حياة زغيش - بلجيكا
الخاتم الفضي
اسمع خطاك تقترب في الرواق. تدق نبضات قلبي الكهل بفوضى كلما أصخت السمع لوقع خطوات الحذاء المطاطي التي تصلني كالهمسة. الآن تتوقف الخطوات الخفيفة عند الباب، ويتوقف قلبي لفترة قد لا تزيد عن الثانية، ولكنها تبدو لي أبدية. أكاد أراك تأخذ نفسا عميقا كما لو أردت أن تقنع نفسك المترددة بأنه بالنفس المنتظم يتم الانتصار على كل مخاوف الدنيا.
"ادخل. تفضل. اجلس."
أراك تركز أنظارك على الكرسي اليتيم الموجود في الحجرة المظلمة. تتردد ثانية وتتوجه إلي بسؤال غير مباشر.
"لا تأبه بي. اجلس. كنت جالسا طوال اليوم. الوقوف جيد للدورة الدموية، ورجلاي العجوزان دائما تشتكيان من أنني لا اقف كي أريحهما من آلام الروماتزم. اجلس يا ولدي."
تفاجئنا الكلمة مثلما الرصاصة التي أطلقت من دون وعي، وننظر إلى بعضنا البعض بذعر المصابين بالنيران الصديقة.
"عفوا، لم أقصد أن أضايقك بكلمة ولدي هذه."
يداك متشابكتا الأصابع، تلعبان بخاتم الفضة المرصع بالحجر الأصفر. خاتم مر من إصبع جدك، فإصبعي ليتخذ مكانه النهائي حول إبهام يدك اليسرى.
"كم كبرت! كم تغيرت منذ أن رأيتك آخر مرة! كم كان عمرك آنذاك؟ خمس سنوات؟ ست سنوات؟ قم، دعني أرى طولك الآن. قف، يا الله. أتستحي من أبيك؟ دعني أحدق في ملامحك المراهقة. أنت تشبهني. أنت ابني فعلا. نفس الأكتاف الضيقة. نفس الجذع المنحني النحيف والجبهة المتراجعة."
تصرح الآن وبلهجة شديدة بأن الناس يقولون إنك تشبه أمك. أفهم ما يخفيه غضبك من ألم وخيبة أمل. إنه جرح لا يزال ينزف يوميا، ولا يمكنك التعبير عنه بغير الكلمات العدوانية ونوع من الكراهية المكثفة. لا بأس، فأنت تنفي وجودي وترفض الهدنة التي أحاول إقناعك بضرورتها.
ينمو السكوت بيننا. ويداك تتشابكان بقوة. ترفع رأسك وتسألني كيف يمكنني العيش في هذه الحجرة الداكنة ذات الجدران العارية. أجيبك ببرودة مصطنعة أنني اعتدت على غياب أشعة الشمس وضوء القمر، وأن عيني أصبحتا تبصران حواف الأشياء مثل عيون الهر شديدة الحدة. لا يوجد شيء في هذه الدنيا لا نألفه يا ولدي. ولكن هذا لا يعني أنني استسلمت للوضع، فلقد كنت دائما أتمنى مجيئك وعودة علاقتنا إلى ما كانت عليه قبل أن أهجر أمك المسكينة من زمان بعيد أكاد لا أذكر منه شيئا.
ها قد أتيت أخيرا. وها أنت الآن جالس في غرفتي، وأصابعك العصبية تعذب خاتم الفضة الذي امتلكه جدك: ذاك الفنان القصصي العظيم، الذي كان يخرجنا من مأساة أيام الفقر والترهيب بحكايات أبطال الثورة. جدك الذي كان سحره الروائي يقودنا في أروقة التاريخ المؤلم إلى نهاية النفق المضيء دائما، مختتما رواياته بجملة متفائلة ترفع من معنوياتنا، فيتدفق الحماس والرغبة في قلوبنا من جديد.
أراك الآن تميز الشعارات المنحوتة على الجدران الوسخة. ربما كتبها الذي كان يعيش هنا من قبلي، أو من كان قبله. أسماء أنثوية كتبت بأحبار مختلفة. كثيرا ما رفهت نفسي المتعبة برسوم أتخيل فيها أشكال وملامح ذوات الأسماء، فتارة أشخصهن بشعر أشقر سلس، وتارة أخرى أرسم سواد العينين وامتلاء الجسد.
في بداية استقراري هنا أتقنت مهارة إخفاء قلم الرصاص في طيات سروالي. خذ هذه بعض الرسوم التي احتفظت بها. نعم، إنها مرسومة على غلاف الصابون الذي كنت أسرقه بانتظام. وحتى إن أصبحت ذاكرتي مشهورة بثقوبها الكثيرة اليوم، وحتى لو هجرتني حدتي المعتادة كفنان الكاريكاتور التي كنت أفتخر بها قديما، فلك أن تحكم على مدى وفاء خصلات الشعر الطويل وأهداب الأعين السوداء الكثيفة التي رسمتها.
تصرح بصوت ضعيف بأن رسومي جيدة، وأن أمك لا تزال تشبه المرأة التي تزين غلاف الصابون، إلا أن شعرها أصبح رماديا وأن حجمها زاد بعض الشيء بعد ميلاد أخيك الصغير.
تأخذ الرسوم والغلاف يرتجف بين يديك. حان وقت الرحيل. ألقي نظرة إلى الباب الذي ظل مفتوحا وأشير بيدي نحو غلاف الصابون. إياك أن تعطيها لأمك، قد تضطرب منها كثيرا.
تعدني بذلك، وتشكرني على استقبالك وكأنك سائح أجنبي شرب شايا بالنعناع في بيت عربي. أنزعج من حيائك، وأقودك نحو الباب متظاهرا بلا مبالاة إجرامية.
"لا تنس أن تستعيد جواز سفرك عند الخروج."
أذكرك بعشرات التفاصيل التافهة وصمتك لا يقوى على إخفاء الحقيقة׃ لقد أصبحنا غريبين.
"سأزورك ثانية قريبا، إن شاء الله."
أتظاهر بأنني أصدق ما تقوله، وأبصرك تبتعد في الرواق بخطوات مسرعة. لعلك مثلي تعلم جيدا أننا لن نلتقي مرة أخرى، وأن بقائي على عتبة الباب رمز واضح يدل على غيابي الدائم من حياتكم.
أحملق في غبار الرواق المظلم طويلا، وأمدد جسدي فوق السرير والباب لا يزال مفتوحا. ينتفخ السكوت، وعبؤه يثقل كتفي الهزيلين، وطعم المرارة يملأ فمي. وفجأة يخطف بصري لمعان خاتم الفضة الملقى على الأرض، فاشعر كأنني تلقيت طعنة خنجر، وأدركت لحظتها واقعي، فما أنا إلا فنان أسير، حكم عليه بالإعدام، ولا ينتظره في زنزانته الانفرادية سوى الظلام.