هدى الكناني - العراق
غروب دام ونصوص أخرى
غروب دام
ما نظرت إلى الأفق وقت الغروب، إلا ووقفت مسحورة بذلك النزيف القاني للشمس، وهي تتمرغ سابحة في مياه النهر لتبتلعها مويجاته وكأنها إله وثني، يكحّل وجهه ويلوّن جسده بدماء أُضحية، ذُبحت قرباناَ له ويسبح مزهوا بدمائها التي أثلجت صدره الملتهب حنقا.
يوم ودعتك
لفعت روحي برداء حديدي، وددت أن أكون أكثر المودعين تماسكا لحظة الفراق. فكنت كذلك، لكن ما أن غادرتني، خانتني دموعي، خذلتني شجاعتي وبدأ هذياني بك يأكلني كما يأكل الصدأ الحديد. فاتني أن أطلي ردائي بطلاء ضد الصدأ، كي لا تصدأ روحي بعدك.
كلمات متقاطعة مع الحب
ترى لم أنت دون خلق الله، حين أراك، يغوص قلبي إلى أقصى نقطة في الروح، يقطف ورودها الحمراء، لينثرها على وجهي، فيتورد؟ لِم يشع جسدي دفئا ما أن يُذكر أسمك؟ لم تغص الحروف في حنجرتي ولا تُعينني أوتارها، كي ألفظه؟ لِم حين يتمطى الحزن في عينيك، يصهرني خوفي عليك وأود تقبيلهما، علّني أختزل ذلك الحزن الغافي فيهما، كي لا يعتصر قلبك ألما؟ لِم لقاءاتنا تجري بسرعة كدمعتي وبعدك عني طويل كليلتي التي تكابد طويلاَ لتحتضن الفجر؟
ليلى والذئب
في ليلة كالحة كخوفها ودنياها، وقفت تلك الصبية ذات سبعة عشر ربيعا، مرتعدة، تلتصق بأبيها كطفل صغير يلوذ بظل أبيه، تحاشيا لخطر قادم لا يدري كنهه، لكنه على يقين من قربه منه.
"لا تخافي يا صغيرتي فلطالما خشينا عليك من أن تنهشك الذئاب، لقد تعبنا ونفذت ذخيرتنا في حمايتك يا ليلى".
"لوذي يا صغيرتي بجانب ذاك الرجل القوي وكوني على يقين بأنه سيحميك وسيكون سندك بعدي".
"أمتأكد إنه ليس ذئبا آخر؟"
"لا، لا، يا ابنتي".
"إذن لم أخافه؟"
"لأنك أبدا ما فارقتِنا، ستتعودين عليه، لا تخافي".
ما دار بخلد أبيها ولا مر بخياله أنه يسلمها إلى ذئب عجوز، بل إلى قائد القطيع. لم ير إن تحت جلده أمكرهم.
غادرت ليلى أهلها متأبطة ذراعه، فكانت سبيته وحمله الوديع، يلتهمها كل يوم ويغتال أمانيها.
حتى ذلك اليوم، رجعت وإحساس الذل والهزيمة والهرم قد افترست كل أحلامها. رمت بنفسها باكية في حضن أمها وتكورت كجنين، نزل للتو من رحم أمه.
"أماه ليتك ترجعيني جنيناَ إلى أحشائك، فما أحسست بالأمان مذ فارقتك".
تجيبها باكية وهي تحتضنها كما كانت تفعل حين كانت طفلة صغيرة:
"يا صغيرتي، حاربنا كل شيء خفنا منه عليك، وهزمناه، إلا القدر يا ابنتي، لقد كان الذئب قدرك يا ليلى".
مناغاة قلبين
في ذلك المكان الذي دُعي إليه، النساء فيه أوفر حظوظا بالجمال من غيرهن. وقد عرف عنه بأنه يقدر الجمال ويعشقه، وله صولات وجولات في عالم النساء فما باله ساهما؟
يراقب ندف الثلج يتساقط مهللة من السماء، فينهمر كما زهر الليمون يقبل وجه الأرض ويجللها بلباس ابيض كفستان عروس.
مطرقا يفكر فيها. آه يا ندفتي الثلجية؛ يا حبة بردي الصغيرة، أنّى لك هذا التأثير العملاق على قلبي الذي ما رآك إلا مرة وصار لا يرى طريقا له إلا من خلال ضياء عينيك؟ كم أود لو أن أناملك الصغيرة تتساقط على شفاه قلبي المشققة عطشا لرؤياك علّها تطفئ ظمأ روحي المستعرة شوقا إليك.
ليتني أراك، ليتني أصارحك بما يختلج في صدري، لكن هل أصارحك وأنا مغادر فالواجب يدعوني للرحيل؟
يرفع رأسه بحركة لا إرادية بعد أن عبق رئتيه أريج زهر الليمون. يتطلع إلى مصدر الطيب فإذا بها تدلف من باب القاعة الكبرى، وإذا بحفيف ثوبها يزيد من اضطراب ضربات قلبه ويرفع ضغط شرايينه.
آه يا صغيرتي، يا حبة بردي! أنت هنا؟ يقدمهما المضيف لبعضهما، فينحني ليحييها وقد جف ريقه مانعا إياه من أن ينطق اسمها وتكاد الحروف تتواثب من فمه لتعزفها أوتاره الصوتية كما تعزف النوتات الموسيقية على البيانو، غير إن ما خرج من فمه سوى همهمة لم تُفهم.
