عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مرام أمان الله - فلسطين

في الطريق الى مرسيليا


مرام أمان اللهكما تعرّت الاشجار من أوراقِ أيلول، تعرّتْ هيَ من أحلامها واغتسلتْ بماء الحرية. حزمتْ ما تبقّى لها من قوّةٍ وترَكَتْ خلْفَهَا كُلَّ شيءٍ ورَحَلَتْ. أخذَتْ تبحثُ عن قطارٍ يحملُها بعيداً إلى حيثُ شاء، لا حيثُ تشاء. لمْ يكُنْ رحيلُها سهلاً أو حتى مُمكِناً، فقدْ احترقتْ أجنحتُها من قسوةِ الأيّام، لكنّها ما انفكّتْ تريدُ ما تَبَقّى من حياةٍ حتى ولو كانت "مجهولاً بحتاً".

وصلَ القطارُ أخيراً. دخلتْهُ بِخِفّةٍ لا كغيرها من المسافرين، فلا حقاىٔبَ لديها سوى ذلك الصندوق الثقيل الذي تحملُهُ في ذاكرتِها، والذي نوَتْ إمّا فتْحَهُ والتخلص مما فيه، أو إغلاقَهُ ودفنَهُ للأبد. وبينَما كانت تبحثُ عن مقعدٍ ينأى بها عن ضجيج الركّاب وثرثراتهم، تجدُ أخيراً مقعداً بجانب النافذة، في زاويةٍ لم يمسَسها بشر.

تنهّدَتْ كأنّها وقَعَتْ على أوّلِ هداياها التي "قرّرَتْ" مُسْبَقاً بأنّ قطارَها ذاك يُخَبِّؤها لها. وبدأتْ تلكَ المدينةُ بالانسحابِ من مدى رؤيتِها شيئاً فشيئاً، تاركةً ضَجيجَها يتسكّعُ في أنحاء إدراكِها وحوّاسّها مُخرجاً لسانَهُ دونَ خجَل.

وبينما كانتْ عيناها تلتصقُ بزجاجِ النافذة رغبةً في التحرّر من كلّ ما هو مغلقٌ أو منتهي الحدود، داهمَتْها خشخشةُ حقيبته: مسافرٌ من المحطةِ الثانية ينتهي به الأمر إلى المقعد المحاذي. انزعاجُها من اقتحام أحدِهِم خلوتَها تلك سرقَ منها حتّى فضولَ النظرِ إلَيْه. انكَمَشَتْ أنحاؤها والتصَقَتْ أكثرَ بالزجاج، وغاصتْ مُجَدَّداً في صندوقِها العائم بالصور، الأصوات، الوجوه، الروائح، والأمكنة.

شريطٌ مُتلَبِّدٌ بغيوم الصور جعلَ يدورُ في رأسها، تداخلَ مع الصور المطبوعةِ على زجاج النافذة. صورٌ باردةٌ لا روحَ فيها، فأصابَها الحنين لروحِها، وتراءتْ لها أكوامُ الغبار المتكدّسة على ذلك الخامل الذي نسيَتْ وُجودَهُ بين ضلوعها، فقد تحوّلَ منذ زمنٍ إلى مضخّةٍ تعملُ بصمتٍ في حوضٍ مهجور. حاولَتْ أنْ تتذكّرَ آخرَ مرّةٍ استيقَظَ فيها ذاك الغارقُ في سُباتهِ ولكنْ عَبَثاً تحاول، فكُلُّ شيءٍ حولَهُ كان يزيدُهُ غرَقاً في الغياب حتى كادتْ تشكُّ في وجودِه أصلاً، إلى أنْ اقتحَمَ صَمْتَ الشريط ذاك صوتُ فيروز لتنبّهَ بمكالَمَةٍ هاتفيةٍ من أمِّها.

أرجَعَتْ أفكارها إلى أدراجِها وأجابتْ: "نعم، أنا بخير!" ثم أخذتْ في الإنصاتِ دونَ تَعليق حتى نهاية المكالمة. لمْ يَكُنْ في بالِها أبدًا أنْ يَسقُطَ هاتِفُها في كيسِ ذلك الرجل الذي وضعَهُ على أرضية القطار بين قدميه. "لا بُدَّ للهاتف أن يعودَ إليّ الآن". فَكَّرَتْ والتَفَتَتْ إليهِ، وإذْ بِهِ غارق في نومِهِ.

حاوَلَتْ كَعادَتِها تحقيقَ الهدف رغم التحديّات، فانحنَتْ للأسفل قليلاً تَمُدُّ يديها بحذرٍ نحو الكيس كصيادٍ فرد كل أنحائهِ واستعدَّ بكلّ تركيز ليرميَ صنارتَهُ ويلقى صَيْدَهُ. غيرَ أنَّها وكالمُعتادِ أيضاً لا تحقق ما تريدُ بسلاسة، فبحركةٍ بسيطة ارتطمَ رأسُها بالطاولةِ المُعلّقة والمخصصة لحمل الطعام والشراب لينسكبَ كوبُ قهوتها على ذلك النائم إلى جانبِها. "يا إلهي، إنَّها لا تزالُ ساخنة!"

تحوَّلَ "نومُهُ الملائكيّ" إلى "يَقَظَةٍ شيطانية"، فقد قفزَ من مقعدِهِ بلياقةِ راقصي السيرك. لكنْ سرعان ما هدأَ حينَ رآها تنهالُ عليهِ باعتذاراتِها وتحاولُ استرجاعَ قهوتِها من متعلّقاتِهِ. لكنّ ما كانَ يشغلُها فعلاً هو أن يكونَ هاتفُها قد نجا من شلال القهوة القادم من عُلُوّ. إلا أنَّ آمالَها خابت، فقد تحوّلَ إلى قطعةِ حلوى تسبحُ في القهوة، ليفاجئٔها هو باعتذاره: "إنَّهُ خطأي أنا، نومي هو ما تسبب بهذه الكارثة".

ابتسمَ وركّزَ النظر في عينيها لثوانٍ كانَ لها وقْعُ دهر. لم تكُنْ قبلَ ذلك قد أمعنتْ النظر إلى وجهه، لكنَّ كلماتِهِ تلك أخذتْ حواسَّها مُجتمعةً في رحلةِ استكشافٍ لملامِحِهِ المرسومةِ بعناية. كانت عيناه تكتنزان سواداً يشتعلُ سحراً، تنبعثُ منهُما لمعةٌ شقيّةٌ تضربُ مع كلّ رفّةٍ كسهامٍ عديمةِ الشفقة، تخترقُ الحصونَ لتتركَ وخزاتٍ مُتفاوتةً في تلكَ "المضخة" المهجورة بين ضلوعها.

أربكَها تحديقُهُ الهادئ المشتعل، فجعلتْ تُنَقّلُ عينيها نحوَ "اللا أشياء" حولَها كالهاربِ من قدرٍ محتوم، إلى أنْ خَطَفَها من نفسِها مُجَدَّداً مُحدِّقاً بنظرةٍ ثابتةٍ: "ما اسمُك؟" كانت لهجتُهُه غريبةً عليها، لكنّها لمْ تُجبْ، واختارتْ أن تردّ السؤال بسؤالٍ آخر: "منْ أيِّ بلدٍ أنتْ؟" ابتسمَ دونَ أن يجيب، وحدّقَ لبضع ثوانٍ ثمَّ قال: "أحتاجُ لسؤالٍ آخر أردّ به على سؤالك".

استفزّها أسلوبُهُ فقرّرتْ أن تتجاهلَهُ، عقاباً لهُ على وسامته، تماسُكِهِ الظاهر أمام جمالِها، أو ربّما مُقاومةً لهجوم تلك الوخزاتِ التي أمطرَها في أعماقها دون اكتراثٍ أو ربما باكتراثٍ مُحكَم. اختارتْ أن تضلِّلهُ عن صوت الضجيج المتعالي في رأسها فأغطَسَتْ مَلامحَها في قالبِ ثلجٍ، وابتسَمتْ في صمتٍ ونأتْ بأقصى ما تستطيع من جسدها بعيداً.

كان قد انشغل بالكتابة على شاشته الصغيرة، وأخذ الفضول يتراقصُ في بالِها كقردٍ فائق النشاط، حتى استكانت وبدأتْ باختلاسِ النظر، وهي التي لم يكُنْ الفضولُ يعرف طريقاً إليها قطّ، لترى ما لم تتوقع.

"حبيبته تحمل نفس اسمي، ياللصدفة!"، فكّرتْ قليلاً ثمّ استرسلتْ: "نعم، إنه منهمكٌ في الكتابة بكل تركيز، إنها بلا شك حبيبته".

ظلتْ الفكرة تراوحُ بين مد وجزر كبندولٍ معلّقٍ بين عينيها، إلى أنْ قُطع الشك باليقين، ها هو يختمُ الكتابة إليها بقلبٍ أحمر وكلمة (حبيبتي)".

غطسَتْ في مقعدِها ورجعَتْ لتلصق وجهَهَا بالزجاج كصغيرٍ تاه عن يد أمّه في الزحام. التصَقَتْ أكثر فأكثر رغبةً منها في الخروج من هذا القطار اللعين، أو لإخراجِهِ هو من طاحونةِ أفكارها، فهو على ما يبدو عنيدٌ، مُستفِزٌ وأيضاً… لهُ حبيبة.

