صبا حسني - سورية
فتنة الشام: مقتطف من رواية
النص أدناه مقتطف من رواية قيد الطبع عنوانها "فتنة الشام".
إن مآسي الفقراء تغدو على مسرح الحياة ملهاة مثيرة لتعاطف الأغنياء، فبالنسبة لشخص اعتاد عدم تناول طعام الإفطار، وغالبا ما يفضل طعام الغداء المكون بغالبيته من لحوم وخضار متنوعة. لم يكن جيفري ليصرف الكثير من وقته لقضايا الطعام فهو كإنسان ولد وعاش ثريا، لم يعرف يوما معنى الانتظار وتخيُّل طعم المأكولات من خلال صورها ونماذجها المعروضة على واجهات المحلات الكبيرة، وبالتالي هو لا يميز ملامح الناس الجائعة، ولا أبالغ بالقول إنه لا يكاد يلمح الفقراء أبدا .
الفقر نعمة أحيانا سيشرحها لنا جيفري في نقاشات لاحقة قد تلقي ضوء على أفكاره وشخصيته بشكل أكبر.
لا أعرف تماما كيف أصف لكم سوزان فهي كانت فتاة جذابة، غريبة الأطوار إلى حدّ معقول، فتاة شرقية الطباع غربية الفكر، هي مزيجٌ من كل شيء، اذا اعتدت طعمها ستجدها أطيب الناس وأجملهم، وإن استهجنته وجدتها أقل الفتيات جاذبية. لا يمكنك اختصارها بعبارة أو اثنتين: هي مزيج بين نثر وشعر في موشَّح أندلسي.
بالنسبة لجيفري كانت تلبية لولع قديم، كانت تلبية لرغبة شابّ يبحث عن شيء جديد، تغييرا للنكهات لا أكثر.
"كثيرةٌ هي الأماكن التي قد نزورها معه ومعها، في بيت كبير أثير على قلوب الكثيرين هو دمشق، مكان غنته فيروز وطرزه شعراء كثر. غرفه وردهاته أضاعت اليوم الكثير من معالمها وسط نيران الحرب الشرسة. اذا ما سنزوره فعلا هو بقايا الذاكرة التي تبقت لنا معه؛ سندخل بيوتا وحارات غابت عنها الشمس حاليا، وقد ندخل ممرات وغرفا لم تكن موجودة أصلا، لكن ذاكرتنا رسمتها عن مكان جميل سكناه معا.
والآن، ما أود أخباركم به أن لقاءات متتالية جمعت جيفري مع سوزان فيما بعد، عرف بعضا من طباعها، وربما أحب حرصها، فهي كانت تلعب دور الفتاة صعبة المنال بإتقان، وهو دلالٌ لطالما أدركه بالنساء في الروايات الأدبية التي لطالما قرأها.
معرفته بالنساء محدودة ببعض الكتب والأفلام الأميركية، فهو لم يملك وقتا كثيرا ليفكر بمتطلبات نفسه الجسدية ولطالما كانت لديه أحلام يقظة جنسية، لكنها افتقدت البعد العاطفي، الذي لم يكن خياله قادرا على تصوره. كيف له أن يسبغ المودة والحنان على أحلام بالأبيض والأسود؟
"لا أخفيكم أنني أحب شخصية جيفري فهي غنية تتعبني بشدة وتؤلمني أحيانا، لكنها وفي مكان ما من حيث لا ندري دافئة رغم اصطكاك أسناني عند ملامستها".
سوزان، شباط 2010
سارت به عبر أزقة باب توما القديمة، أزقةٌ ضاحكةٌ وأخرى مستغربةٌ، أحست بقوة كبيرة قربه. دخلت شوارع ضيقة وحارات متكئة على جوانب سور المدينة القديم لم تجرؤ قدماها على الخطو فيها سابقا، فمن باب شرقي إلى مدحت باشا إلى البزورية بألوانها الهندية وسحرها، وصولا إلى خان أسعد باشا حيث يمتلئ أنفنا بالعطور والرطوبة اللطيفة ونغيب في غرف من عصر أفل، ليأسرنا شعورٌ قديمٌ ما زال في قلبي وقلبهما.
وجود أميرها أمدها بقوة عظيمة، إنها معه في وجه كل الدنيا، شعورٌ غريبٌ ولكنه مميز، طارت كعصفور وحلقت حوله مغردة، فرحة حزينة معا، فالحب انفعالٌ من عواصف العواطف لن نختصره بكلمة – فرح– لأن ذلك محضٌ كذب فقط، الحب ألمٌ وغضب، الحب قلقٌ ومِلحٌ وعَرقٌ، الحب بعد كل هذا المزيج، يغدو سعادة، لكنه لا يكون كذلك بدون بهارات العواطف تلك كلها.
