عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 96: 2014/06 » تراسل المدركات في قصّة "أحلام موؤودة" للكاتبة الجزائرية زهرة يبرم

د. محمد سليمان السعودي - الأردن

تراسل المدركات في قصّة "أحلام موؤودة" للكاتبة الجزائرية زهرة يبرم


محمد السعودياستوقفني في العدد السابق، والذي أُعلن فيه اكتمال السنة الثامنة من هذه المجلة العريقة [عود الند] التي تمثل خلاصة من خلاصات الأدب والفكر والإبداع المتميّز، عددٌ من الإبداعات النثرية، إلا أنني سأقف اليوم عند قصة أثارت شجون الحرف لديّ، ليس لأنني وقفت بجانب "ميساء" فيه، بل للغلاف الفني الذي طوّقت فيه الفكرة، فعلتْ تقنيات فنية جعلت من المتلقي مطاوعا لحرفها وحركة أحداثها؛ تلك القصة المسماة "أحلام موؤودة" للكاتبة الجزائرية زهرة يبرم.

ولعلّ الذي لامس شغف المتلقي بدايةً، تلك التي تسمّى "تراسل المدركات" حيث يقوم العمل الأدبي على تراكم كبير للصور بحيث يطغى على الوجود الفني بصورة يصبح عنان النص في يدها، وبهذا يطرأ اضطراب على حالة الزمن يدفع بواسطتها إلى تبني تيار الوعي ليتم التفريغ الوقتي فيه. وبهذا تتضح الرؤى وتنجلي أحاسيس الأديب لدى المتلقي الواعي.

ففي القصة موقف اجتماعي مبني على واقع مكرور في القصة العربية، واقع يرمي إلى محاولات لسد الهوة بين الحلم والحدث الآني، إلا أن تلك المحاولات باتت مكرورة أيضا؛ لما يوجد فيها من ضمور في المعالجة، وتفتيت في نسج الرؤى على الأغلب؛ ولذلك كانت تجربة زهرة يبرم متقدمة هنا، ليس بدافع الخيال والحس فقط، إنما بدافع المغامرة في رصد التشابهات في العمل القصصيّ واستبداله بتقنية مبنية على الاسترجاع لتتطوّر فتدخل في عالم تيار الوعي، ثم لازم هذه التقنية نسج فعلي اتكأ على الفعل المضارع اتكاء كاد أن يغالب في عدده وأثرة كل ما تبعه من أسماء وحروف؛ وتلك ميزة ربطت العمل القصصي الظاهري بألفاظه وعباراته بجوانية العمل وقصدية تقديمه.

ولا أجد نفسي مغالياً هنا عندما أتحدث عن كاتبة استطاعت أن ترسم لنا ما يجري كالنهر في نفوسنا من مشاعر وأحاسيس للعشق والعشاق. ففي حديثها الأوليّ وجدنا أن العمل كان يجري بصورة رتيبة جداً، حتى وصل بنا إلى بيت المحبوبة الجامعية "ميساء" أو "ميس"، عندها انكسر الزمن وأصبح مضطرباً خاصة عندما رآها، فاضطراب الزمن بين الآني الذي أحدث المفاجأة، وبين زمن ماض جمع فيها الطالب "عمر" بميس على مقاعد الجامعة.

ولم تستطع القاصة أن تتابع هذا الحدث طويلا، حتى سقطت هي الأخرى في اضطرابه، فما هي إلا دقائق معدودة حتى دخلت "ميساء" إلى السيارة ووضعت "نظارة سوداء بعدستين عاكستين كالمرآة" لتتخلص الكاتبة من لحظة التأزيم، وتنتقل إلى تيار الوعي الذي لم أجد فيه شيئاً من تكلّفٍ في العمل الأدبي، إنما جاء فاعلاً ومحرّكاً لدرجة التأزيم (الحبكة) بصورة تدفع المتلقي للقراءة النهمة بغية الوصول إلى ذروة الحدث، فجاء في لحظته الزمنية المطلوبة على مستوى القصّ؛ وكأني به لم يتقدم أو يتأخّر على مستوى زمن القصة وحدثها.

ومن هنا فقد بادرتنا القاصّة بتشكيل حاذق للقاء الأخير الذي جمعها بالحبيب "عمر" كان يوماً شتائيّاً جميلاً يليق بالأحلام الجميلة، يوما هادئاً لا مطر فيه، لا برد ولا رياح". فقد أزاحت المطر عن مشهد اللقاء؛ وفي هذا إشارة خفية أنه لقاء سينتهي بالجدب والخراب، ثم توالت الصور التي تندمج في حركة تيار الوعي، " فأمانيها ستتسرب منها كما الرمل من ساعة رملية. لا تدري أنها كفراشة من قبلة القنديل سترتشف حتفها". وهي صور تنتهي بالسلب المحقق المدروس من قبل "عمر"، صور متفرد تتقابل مع سرد واقعيّ، وإن اعتمدت فيه القاصة على تيار الوعي، سرد مكرور لا جدة فيه:

"سنجسد أحلامنا حقيقة، منت نفسه، سنحدد موعد العرس ونحجز للزفاف في قاعة مسك الليل، سنختار أثاث غرفة النوم وأريدها باللون الأبيض، سأعلق على مفاتيح الأبواب عرائس صغيرة بأثواب الزفاف، سأركب سيارة مكشوفة يوم فستاني الأبيض يقودها عمر. ستكون الأضواء كلها موجهة إلي".