أخرج كتاباً من حقيبته، وقال: "أتحبين القراءة؟" وفي لحظات، نبشتْ كلماتُهُ ذلك المكان المُظلم مرةً أخرى، ليعودَ الوخزُ مجدداً دون توقف. فقالتْ دون تفكير: "لين"، ارتفع حاجباهُ ثمّ انعقدا: "عفواً، لم أفهم".

"إنّهُ جوابُ سؤالكَ الأول" قالتْ. بدا عليهِا الارتياح، فقال وقد أشرقتْ عيناه: "جميل". تفحّصتْ ملامحَه لتحاول استنباط أية إشارات انفعالية على كون اسمِها يطابق اسم حبيبته "ذات القلب الاحمر"، الا انها لمْ ترَ شيئاً. راحَ يرمي حديثَه بين يديها كرذاذ المطر الشهي غير المنتظر. كان حديثُهما ينهمر كجدول ماء عذبٍ غير منقطع ولا مُتَكَلّف، وكأنه ليس الحديثَ الأول.

كانَ القطارُ غير آبِهٍ بهما، فهو يسرق منهما مساحة الوقت المتبقية للرحلة مع كل محطةٍ يجتازها، وكانا غارقين في فتح صندوقيهما الأسودين والإفصاح عما اندثر واستتر تحت ركام الوقت، وكأنّهما كانا على موعدٍ مع البوح. رغم أنّ تلك الوخزات الغريبة لم تنثنِ عن تنبيهها بوقوعِ ما لا تجيد تفسيره، إلا أنها نفختْ روحاً دافئةً في أنحائها وكأنّ الدماءَ بدأتْ بالعودة إلى عروقها التي جفّت منذ زمن.

أخبرها بشغفهِ في تنسيق الورود.

"في كل مرة تذبل فيها زهوري أحزن، أعاتبها وتفهمني، لكنّها شقية، فهي دائمة الرحيل سواء اعتنيتُ بها أم لمْ أفعل، وهكذا أنتِ".

قالها هامساً ثم أخذ يُريها صوراً لورودهِ على هاتفه المحمول.

"إنْ عرفتُ رقم هاتفك سيصبح بإمكاني أنْ أرسلَ لكِ شيئاً من ورودي الجميلة"، قال أثناء تصفحهما للصور. لكنّها لَمَحَتْ صورةً له مع فتاة جميلة، فنَفَضَتْ شعرَها يميناً ويساراً كقطةٍ تحاول التخلص من بللٍ غير محسوب، وأزاحتْ بعينيها نحو النافذة وفكّرتْ: "لكن، كيف له أنْ يرغبَ بالتواصل معي ولديه حبيبة؟ كيف له أن يكون بهذه الازدواجية؟ وما قصة القلب الأحمر ذاك؟"

سكنَ الجليدُ ملامحَها فجأةً وانتابَها الصمت. قررتْ أن تقمَعَ تلك السعادة الخفية التي كادت تحتل أنحاءها، وبدأت جيوشُها بالتراجع نحو نقطة الهروب: الزجاج.

"هاتفي لا يعمل الآن، للأسف." كانت إجابتُها تنفح ناراً بين ضلوعها، لكنّها حسمَتْ أمرَها.

تغيّرت ملامحه وانطفأت الشعلة في عينيه وابتسم ابتسامةً كاذبةً ولجأ لحقيبته لتنقذه وتخفي الحزن الذي انسدلَ على شفتيه الرقيقتين.

اقتربَ القطارُ أكثر من نقطة النهاية، وظلَّ الاثنان يتقلّبان على جمر انتظار المبادرة من أحدهما لإعادة وصل خيوط الدفء التي امتدّتْ بين عينيهما دون تفسير، وانقطعتْ أيضاً دون تبرير، إلى أن نادتْ تلك اللعنة المسجلة بصوتٍ يشبهُ أصوات الشرطة لحظة القبض على أحدهم متلبساً، تنبّهُ بوصولهِ إلى محطتهِ المنشودة.

صافحَها مبتسماً، هو لم يقُلْ شيئاً، لكنّ عينيه قالتا كلّ شيء. وبعد رحيله عن مدى عينيها، اكتشفتْ أنّه لم يأخذ كل شيء، فقد ترك لها تلك الوخزات التي ما انفكت تضخُّ كلامَهُ في عروقها، وترك أيضاً كتابه. "هل حقاً نسِيَهُ أم تناساه؟"

لم تتردد في فتحه والبدء في تصفّحهِ، حتى وجدتْ بين ثناياه نفس الصورة مع الفتاة، وبانقباضٍ فكّرتْ: ’إذاً، هذه هي! حسناً فعلتُ بعدم إعطائه رقم هاتفي".

وفي طريقها لإرجاع الصورة إلى الكتاب تجدُ ما كُتِبَ خلفَها: (أرسلُ لكم صورة ابني "جبل" مع ابنتي الصغرى "لين").

D 1 آذار (مارس) 2021     A مرام أمان الله     C 0 تعليقات