غانية الوناس - الجزائر
رسالة إلى الحرية
رسالة إلى الحرية: مغادرة إلى متى؟
كانت بالنسبة لنا كل شيء. كانت لنا نبض الحيـاة .لكنهـا غادرتنا. رحلت، فاستوطن فينا الخوف. بعدها لم نعد نتنفس.
ضعي حقائبكِ جانباً وتمهّلي بعض الشيء، أيّتها المغادرة فينا دون رجوع، تمهّلي فحديثي معكِ اليوم سوف يطول، فاجّلي رحيلكِ قليلاً واسمعيني، ففي نفسي ما في نفوس من تعرفين جميعاً، ممن سوف يفتقدونكِ في حياتهم منذ اليوم، وسيصبحون بعدكِ تائهين، ضائعين، يبحثون فيما ستخلفينَ وراءكِ عن أملٍ يعزّيهم في فقدانكِ، وأنتِ التي كنتِ لهم كلّ الأمل الّذي يرجُون، وكلّ المستقبل الذي ينتظرون بشغفِ الصغار وفضولِ الكبار.
كنتِ لهم ملاذاً آمناً متى احتاجُوا إليه وجدوه، حيث أمالوا وجوههم، وملجأً مطمئناً، يمسحُ عنهم تعبَ الأيّام الصعبة وعرقَ السنواتِ الضائعةِ بين البحثِ والتفكير.
ما بالكِ أيّتها المغادرةُ، تمضين وتتركين كلّ هؤلاء مشدودين إلى بريقكِ الآسرِ الذي استطعمُوهُ بوجودكِ، معلَّقين بذاتكِ، وأنتِ السّاكنة بين أهدابهم حلماً بريئاً براءة الطفولة والصّبا، أنتِ السّاكنة في عقولهم قبل قلوبهم المتألّمة تلك، ما بالُكِ لا تحفلين بكلّ هذه الجّموع تهتفُ باسمكِ أبداً؟ وتحملكِ شعاراً يُنير حياتهم المرهقةَ والمنهكةَ، ودليلاً يأخذُ بأيديهم إلى حيثُ الآتي دُون خوفٍ أو فزعٍ منه.
أيُّ حياةٍ سوف تغدُو حياتهم بعدكِ، وأنتِ بوصلةُ النّور فيها سترحلين، وتُطفئين برحيلكِ ضوءَ الشّمعة الأخيرِ في مسارِ وجُودهم؟
اعرفُ شعوركِ وأنتِ على وشكِ الذهاب، واعرفُ أكثرَ شعورهم وهُمْ على وشكِ النّهاية، اجلْ يَا سيّدتِي هي النّهايةُ لهم ولي، ولكلّ من سوف يفتقدكِ بعد رحيلكِ اليوم،
اعرفُ شعوركِ وأنتِ ذاهبةٌ، واعرفُ انّكِ راحلةٌ دون رغبةٍ منكِ ولا رغبةٍ منّا، أنتِ مضطرةٌ لذلك أمرٌ أعرفه تماماً، وأُدركه أيّما إدراكٍ، لكنّكِ مَا قاومتِ هذه المرّة، ولا حاولتِ الصّمود في وجهِ من يُجبرونكِ على الرّحيل من بيننا، أخانتكِ شجاعتكِ المعهودةُ فيكِ؟ أم أنّهم حاصروكِ فينا فما وجدتِ مفرّاً من الهروب؟
ما هذه طبيعتكِ الصّلبة التي عرفناكِ بها ؟ فمنكِ أنتِ كنّا نكتسبُ قوّتنا، ومنكِ أنتِ كنّا نصوغُ أشعارنا، ونكتبُ قصائدَ نصرنا وعزّنا، ونطمحُ ونأملُ ذات يومٍ، أو ذات عامٍ، أو ذات جيلٍ أن نهديكِ نصراً نهائيًّا، ونتوجكِ أميرةً لا بلْ ملكةً علينا ونحن الذين سئمنا حكمَ المماليكِ فينا.
كنّا نتوقُ أن نحققكِ واقعاً ملموساً نتلّمسه بأيدينا على دربٍ يوصلنا حدّ المواطنة السائدة، حدّ الوجود الحقيقي في وطنٍ حقيقي ليس بوهم، يوصلنا حدّ الشعور بانتمائنا الفعلي إلى هذا التراب المغلف بالأسى، هذا الذي مازالتْ رائحته باقيةً فيه منذ عقود، بالرغم مما يفعله المشوهون فيه، مازالتْ كما كانت منذ أيام كنتِ بينهم مقيمةً دائمةً.