انتهى طريق النحل في يومهما ذلك بصمت غريب، نظر جيفري أخيرا إليها وقال، "هل سأراك؟"
ردت بقوة: "أجل"، وافترقا.
مرت ثلاثة أيام وسوزان تنتظر اتصاله لكنه لم يفعل، أخذتها الظنون وقررت أخيرا أن تتشجع وتتصل لتطمئن على كتفه. أن تختلق حجة ما ربما.
رد بصوت ضعيف: "أجل، أهلا انتظرت اتصالك".
استغربت وتشجعت بآن معا: "كيف هو كتفك؟"
ربما يجب أن تعرفي أنني لم أغادر المنزل منذ يوم الأحد، فأنا متعبٌ بعض الشيء، وبحاجة لرؤيتك.
صمتت. "حسنا أتمنى أن تصبح أفضل، التغطية سيئةٌ لا أسمعك جيدا يجب أن أغلق".
ما هي إلا دقائق حتى رن جوالها برقم جيفري مجددا، فتلبكت، وبعد ثوان من التردد ردت.
"سوزان، هل تأتين لزيارتي أنا مريض؟ اسمعي أم قيس، أقصد الخادمة في المنزل، لست وحدي. أرجوك تعالي".
"لكنني لا أستطيع".
"اذا كانت صداقتنا تعني شيئا لك أتمنى أن تأتي. أنا مشتقلك كتير".
"أنا لا أعرف أين ولا كيف".
"اسمعي، منزلي قريب، إنه في المزة مقابل بنايات 14 تقريبا. تعرفين شارع الجلاء، منزل السيد جمال أسعد والي. لن تتوهي".
"ربما".
"عديني سأنتظرك".
"سأحاول".
كانت سوزان قد انتهت من دوامها للتو ولديها الكثير من الوقت للذهاب إلى منزل جيفري، ولكن كيف لها ذلك، فهو شاب أعزب، غريب عن نمط حياتها إلى حد كبير. الذهاب إلى منزله مغامرةٌ مربكةٌ قد تكون لها نتائج سيئة. لا لن تفعل. أصلا كيف له أن يطلب منها زيارته؟ هل هو معتوه يريد استدراجها الى عقر منزله؟ هذه الحركات الرخيصة. لا لا لا؛ لن أذهب وسأغلق هاتفي لأنه سيحرجني باتصالاته.
وهكذا كان حتى صباح اليوم التالي، عندما فتحت جوالها لتجد أكثر من عشر رسائل لوم وعتب وحتى غضب لعدم قدومها وإغلاقها الهاتف، بينما اعتذر جيفري عن غضبه في رسالته الأخيرة، ورجاها أن تغفر له طلبه فهو لا يريد منها شيئا إلا رؤيتها ولن يطالبها بشيء إلا ذلك.
عند ذلك شعرت براحة غريبة وثقة ما بنفسها. أنا لا أخشى شيئا سأحضر معي بعض الزهور وأطرق باب منزله دون أي خوف، وفي حال كان وحيدا في المنزل سأناوله الزهور وأذهب غصبا عن أنفه، لن يجبرني على دخول منزله وحدي أبدا.
وهكذا بدأت تبحث عن منزله في الشارع الذي ذكره، وبصراحة كانت المنازل المتلاحقة عبارة عن سلسلة فيلل متتالية لعائلات ثرية وعريقة تتباهى بثرائها بطريقة متحفظة، فالأسوار عالية تستر معظم البناء خلفها وكأنها تخفي أسرارا خاصة لا يمكنها البوح بها.
أخيرا وصلت إلى منزل السيد أسعد والي المذكور، وهناك قرعت الجرس، ففتح الباب رجلٌ خمسينيٌّ متواضع الهيئة، فسألت عن جيفري فما كان منه إلا أن اصطحبها إلى داخل المنزل المكون من طابقين، واستقبلتها عند الباب الداخلي امرأة خمسينية أيضا بعد أن سألتها عن اسمها ومن تكون.