يتحاشى النظر إليها شاغلا نفسه في إذكاء نار الموقد. تتساءل لم يتحاشى النظر إلي؟ تناغيه: خلتك تسبح في شطآني ماذا بك؟ لم تبتعد إلى أعماق بعيدة عني؟ أين تشرد مني؟
وكأنه يجيبها: أبدا ما غادرتك أفكاري، لكنني أخاف عليك من أن تسمعي ضجيج كلماتي وتوقها المزمن للغوص في بحر عينيك الغافيتين بوداعة وسلام مع كل ما في الوجود.
آه لو أستطيع احتوائك في داخلي أن أنسج شراييني بشرايينك خلاياي بخلاياك، أُشابك أضلعي بأضلعك، كي لا أفارقك ولو لوهلة.
◄ هدى الكناني
▼ موضوعاتي
5 مشاركة منتدى
غروب دام ونصوص أخرى, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 31 أيار (مايو) 2014 - 20:31 1
أ/هدى الكناني تحية طيبة كلما قرأت نصوصك لفحني وهجها ,وكأنك كالعذريين معاناتهم في الحب ثيمة محببة لها أبعاد اجتماعية وحضارية .أيتها المرهفة لك تقديري وتمنياتي لك بولوج أوسع الآفاق .
1. غروب دام ونصوص أخرى, 7 حزيران (يونيو) 2014, 04:39, ::::: هدى الكناني من العراق
هدى ابو غنيمة/الاردن: كلماتك شهادة من استاذة مرهفة وشفافة اتمنى ان اكون عند حسن ظنك وكل من يؤمن بانني قطرات في بحور معرفتكم وتقييمكم للأدب.
غروب دام ونصوص أخرى, احلام مهدي -العراق | 4 حزيران (يونيو) 2014 - 23:11 2
يقول شكسبير ما اقوى الحب فهو يجعل من الوحش انساناً وحيناً يجهل من الانسان وحشاً...اما جبران خليل جبران فيقول ان الحب دمعة وابتسامة وغيرهم قال الكثير. فالحب اسمى المشاعر بل هو اجمل ما في الوجود ,وما نحن البشر الا كتلة من المشاعر والاحاسيس, فلولاه لما استطعنا تحمل مرارة وقسوة الحياة. سعدت كثيراً بقراءة ما كتبت ودعائي لك ياعزيزتي هدى بان تكوني دائماً متألقة كعهدي بك وان لايجف لك قلم ان شاء الله.
1. غروب دام ونصوص أخرى, 7 حزيران (يونيو) 2014, 04:30, ::::: هدى الكناني من العراق
احلام مهدي من العراق: كم أنا محظوظة بقارئة دؤوبة مثلك وبكلماتك التي دوما أعتبرها اضافة لي.
غروب دام ونصوص أخرى, إبراهيم يوسف - لبنان | 5 حزيران (يونيو) 2014 - 12:29 3
هدى الكناني
أنت يا هدى - كاليبسو.. الحورية الفاتنة
وأميرة الجزيرة
أسطورة من أساطير اليونان الجميلة
صوت قيثارة
سرقها غزاة برابرة
من المتاحف في بلاد الرافدين
كل ما تقولينه..؟
فيه من العذوبة والرقة والمرارة
ما يستحق القراءة والتأمل والثناء.
1. غروب دام ونصوص أخرى, 7 حزيران (يونيو) 2014, 04:26, ::::: هدى الكناني من العراق
كلماتك شهادة من استاذ فاح منه عطر التواضع بالرغم من كونه دوما ضمن الفائزين الاوائل في مختلف الماراثونات الادبية.
غروب دام ونصوص أخرى, ليلى | 5 حزيران (يونيو) 2014 - 18:12 4
هناك من الكتاب ما يأسروننا بما يكتبون ،ويدهشوننا بما يعبرون ،لأنهم يكتبون بمداد الروح قبل أن يكتبوا بمداد القلم ،ويسطرون بحرارة العاطفة قبل أن يسطروا بوهج الفكر ،وبعبرون عن أنفسهم ببساطةوبلغة سليمة لا غضاضة فيها .
هذا الأسلوب الذي يكنبون به يجعل كتاباتهم خالدة في الروح والوجدان خلود الدهر في حلقات الزمان ..
أبدعت أستاذه هدى
1. غروب دام ونصوص أخرى, 7 حزيران (يونيو) 2014, 04:51, ::::: هدى الكناني من العراق
صدقت يا ليلى: مداد كلماتنا، ارواحنا التي نسكبها على السطور. امنياتي لك بكل الخير.
غروب دام ونصوص أخرى, أشواق مليباري | 5 حزيران (يونيو) 2014 - 19:24 5
الأستاذة هدى الكناني
هذا التشبيه المخيف، سمعت مثله من قبل
(وعند الغروب، يقيم الليل مذبحة للشمس...)
لكن الغروب .. هنا حين تغوص الشمس في البحر الأحمر فتنشر شعاعها الذهبي وتحوله لبحر من الذهب..هو من أجمل مايمكن رؤيته.
مناغاتك للقلوب جميلة ورقيقة
تحيتي ومحبتي
1. غروب دام ونصوص أخرى, 7 حزيران (يونيو) 2014, 04:58, ::::: هدى الكناني من العراق
اشواق مليباري: كم هي رقيقة وعطرة مناغاتك لكلماتنا وكم أعشق غروب الشمس. ورغم ماساوية الحدث، فانا على يقين انها ستطل علينا باسمة ومشرقة.