غير أن القاصة كانت بوعي كتابي كبير عندما قابلت الصور المتخيلة المتفردة بتلك العبارات المكرورة على صفحات القصص المنشورة أو حتى بالأحرى مبثوثة على ألسنة السرّاد في المجتمعات البسيطة.

وقد خالط هذا الاسترجاع الموجع صور فنية أصيلة وجارحة في آن، طوّرت من المفهوم العام للدلالة، وبنت على قناطرها تماسكاً قصصياً فريداً بدت أنها من عجينة النص وليست طارئة عليه بأي صورة من الصور؛ فما قولنا نحن المتلقين في قولها:

"وأطلت منه امرأة شابة يسبقها صبيان كأميرين فرا من إحدى قصص الأطفال الأسطورية القديمة".

"أسرعت إليه الخطى بدافع الشوق والفضول تشعل من الأمل فتائل لأيامها، وتتسلق أغصان الريح لتبني من الأوهام قصورا فوق الغمام لم تتوقع أن الأهم سيهرب منها في لحظات، وأن أمانيها ستتسرب منها كما الرمل من ساعة رملية. لا تدري أنها كفراشة من قبلة القنديل سترتشف حتفها"، " واستل خنجره من حلقه".

ولم تكن حركة الفعل المضارع مخفية عن عين المتلقي، فقد بلغت حداً لافتاً، بدءاً من لحظات القصة الأولى، إلا أن التكثيف بلغ أوجه في استدعاء مشهد التردد في العلاقة حتى الوصول إلى مرحلة الحسم؛ عندما قرّر أن ينسحب عمر من مشروع حبّه أمام علاقته المقدسة مع أبيه ومجتمعه، وهذا نص يمثل لحظة ما قبل الحوار الذاتي:

"الخيبات التي تحاصره منذ زمان ومن كل مكان، لم يتمكن منذ تخرجه من الحصول على وظيفة دائمة بدخل محترم يعتمد عليه في فتح بيت وتكوين أسرة. كل الأبواب مغلقة أمامه، بالكاد كان يتسلل من أبواب مواربة إلى أعمال وضيعة قد لا يضمن له دخله منها أحيانا الاستمرار في العيش إلى آخر الشهر".

ومن الملاحظ أن ما وضِعَ تحته خط هي أفعال مضارعة كادت أن تسيطر على حركة الفعل كلياً لولا وجود الفعل الماضي (كان)؛ ويدلل هذا على ديمومة هذا الفعل العربي في سلوك طريق العشق الذي ذهبت في دربه أعداد كبيرة من الضحايا، وكأني بالقاصة تقول كانت هذه الحوادث مكرورة فما زالت موجودةً. وتتوقع أن يستمر فعلها إن لم يكن هناك إصلاح اجتماعي يميز بين قداسة الوالدين من جهة والقلوب المتفطرة المنكسرة من جهة أخرى.

وعندما نوغل في تتبع الحدث من خلال سردها للحدث الفائت نواجه تأكيداً غريباً على استخدمت الفعل المضارع، وللقارئ أن يتخيل ذلك بالنظر للأفعال التي تحتها خطّ في النصين الآتيين:

"حين تتلبد سحب الزمن، تهطل الأمطار، تأخذ معها الألوان وتبقى النقوش. والحب ضعيف في هذا البلد لا يستطيع أن يعيش، أن يقاوم، أن يتحدى، بل سرعان ما تسحقه الظروف. تموت أحلام الشباب في المهد، ويطول وقوفهم في ظلال الحيرة لسنوات".

"واستل خنجره من حلقه. قرار كادح ينتصب، يهوي، يحفر، يدمي، يقتل ويقبر".

وعلى هذا ففي القصة مساحات كبيرة من النجاحات التي لا نستطيع أن نلجها بسبب المساحة المقدمة. فالأمر الآن متروك لمن يعاود النظرة، أو يستجلى الفكرة من جديد.

= = = = =

من مراجع التّنظير النّقديّ:

=1= إبراهيم الخطيب (ترجمة)، نظرية المنهج الشكلي "نصوص الشكلانيين الروس". الشركة العربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية لبنان 1982. رشاد رشدي، "فن القصة القصيرة". دراسة تحليلية لفن كتابة القصة"، مكتبة الأنجلو المصرية ط 1، د.ت.

=2= صبري حافظ، خصائص الأقصوصة البنائية وجمالياتها، فصول ع 4، م 2، 1982 .

=3= على شلش، عالم القصة، مطبوعات الشعب، القاهرة، 1978م.

=4= فاروق خورشيد، "فن الرواية العربية، عصر التجميع"، دار العودة، بيروت 1979، ط 3.

D 30 أيار (مايو) 2014     A محمد السعودي     C 12 تعليقات

7 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 96: "عود الند" تبدأ سنتها التاسعة

أثقل من رضوى

إحسان عبد القدوس: محاولة للبحث عن كيمياء النجاح

النقد الثقافي وأنساق الغيرية

القصة القصيرة وتضفير الأدب بالفنون