وجلست أخيرا في غرفة الضيوف وهي غرفةٌ ذات كراس من الخيزران عسلي اللون، واجهتها تطل على حديقة خلفية غناء، أما الثريا المتدلية من الحائط فقد كانت على الأغلب من الكريستال البوهيمي، وساعة الحائط الكلاسيكية الكبيرة تقف وسط أحد الجدران، بينما امتلأت الفاترين الخشبية الجميلة بقطع الكريستال والزجاج الأخاذة، وتمايزت لوحةٌ كبيرةٌ على أحد الجدران الباقية، هذا طبعا بعد أن غضت سوزان بصرها عن صالون مقابل ذو شاشة مسطحة كبيرة، وكنبات ضخمة متقابلة لم ترغب إطالة النظر إليها، لقد شعرت حقا أنها في قصر وخجلت من مظهرها المتواضع إلى حد كبير.
عادت الخادمة لتخبرها أن السيد أسعد والي سينزل قريبا.
ما هي إلا دقائق حتى أقبل جيفري تعلو محياه ضحكة كبيرة.
"يا إلهي سيدتي الجميلة!" انحنى مقبلا يدها بصمت، وهنا تلونت سوزان بكل الألوان واشتد خجلها، قدمت له باقة الزهور إلى جانبها وقالت أتمنى أنك أفضل حالا الآن.
"إنها أجمل مفاجأة في حياتي صدقيني، أنا تحسنت منذ الآن".
"كيف حالك أنت؟ أخبريني، لا تغضبي مني، ولكنني لست مشتاقا فحسب بل أتمنى أن أضمك والله بمحبة لا أكثر، هكذا يفعلون بالأفلام".
جيفري خبيث ويدرك تماما ما يحرك المرأة ويسلبها عقلها وهو جنتل جدا، كما أدركت سوزان.
"حسنا، ماذا تحبين أن تشربي، هل تناسبك المته؟"
"هل تمزح، أم تسخر مني؟"
"ربما الأولى فقط ، ومع هذا ستشربين المته معي، صدقيني إنها طيبة".
"حسنا إن كنت تريد ذلك".
أطال جيفري النظر إليها، والغريب أنه لم يشعر إلا بشوق غريب إلى غريبة بدأت تسكن روحه، كان مطمئنا جدا ولم يشعر بحاجة إلا إلى أن ينفتح أمامها ككتاب مغبر قديم بحاجة إلى يدين حريصتين.
البارحة عندما أغلقت هاتفها الجوال جن جنونه فعلا. غضب وحزن وأخذ يرسم لها صورا بالحبر الأزرق الناشف على أوراقه طوال الليل، والآن حسناؤه السوداء تجلس بقربه، ولكم يود أن يضمها، لكنه حقا لن يؤذي حسناءه يوما.
قالت ضاحكة: "بيتك جميل، لكن بيتي أجمل. أجل لا تغضب. بيتي فيه روح وحياة. بيتك كبير ولكنه بارد هذا شعوري فقط".
"لابد انك محقة فأنا الآن فقط أشعر بالدفء".
"هيه كفاك تلاعبا بالكلام؛ لا أحب الغزل أرجوك؛ لنكن جديين".
"يبدو لي أنك بأحسن حال، هل خدعتني بقصة مرضك مثلا؟"
"ربما أنا أفضل اليوم لكنني عانيت التهابا في الأمعاء خلال اليومين المنصرمين. أخذت الأدوية حتى شعرت ببعض التحسن ولم أتناول غير السوائل، يمكنني أن أحضر لك الأدوية اذا شئت".
"كلا، شكرا، فأنت الطبيب والمريض معا. لا يمكنني مجاراتك".
مضى الوقت سريعا وكانت سوزان أسعد الناس بعد جيفري بهذا اللقاء. برد إبريق المتة مرارا، ولم يستطع جيفري شرب أكثر من كأس فهو لم يكن قد شرب المتة مسبقا في حياته، ولكنه أراد إحاطة حسنائه الساحلية بجو ألفة تألفه ولو اضطره هذا لتجرع كأس مليئة بالغبار الأخضر المر هذا.
1 مشاركة منتدى
فتنة الشام: مقتطف من رواية, بيتو - فرنسا | 5 كانون الثاني (يناير) 2015 - 11:58 1
هذه هويّتنا، أشياء من ماضينا
وهذه ثقافتهم، أشياء من مستقبلهم
لا هم نظروا لماضينا ولا نحن أبصرنا لمستقبلهم
وأين السعادة الآن في هويّتنا وثقافتهم
لم نعد نريد مستقبلاً نريد حاضراً أو عودة في الزمن إلى الماضي
عمل جميل في حدود ما قرأت لشخص جميل