عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية أحمد الوناس - الجزائر

صكّ الغفـران


غانية الوناسالآن فقط أعدّ نفسي للتخفّي داخل وجعي، أحمل ألمي بنفسي، أصلب ذات النفس إلى لوح الفقد، وأمضي أقلّم وحدي أظافر الجرح.

الآن أقف كجبل بركاني، أخرج كلّ ما فيه من غضب الاحتراق، واستكان أخيرا إلى الركود النهائي، لا شيء في الأفق يلوح، لا حمام يطير حاملا رسائل العائدين، لا غزل صباحي ينقر به عصفور الفرح على نافذتي، ولا شمس ستشرق على شرفتي، توقظني لأبصر الغيم.

أتسرب نحو العدم، كقطط الشارع، أتوه في اللاوجود، أشعر كأني ظلّ ثقيل جدا، لا جدار يحتمل اتكائه عليه، مبهم هذا العدم الذي أسير إليه، كطائر جريح يفر من فخّ صيّاد، فلا يحتويه إلا ألم النزيف والاحتضار.

أكتب لأنّي عاجزة، هكذا يخبرني حدسي العبثي، أكتب لأنّي منهارة، ولأن القدر يضعني مرة أخرى في مكان لا أستوعبه، لا أدري حجة القدر في جعلي لقيطة، أواري خطيئة من أورثوني العدم، أجره كإثم أبدي، أواري سوءته ويري للكون كلّه ما أخفيه واستره.

لزمن مضى هكذا كنت، هكذا بدت حياتي وأنا أخرج من ذلك المكان المقيت، يومها لم أعرف ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ ماذا يمكن لي أن أصنع بهذه الحياة الفارغة من كلّ شيء.

الآن قررت أن أكتب إليك أنت، بشكل مختلف، لأني أنا نفسي أصبحت مختلفة، لا يعنيك كثيرا كلامي في البداية، كنت أحاول أن أجعلك تستشعرين ألمي في ذلك الوقت.

لحظة وقفت أمام ذلك الشرطي، لحظة امتدت يده إلى حقيبتي تفتشها، لحظة تنازل عني العالم، كأني قطعة أثاث قديم، لا بيت يرغب باستعماله، شعرت أني أصغر، أصغر جدا، أتضاءل، أصبح كحبة رمل معدومة، فوق شاطئ سيبلله زبد البحر بعد حين، لأتلاشى تماما كما لو أني لم أكن يوما.

كان باستطاعتي أن أدفعه عنّي، أن أصرخ، أن أقول بأني بلا أمّ، وبلا أب، بأني بلا عائلة، لكنّي أملك روحا وقلبا، وبأن لي ضميرا، لي اسم يا سيدي، نادني باسمي إن شئت، اسألني ما شئت، سأجيبك سأقول بأني: لست لصة، وبأن وجودي هنا ليس إلا بحثا عن طريقة لكسب العيش.

سيدتي فاتن، في ذلك اليوم الذي طرقت فيه بابك، يوم أوصلني إلى بيتك العم صالح، لم أكن قد جئتك لأشحد منك طعامي، جئت طالبة عملا، جئت أبتغي رزقا أجازى به نظير خدمتي، لم يعنني في الأمر أن أكون خادمة، أعرف أن من هم أمثالي قد حكمتم عليهم بالعيش تحت الأقدام، وأننا في أحسن أحوالنا لن نطال عالمكم الزهري، ولن نصبح ذات يوم في مكان يوازي ما أنتم عليه، أحلامي أبسط بكثير مما تصورت واعتقدت.

طفلة أنا، هل تذكرين كيف كانت تلك الطفلة تعتني بأطفالك؟ لم أكن سيئة، كنت فقط طفلة قدر عليها أن تحمل مسؤولية ليست بحجمها الصغير.

أنا لست لصة، ولست سارقة، أنا فقط خطأ آدمي، هناك امرأة ما قد أنجبتني، لست أعرفها، والد جاء بي إلى هذا العالم لست أعرفه، عالم قاس وجدت نفسي فيه، وحكم جائر أواجهه وحيدة جدا.

