصيرة. لكن الأمر بدا في غاية الصعوبة، إذ كانت الجثة اثقل من أن يحملها ثلاثة رجال، عدا عن التفسخ والشروخ التي لحقت بالجثة جراء محاولة حملها، مما اضطر الرجال إلى نقله على عربة مكشوفة.

لم يكن صعبا على الرجال الذين تحلقوا حوله أن يكتشفوا انهم أمام إنسان كان ذات يوم يتدفق عظمة وكبرياء. كما لم يكن من الصعب أيضا معرفة أنه مات غيلة وغدرا، حيث وجد في جسده اثنان وثلاثون منفذ رصاصة، عشرون منها من طراز عوزي، والباقي من نوع "ام 16"، بالإضافة إلى رشقات مختلفة من غدارات ذات طرز قديمة، وطعنات سكاكين من النوع المستخدم في ذبح الجمال. في المقابل لم يكن خافيا أن هذا الرجل واجه الموت بشجاعة، فلم يبد على وجهه الهادئ الصبوح أي آثار لانتكاسة أو هزيمة محتملة.

إن كل ما أتيح له قراءة تلك العبارة المكتوبة بالفحم وبخط سيئ على صدره العريض: "اذهب إلى قدرك أيها المخرب." يُدرَك بسهولة أنه قتل بدم بارد على أيدي أجهزة معادية، وربما قتل في الظلام في غرفة باردة، حيث بدت زرقة عينيه متعكرة ومزاجه مضطرب. لكن نظراته ثابتة، وطواحينه تكز على صرخة غاضبة لم تكتمل. ومن المحتمل أن آخر من ما نطقه: "اقتلني أيها الجبان. ماذا تنتظر؟ فأنا صاحب قضية."

الرجال الذين غسلوه في باحة الجامع تجمدوا في دهشة آسرة لمرآه، حيث ظلوا يتمهلون عن قصد لإشباع نظراتهم النهمة من هذه المغدور الجميل. لكنهم أيضا كانوا يدارون خجلا وشعورا طاغيا بالقزامة. ومن المؤكد أن نفرا غير قليل اسر في نفسه: "بعد الآن لست جديرا بامرأة."

تناهت الأخبار إلى النسوة، فخرجن إلى الأزقة حافيات دون أن يفكرن بترك ما حملته أيديهن من أدوات. بعضهن كان يحمل صحونا وملاعق وسكاكين. أخريات كانت أيديهن ملطخة بالعجين والصابون. واحدة منهن على الأقل كانت خارجة لتوها من الحمام ملتفة بملاءتها كما اتفق، الأمر الذي جعلها تبدو بلباسها المبلول اكثر عريا.

اصطفت النسوة أمام الجثمان، وبكين بمرارة تصدعت لها قلوب اكثر الرجال قسوة. لكن كل واحدة منهن كانت تبكيه معللة النفس بأسبابها الخاصة: العازبات بكينه زوجا لن يطرق بابهن إلى الأبد. والأمهات رأين فيه ابنا لن تبصره العيون. الصبايا هن فقط انزوين في ظلال السناسل الحجرية، وتحت تعريشات الدوالي، وفي شرفات العلالي، ورحن يكتبن قصائد عن فارس جميل عيونه قطعة من بحر. شعره جدائل من ريش النعام. يأتي كل مساء إلى "علية" في آخر القرية بها نافذة عالية. يمد يده الرشيقة الناعمة عبر صلبان النافذة، ويقول بصوت عذب يحاكي خرير الماء: "تعالي يا حبيبتي الصغيرة."

أحد الرجال تنبه أن النسوة لن يتوقفن عن البكاء ما دام الجثمان أمامهن، فاقترح أن تخرج الجنازة وأن يدفن في الحال، لأنه خشي أن يذهب الجنون بالنسوة، فيقطعن أجزاء من الجثة ويعلقنها تمائم في بيوتهن. لكن إحدى النساء وقفت بعناد أمام النعش وقالت:

"لن يخرج من هنا دون إعطائه اسما يليق به."

نظر الرجال في وجوه بعضهم بعضا، كأنهم يبحثون عن اسم ما. كانت وجوههم السمراء تنطق باسم واحد دون غيره: "عبد القادر."

وأجمعوا فيما بينهم أن عبد القادر أب لكل عاقر، وأب لكل يتيم، وزوج لكل أرملة، وحبيب لكل حالمة، وأخ لكل وحيد، وصديق لك إنسان في هذه القرية.

وهكذا تحركت اعظم جنازة في تاريخ القرية، شارك فيها الرجال والنساء والأطفال، وكل من سمع الخبر من القرى المجاورة، حتى غصت بهم الشوارع والأزقة، عدا عن الذين لم يسعفهم الحظ ليجدوا موطئ قدم على الأرض، فاعتلوا سطوح المنازل رافعين باقات الزهور وأغصان الأشجار.

عندما انتهت الجنازة عصر ذلك اليوم، غرقت القرية في فوضى الزهور المتناثرة على جنبات الطرق، وفي مداخل الأزقة. واعتلى ضريح عبد القادر بين القبور الواطئة مثل جبل لكثرة ما وضع عليه من أزهار، الأمر الذي جعل القرية تغرق في غمامة من الشذا ما زال عبيرها يتضوع حتى الآن.

 - - - -

قصة منشورة ضمن مجموعة قصصية صادرة عن أمانة عمان الكبرى ودار الكندي (2002). عنوان المجموعة: مختارات من القصة القصيرة الفلسطينية.

JPEG - 18.9 كيليبايت
غلاف: مختارات من القصة القصيرة الفلسطينية
D 1 حزيران (يونيو) 2006     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات