عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية أحمد الوناس - الجزائر

الصوت البعيد


غانية الوناس: كاتبة جزائريةتمطرُ غزيراً في الخارج، وفي قلبي مطرٌ كوني لم يهدأ منذ سنوات، أحاول بيني وبين نفسي أن أكون قوية، أكابد كل تلك المشاعر التي تتآكل في داخلي. أنا قوية بما يكفي لأتجاوز كل شيء يؤلمني، لكني لست بقادرة على ذلك حقا.

تترنم في آذاني تلك الأغنية البعيدة جدا:

"سوسم آ علي. سوسم آ ميمي. وأنغ آعلاو إي باباك، باباك يروح يبعذاك، يوي هاروميث يجا يماك"(1).

من أين يأتيني هذا الصوت البعيد جدا؟ من أين يأتي هذا الحنين الذي يتصاعد في الروح، ليطفو أخيرا على السطح، أجاهد نفسي لأنسى، ولستُ أنسى.

يتراكم كل شيء في نفسي، من زمن الأمومة البعيد جدا، من زمن طفلي الأول، طفلي الوحيد، كم كان حلما ذلك الطفل الذي حملته في رحمي أشهرا! كنت وقتها كمن يمشي فوق السحاب مغمض العينين، كأنما يريد بذلك أن يتحسس ملمس الغيم الخام دون النظر إليه.

كنت أماًّ سعيدة وأنا ألمس بيدي بطني وهي تكبر شيئا فشيئا، فتعطيني شعورا بطاقة الخلق التي تستقر في داخلي. كنتُ هائمة وأنا أشعر بنبض روح تسكنني! تنمو في داخلي، رجلاه الصغيرتان وهما تدفعان بقوة كأنما يستعجل الخروج لملاقاتي.

كنت أرتجف فرحاً، حين كنت أسمع نبضه الخفيف، فأراه أمامي يتحرك في شاشة الأشعة بجسمه الصغير جدا، روحا ضعيفة تنتظر لحظة الميلاد الكبرى.

يا طفلي أنا، كم كان مجرد وجودك يبعث الأمل في حياتي الساكنة! كم كنتَ تعني لي لأنتشي بحضورك الذي انتظرته دهرا! وكم كنت أدين للحياة والقدر والكون فقط لأنك في لحظة ما ستصبح كائنا ملموسا بين يدي!

يوم ميلادك كان وجعي وآلام الولادة لا يساويان شيئا مقابل نظرة إلى عينيك الصغيرتين بحجم حبة لوز؟ ماذا كانت تساوي كل تلك الأوجاع؟ وأنت كنت هديتي العظمى من السماء، وأمنية نمت في القلب واتسع لها الكون كله، ويوم جئت إلى عالمي تناسيت كل شيء لأبدأ بوجودك حياة أخرى، بعيدة عن كل التعب والقهر اللذين عشت فيهما طويلا.

يا سري الجميل، اختلف العالم بعيوني لحظة مجيئك، ورسمت لنفسي معك أشياء نحياها معا، أنا وأنت كأم وطفلها الوحيد.

كنت تكبر أمام عيني، رضيعا يحبو إلى كفي كي أحمله وأدلله، طفلا يخطو خطواته الأولى، لأغمره بين ذراعي فيلثم عطري الذي لا يعرف عطرا عداه، صبيا يجري في أول يوم دراسي له، يهرع إلى حضني لأعانقه، يقول لي بصوت مضطرب: ماما لا أحب المدرسة، لأنك لست فيها.

طفلي المدلل، وحيدي أنا يمضي سنواته في الدراسة عاما إثر عام، وها هو يأتيني بخبر نجاحه وانتقاله للجامعة، يضحك وهو يعانقني، أقول له: أريدك مميزا، لا يهم ما تدرسه، فقط أريدك ناجحا متفوقا، فخورا بنفسك، وفخورة أنا بابن أبيه.

وتمضي سنوات جامعتك، أتأبط ذراعك بين زملائك طبيبا متفوقا، يمضي بخطوات ثابتة نحو مستقبله.

يا طفلي الذي كبر فجأة، كم دمعا بعد سأبكي ذكرى أبيك، وأنا أسرد له كيف غدا طفلنا كبيرا في غيابه؟ وكم هو ناقص كل شيء بدونه؟

طفلي الذي صار طبيبا، كم كانت تساوي تلك اللحظة التي وقفت فيها إلى جانبك؟ تمسك بيد عروسك، وبالأخرى تمسك يدي، وأنت تهمس في أذني: يا أمي أريدك قريبة أكثر.

أمك القريبة إليك أكثر مما كنت تطلب، كيف استحال قربها جفاء وفجوة عميقة إلى هذا الحد المخيف جدا؟ كيف أصبحت أنا الغريبة المقصية منك، وأنت الذي كنت كل عالمي وكوني ودنياي؟

تسحبني الذكرى الأليمة رغما عني إلى ذلك اليوم البائس، يوم جمعت لي أشيائي كلها، أغراضي وثيابي ومضيت بي إلى هذا المكان البارد جدا.

كيف كان هينا عليك مسح الماضي كله بقرار جائر، وأنا التي رهنت كل حياتي وقراراتي وأقداري كلها لك، لك وحدك؟ كيف كان سهلا عليك أن تنسى كل حياتنا معا، تضحياتي، تعبي، سهري لأجلك، وتختار مقابل ذلك كله أن ترميني هنا؟

كم كان قاسيا علي أن أراك بتلك الصورة البشعة، التي لو رويت لي عنك، لكذبتها ألفاً، ولأقسمت بكل الأيمان التي أعرفها بأنها محض افتراء؟

يا طفل أمك، ماذا فعلت بأمك؟ هل كان هذا الجزاء، مكافأة لنهاية حلمي معك؟ هديتي السماوية في عيدي الستين؟ هل كان قدري بائسا إلى الحد الذي يتركني فيه طفلي الوحيد، ويجعل من كل الماضي معه مجرد ذكرى يحاول ألا يستعيدها أبدا؟

تتردد صدى الأغنية في أذني كثيرا، طفلي القريب يصبح بعيدا، وأصبح أنا امرأة عجوزا وحيدة في دار للمسنين، أجتر ذكرياتي البعيدة جدا، يسامرني مذياع قديم، يختزل زمن الثرثرة في ملامح ساكنة ثابتة لا شيء فيها يتغير.

يحتفلون اليوم بعيد الأم، هذا المبنى العتيق يضيع في السكون، يجاهد بساكنيه المجهدين من الحياة، ليقتل هذا الحزن المقيم فيه أبدا، ويصارع اليأس الذي يتسرب إلى هذه النفوس المقهورة دهرا ولم تنس.

أسأل نفسي وأنا أطالع بعيوني وجه الحاج علي، جالسا هناك وحيدا يمسك صورة أبنائه، ويمسح دمعة تحاصره، ولا يقوى على ردها، ولالا عيشة التي تغمض عينيها قسرا، كأنما توهم نفسها بالنوم لعلها تنسى كل شيء، تنسى أن هناك من لفظ كل ماضيها، وألقى بحاضرها ومستقبلها هنا في هذا المكان الموحش، كمقبرة تغتال كل اللقاءات التي كان يمكن أن تولد بين أطفال وآباء وأمهات.

نجلس جميعا بخوفنا اليومي، في كل مساء نتشارك حزننا الأبدي نحن الأمهات والآباء غير المرغوب فيهمم، نحن الملفوظين من أبناء منحناهم كل حياتنا، وما جزينا منهم غير الإهمال والجحود والنسيان.

أكتب بيد ترتجف هذه الرسالة الحزينة التي أجتر حروفها في كل يوم، كأنها وجبتي اليومية، وعاداتي الجديدة منذ سكنت الدار، أكتب إليك يا طفلي، وأنا لم أعد أنتظر من الحياة كلها ولا منك أنت شيئا.

أعرف أني على وشك أن أكون نهاية لقصة حزينة جدا، وأعرف أكثر أن الحياة لم تسعفني كثيرا لأسعد بلحظات فرحي الشحيحة، كنت أنت فرحي الوحيد، وسعادتي اليتيمة، وما خلتك يوما أن تصبح أنت وجعي الأبدي الذي لن أشفى منه أبدا.

لا أعرف إلى الآن إن كنت سأعيش لأرى عينيك اللوزيتين اللتين أشتاقهما جدا، لكن مع الوقت اقتنعت بأن انتظارك وهم يسري في داخلي، كآخر مجرى لنهر يصارع الجفاف، وأن النهاية قد كتبت في ذلك اليوم الذي تخليتَ فيها عن بنوتك، وأعفيتني أنا من أمومتي.

انتهى كل شيء يوم أمسكتك من يدك وقبلتها كثيرا، وأنا أردد في تلك اللحظة: لا تتركني هنا وحيدة، وترحل. لكنك خذلتني، خذلت أمومتي وخيبت كل رجاء لي فيك. خذلت شيخوختي المبكرة جدا، وتركتني أواجه وهن العمر وحيدة جدا وبائسة جدا، وقبساً من روح ينتظر النهاية بخوف ووجل.

لا أعرف إن كنت يوما سأصفح عنك، وربما إن استطعتَ أنت أن تسامح نفسك على إيذائي ذات يوم، ربما يومها فقط سأسامحك، وإن أبلغت يوما برحيلي، رجائي الأخير منك كأم ترجو وحيدها، ادفني إلى جانب والدك، ولا تقصص أبداً ذكرانا معا لأطفالك، أخاف يا طفلي الوحيد، ذات يوم أن يعاملوك بالمثل.

= = =

(1) أغنية من التراث الأمازيغي القديم وتعني: "توقف عن البكاء يا علي، توقف عن البكاء يا بني، سننسج لأبيك برنوسا. أبوك الذي غادرك، تزوج أجنبية وترك أمك".

D 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2015     A غانية الوناس     C 5 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • كم أنت غنية يا غانية ..وأنت تحملين هذا الكم من الأحاسيس التي سرقت دموعنا والتي كافحتها بقوة الا انها أبت الا على التمرد ..أي زمن وأي قوة وأي حنين وجمال ورقي ذلك الذي حكتيه ودثرتينا به من الحياة التي يجحد بها البعض في انسانيته ، وأي وصف لمشاعر الأم تلك التي نسجتيها وكأنك أنت هي الأم بكل مراحل العمر ..مبدعة وراقية حقا أنت ايها الغانية الغنية بالاحساس المرهف..دام قلمك جميلا كأنت..


  • "يا الله .. نص عاطفي رائع يحرك عاطفة القارئ من شدة ارتباط الكلمات بالاحاسيس. تأثرت جدا أثناء قراءتي للنص و تذكرت وضع مشابه لام وابنها أعرفهم شخصيا. نفس الوضع إلا أن الولد مازال طالبا في الثانوية! وهذا ما زاد في تأثري بالنص. أبدعتي بالقصة أدبيا ومعنا. فعكستي شعور الأم من تفاني وعاطفة بشكل صادق و مؤثر كانك لبستي الشخصية! وفي المقابل

    رسالة قوية في فضل الأمومة وعقوق الأبناء، وأحسنتي التصوير ونقل المشاعر ... قلم قوي وربي يبارك فيه"


  • تحياتي أ/غانية كل التقدير لنصك المؤثر الجميل سلم قلمك


  • قبل نصف قرن لم نكن لنكتب في هذا الموضوع كقصة قصيرة. ربما كان سيرد خبرا في جريدة يثير الاستهجان. الآن اصبح واقعا يثير الشجون والخوف من أبنائنا في قصة، وربما بعد عدد من السنوات يصبح هذا هو الطريق الطبيعي لنا.

    بدأت اكتشف أن الفقر له يد حتى في هذه. لا توجد أم ثرية تملك زمام الأموال بيديها ولا تنفقها على أولادها تحتاجهم حين تكبر، بل بالعكس تظل هناك مسافة من الخوف والاحترام للأم القادرة على منح الأموال.

    دار العجزة مصير الأم الفقيرة التي أعطت كل ما في قلبها وما في جيبها لوحيدها وغفت مطمئنة لا تعلم أي كابوس ينتظرها حين تصحو.


في العدد نفسه

كلمة العدد 113: التمسك بالمبادئ يثمر ولو بعد حين

موضوعات شعر العقاد/ج2

الكرّاب عبر تاريخ المغرب/ج2

عرض لرواية حديقة خلفية

قـرطـان