ما أبشع أن يدفع المرء ثمن سذاجته، أنا الساذجة الوحيدة في قصتك، أعتقدني قد كسبت ثقتك حين أودعت ما تجودين به علي في أمانتك، أعتقدني عثرت على حضن أمي التي لا أعرف، ما أغباني وأن أحفر لنفسي قبرا أدفن فيه روحي وهي على قيد الوجود.

منحتك ضعفي، أسررت إليك بهشاشتي، أخبرتك أني لا أعرف في الحياة سوى هذا البيت، وقلب العم صالح، وفي أول فرصة جاءتك جعلت منّي كبش فداء، ومن أجل ماذا؟ من أجل ألا تظهري بشاعتك للعالم الذي لا يعرفك.

كم كان يلزمك من وقت لتصنعي منّي محرقة صغيرة، تحرقين فيها آثامك كلّها، وتغضين الطرف عن أخطائك تباعا؟ كم كان يعنيك ألا تهتز صورتك أمام مجتمعك الرفيع المستوى، حتّى لا تعترفي بأن الشبه الذي كان بيننا لم يكن أبدا صدفة، أو قدرا متعثرا، اختلطت عليه الأمور؟

القدر كانت لديه كل حججه، كانت لديه رؤاه المستقبلية، وأحكامه التي يؤجلها دائما للحظات الحرجة، كم من مرة أبدع في النهايات؟ لكننا أبدا لا نتعلم.

كان بمقدور الطبيبة الناجحة مهنيا واجتماعيا وعائليا، أن تكون أكثر إنسانية، أكثر رحمة تليق بمهنتها كطبيبة على الأقل، كان بمقدورك أن تكوني أكثر رقيا، وربما كان بالإمكان أن تواجهيني أنا قبل الآخرين، لكنت تفهمت كلّ شيء، لكنت قدّرت أنا الطفلة السيئة، معنى أن أكون سببا في هدم بيت سعيد، من أجلي أنا.

أنا يا ماما ... اعذريني إن تجرأ لساني الوقح على قولها، أنا لحظة دخلت بيتك، شيء ما اهتز في عرش قلبي المرتعش، شيء ما هزّني بقوة، وصفعني كي أفيق، كي أفتح عيني على اتساعهما وأراك كما يجب، شيء ما في داخلي كان يقودني إليك.

كل شيء فيك كان يقول لي إن فيّ منك شيء، لم أعرفه، لكنه كان يكبر يوما بعد يوم، وحين بالصدفة قادني قدري التعيس إلى أن أستمع إلى مكالمتك مع العم صالح، اكتشفت كم أنا صغيرة، كم أنا ضئيلة، وكم أني لا أساوي شيئا بالمطلق.

كنت أمامك ولم تحتضنيني، كنت أمامك أخدمك، وكنت تعاملينني كأني شيء قبيح أو مرض معد.

يوم اكتشفت بأنّي خطيئتك المنسية في دهاليز الماضي، أجهشت علي كقاتل محترف، أكملت مشهد المسرحية التعيس، بأن تدبري لي نهاية كفيلم بائس، تسرق فيه الخادمة التعيسة سيدتها التي فتحت لها بابها وأطعمتها من طعامها، وأسكنتها قصرها، تماما كرسوم الأطفال المتحركة.

هل أردتني أن أصبح نسخة عن بائعة الكبريت البائسة؟ أم نسخة عن السندريلا الخادمة؟ أم أنك كنت أذكى من زوجة والد بياض الثلج، لذلك نفذت سريعا أمر التخلص منّي، كي لا أعود مجددا إلى واجهة حياتك المستقرة؟

لم أوجد نفسي بنفسي يا ماما، أنا فقط خطيئتك أنت، أنا ذنبك الذي سوف ينام معك في قبرك جنبا إلى جنب، أنا ضميرك الذي سوف يلازمك ويكتم على أنفاسك، وأنت عبثا تحاولين النوم.

