عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مرام أمان الله - فلسطين

"شكّ" في سيارة الأجرة


.

مرام أمان اللهكانت الطريق تنزلق ببطء شديد تحت سيارة الأجرة. حتى المباني من حولها لا تكاد تتحرك؛ ربما لضخامتها وعلوها الشديدين، أو ربما كانت تتمنى أن تطير بسرعة بعيدا عن ذلك المكان.

كان السائق يقود بارتخاء سارحا في خياله وكأنما يقلّب همومه، أو يعدّ الوقت انتظارا لساعة الإفطار.

سألها مكرِّرا: "إلى أين؟"

فكّرت مليا، ثم أجابت بتردد: "إلى المطار".

صمتت قليلا ثم قالت: "إلى أقرب شاطئ، لا يهم".

فما كان للسائق إلا أن يهز رأسه بصمت ويكمل قيادته الهادئة.

كل شيء كان بطيء التحرّك من حولهما، حتى أنّ أفكارها بدأت تمتزج بالصور التي كانت تتسلل عبر زجاج السيارة،

ضوءٌ أحمر يوقف المحيط عن الحركة. تتوقف السيارة لتمرَ امرأةٌ برفقة طفلتها تحاولان العبور إلى الرصيف المقابل. كانت الطفلة تمسك بيد أمها كمن يتشبّث بطوافة خوفا من الغرق.

امتزجت تلك الطفلةُ مع صورتها عندما كانت في الخامسة، حيث لم يتسنَّ لها حينذاك الالتحاق بروضة أو حضانة للأطفال. كانت على سرير صغير في مشفى ليس عربيا. لم تكن تفهم الانجليزية بعد، وكان والدُها يتحدث إلى الطبيب بلغة لا تشبه العربية، لكنّ ملامح وجهه آنذاك لم تكن تشبه ابتسامته المعتادة. انتهت المحادثة، وجاءت الممرضة لتعطيها حقنة قالوا لها إنها ليست سوى دواء بسيط للأطفال.

رغم أن والدها كان بالنسبة لها "طوّافة" الأمان، ورغم أنها لم تفهم اللغة التي تحدث بها إلى الطبيب، إلا أنّ هناك "يقينا" تغلغل في أعماقها بأنّ هناك شيئا ما يحاولان إخفاءه.

تلقّت الحقنة دون مقاومة، لكنّ يقينها لم ينثنِ عن مقاومة ذلك الشعور القاسي بالنوم.

بعد دقائق معدودة من تلقيها الحقنة أصبح جفناها أثقل من أن تتحكم فيهما، وأخذ جسدها بالتآمر مع الشعور الغامر بالغياب عن الوعي، إلا أن "يقينها" المشاكسَ ذاك ظل يحارب ضد الاستسلام.

بعد فترة من الزمن جاء الطبيب ليعطيها حقنة أخرى بنفسه، وقد كان.

ظلّت تقاوم. إلى أن رجع الطبيب غاضبا وقال بالإنجليزية جملة لم تفهم منها إلا كلمة واحدة: elephant، وتعني فيل بالعربية، حيث كان لأفلام الكرتون دورها في أن تعرف المعنى.

كان قد أخبرها والدها بعد سنوات بما حدث، وأن الطبيب قال له وقتها: "لقد حقنّا كمية مخدر كفيلة بأن تخدّر "فيلا" والعجيب أنّ طفلتك لم تنم!" كان ذلك في سياق الحاجة لأخذ عينة لفحص طبي ما.

انطلق السائقُ مجددا لقيادته الناعمة طوعا للإشارة الخضراء، وعادت المباني والحدائق للهرولة من جديد.

لكن، لماذا تذكّرتُ ذلك الآن؟" تساءلَتْ.

في صباح ذلك اليوم قررت أن تنأى بنفسها عن كل شيء، فبعد سنوات مثقلة بالإشارات المريبة بدأ ينتابها "الشكّ".

ما الفرق بين الشكّ وقراءة الواقع المحيط وتحليله أو ما يسمى الحدس؟

وما الذي خلق ذلك اليقين لدى تلك الطفلة لتقاوم تأثير المخدر وتنجح في إفشال مشروعه رغم عدم درايتها بما يدور حولها؟

قد يكون الشكّ هو ضده باختلاف زاوية القراءة؛ فبالنسبة لأبيها والطبيب كان شعورها هذا "شكّا"، وأما بالنسبة لها فقد كان "يقينا".

"أعتقد أنّ الشكّ هو مقدمة اليقين، ما إذا أثبتت النتائج صحة ذلك". فكرت وانتابتها غصّة. فقد كانت تلك السنوات قاسية عليها، جاهدت نفسها كثيرا للتخلص من مهارتها في قراءة الواقع المحيط، حيث كان كل ما كانت تتوقعه.

يتوقف السائق فجأة بسبب حادث سير توارى عن الأنظار خلف اختناق مروريّ. يتوقف كل شيء حولها فيعلو صوت أفكارها من جديد ليملأ فراغ الصورة.

لربما نجحت في تحليل ما يدور حولها إلى درجة جعلتها تفقد مهارة "المجاملة". لم يحدث إلا نادرا أن تخطئ في استنتاجاتها حتى لو شحّت المعطيات.

هي تشعر بأنّ ذلك كان يقينا، ففي كل مرة كانت الأمور تؤول إلى مآلها المتوقع، لكنّ ما انتابها من شك في ذلك اليوم كان هزة ليقينها الذي لا ينفكّ يرافقها.

هو لم يكن شجاعا. كان يهاجم حدسها في كل مرة بتهمة "الشك" بلا أرضية مبررة، حتى أنّ يقينها بدأ بالاستسلام إلى أنه مجرد شكوك ولربما خوف مبطن من المستقبل.

في ذلك اليوم وجدت بطريق الصدفة وثيقة تكشف الإجابات التي كانت تبحث عنها لفترة. بمحض الصدفة تعرى أمامها دون أي حجاب لترى حقيقته التي لطالما اختبرت مؤشراتها ولكن دون معطى يريحها من جهد التحليل.

ها هو الْيَوْمَ الذي حمل في جعبته حقيبة الأسرار التي فسرت لها أخيرا شعورها الدائم بأنه يعيش حياة أخرى موازية.

في كل مرة كانت تتساءل فيها عن غموض ما، كان رده يأتي دفاعيا مبالغا في العنف متهما إياها بالشك. لكن أليس الشك هو مساءلة الواقع المحيط إذا ما أخذت الأمور منحى غير "طبيعي" أو خارج عن السياق أو العادة؟

قد نخطئ أحيانا في حكمنا على الأمور، لكن إن تطورت التفاصيل لتخلق "يقينا" يصبح البحث عن الحقيقة هو ما يلزم ليس إلا.

"أعتقد أن تلك الطفلة الملتحمة بثوب والدتها جاءت لتسحب يقيني الأول في عمر الخامسة من أكوام الذكريات، ليسألني: هل كانت النتائج مفرزات منطقية لفرضية "اليقين"؟ إن كان لا، فهو إذا "الشكّ".

تساقطت تلك العبارات منها في سيارة الأجرة، ثمّ رحلتْ.

D 1 حزيران (يونيو) 2018     A مرام أمان الله     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 09: غزة لا تستكين

غزة: صور من مسيرات العودة

وسلامي لكم + عائدون

ناجي العلي: العودة وفلسطين

مظاهر أدبيّة النّص النّثري عند محمد البشير الإبراهيمي