حكموا علي بالإقامة في إصلاحية، لأني بحسب حكم القاضي قاصر ارتكبت جناية السرقة، خرجت في تلك الإصلاحية وأنا أحمل إلى جانب لقب اللقيطة لقبا آخر: سارقة. هه ، أتصدقين لم أكن أملك شيئا؟ لا اسما عائليا، لا مكانة اجتماعية، لا ظهر يسندني، ولا يد تمتد إلي تمسح عن وجهي الهزيل التعب، و لا قوة لدي لمواجهة الغابة التي ستأويني، بعد أن بلغت الرشد.

ربّما فكرت بينك وبين نفسك، أنّي قد أصبح نسخة عنك، ولربما ارتكبت نفس أخطائك، الله وحده كان معي، خيبت آمال المثل الذي يقول إن الفتاة تكون نسخة عن أمها، خالفتك وخالفت المثل، تصرفت كامرأة قوية تواجه الحياة والمجتمع والظروف القاسية.

كان سهلا جدا أن أؤرخ لقصة شبيهة بقصتك، أو أجعل من ضعفي حجة، وأن أعيش على طريقة الضعيفات، كم كان الأمر يسيرا جدا، وفي متناول يدي، لو أنّي سرت في طريق العبث، كان لدي ما أستطيع أن أستغله لأصل إلى ما أبتغيه، لكن شريط حياتي الأسود كان يمنعني عن السير في الطريق اليسير.

كان محرما علي إعادة إنتاج نسخة أخرى عنّي، ولم أكن بحاجة إلى درس مكرر لأستوعب فظاعة مأساتي.فهمت مبكرا جدا أني أواجه ابتلاء، وأني يجب أن أكون مسؤولة أمام ما أواجهه.

أضحك يا ماما الآن، أضحك بشدّة، لأنه وبعد عمر من العقد والانكسار والانحدار نحو كل أنواع الهاوية، أصبح بإمكاني أن أكتب إليك من مدينة لا تتنفسين هوائها، أنا الآن أبعد من أن يطالني ظلمك.

أكتب إليك فقط لأقول إنّي برغم كلّ الوجع الذي تسببت لي به، لم أخسر نفسي، لم أخسر إنسانيتي كما فعلت، كسبت معركتي التي خسرتها أنت في أول اختبار واجهك، يوم أنجبتني خطأ، وتخليت عني ظلما، كسبت معركة الحياة وواجهت ضعفي وألمي وكل معاناتي.

خرجت منذ أيام من مستشفى الولادات، أحمل بين ذراعي طفلتي شمس، إلى جانبي رجل يحبني، أهدتني إياه الحياة ساعدني لأثبت وأتماسك وأعيش كنوع من التعويض الذي ربّما كنت أستحقه من باب الإنسانية على الأقل، أحمل طفلتي التي همست لها لحظة صرخت قادمة إلى الحياة: "أنا أهديتك هذه اللحظة، لذلك سأحميك".

فعلت تماما عكس كل ما فعلته أنت، احتضنتها لعلّي أكفّر فيها عن ذنبك معي.

لي الآن حياة أعيشها، ولك جحيم تغرقين به، إن كان بإمكانك أن تعثري عليّ يوما وتطلبي إلي أن أغفر لك صدقيني سبق وفعلت، فلست أحمل في هذا القلب سوى محبّة الله وطفلتي ورجلي.

إني أغفر لك، أغفر لك أوجاعي كلّها، أغفر لك ألمي وضياعي وتيهي في حياتي السابقة، أغفر لك لأني أريد أن أشفى من ذلك الحقد، لكني بالمقابل يا أمي أطلب إلى الله أن يقرّ عدالته كاملة فوق هذه الأرض، لا أريد أن أواجهك في السماء.

سامحتك ماما، سامحتك قدر استطاعتي كبشر، فقط حاولي أنت أن تسامحي نفسك.

D 26 كانون الأول (ديسمبر) 2015     A غانية الوناس     C 0 تعليقات