أنتِ اليوم لستِ مغادرةً من مجرد شبرٍ أو بضعِ خطواتٍ، لا أنتِ إذْ ترحلين اليوم تغادرين من البحر إلى البحر، من النّهر إلى النّهر، من الفلاة إلى الجبل!
تغادرين حتى من أماكن لطالما حسبناها مشبعةً بكِ حدّ الثّمالة، نائيةً عن أعدائكِ، تتنفسُ هواءً نقيّاً، تشربُ ماءً عذباً، وتأكلُ خبزاً ساخناً، وفي آخر الليل تنامُ والنّجوم فوقها تنظرها، وترقبها بعين الحارس الأمين، هكذا كنّا نحسبُ أوطاننا مسكونةً بأطيافكِ حقيقةً لاَ خيالاً، لكننا فتحنا أعيننا لنراها اليوم غريبةً كلّها، مهجورةً، قاحلةً كلها، مجردةً منكِ، تلفظكِ كأنفاسٍ أخيرةٍ، وتتصاعد كروحٍ تغادر جسداً منهكاً أتعبه المرض، وأقعده الفراش غصباً، فلا هو عولج وشفي، ولا هو مات فأراح واستراح.
هو الواقع المؤسف الذي يطبع صفحاتِ هذه المسافات المقسّمة بألوانٍ وأطيافٍ وأحزابٍ وأعلامٍ، وحتى بأسماء أيضاً، ولا ادري حقاً أيّ أشياءٍ سوف تُضافُ إلى تلك القائمة القاتمةِ، المفتوحة مستقبلاً.
تعبتُ يا سيّدتي وأنا أحدّثكِ، وأنتِ ما أزحتِ يديكِ عن حقائبكِ لحظةً، كمن يستعجلُ الذّهاب، لاَ بلْ ازداد إصراركِ أكثر على الرّحيل، لا باس أيّتها المغادرةُ، فقد أنهيتُ كلامي وانتهيت، قد قلتُ كلّ الذي عندي وأفرغتُ ما في نفسي وقلبي، ولكِ الآن أن تذهبي إن أردتِ، إن كنتِ لن تقولي شيئاً، لكِ أن تغادري يا سيّدتي، فلقد آن أوان ذهابكِ أيّتها الحرّية.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
رسالة إلى الحرية, أحمد الخلف - كندا | 27 تموز (يوليو) 2012 - 19:54 1
نص رائع كالعادة يحاكي القارئ وينقله لواقع الكاتب
لا تلومي الحرية على ذهابها، فلها ألحق في الرحيل لأنها لم تعد في سلم إهتمام الكثيرين، بل مكانا للتندر عندهم! لها لحق في حزم الحقاقب مصممة على المغادرة لعدم تقديرها، وكيف لا وهي التي أكرمها خالق الكون والحياة وجعلها طليقة في كل كائناته، بما في ذلك حرية العقيدة. أما وإن أفواجا من البشر كرهوها وآذوها وقيدوها، فلا نلومها على هجراننا بعد الصبر وفراقنا بعد الألم
بالرغم من كل هذا أبشرك أنها عائدة لا محالة عن قريب باذن الله، بعد بزوغ نسماتها من بلاد الياسمين لتعم بشكل عاصف على أهل الضاد في مشرقهم ومغربهم، بعدما أصبحت مطلبا للصغير والكبير وللذكر والأنثى. فالحرية مهرها غالي، و تؤخذ ولا تعطى. فهي عروس الحياة والفرق بين الحر والعبد
ودعيها وداع المسافر على أمل اللقاء بها قريبا لتدخل في القلب والعقل والجسم، وعندها لن يفرقنا عنها إلا الفناء
1. رسالة إلى الحرية, 28 تموز (يوليو) 2012, 03:53, ::::: إبراهيم يوسف- لبنان
ألأخ الكريم أحمد الخلف- كندا
سأفترض أنك شاب في بداية عمرك.. لكنني واثق أنك عالي الهمة موفور الكرامة، وتملك من الوعي والشجاعة وحسن التقدير ما يكفي ويزيد لتقرر مستقبلك بنفسك.. ثق أنني أحبك وأحترمك وأنني حريص عليك، وحين أتحدث إليك فمن موقع المحبة وحسب.. إذا لم نكن قد متنا يا صديقي..؟ ألم نرَ من مات..؟
رسالة إلى الحرية, أشواق مليباري\ السعودية | 30 تموز (يوليو) 2012 - 19:25 2
عزيزتي غانية
أوافق الأستاذ أحمد..ودعيها وداع المسافر على أمل اللقاء.
نص جميل، وأسلوب مميز، وعبارات تعلق في الذهن
(ونتوجكِ أميرةً لا بلْ ملكةً علينا ونحن الذين سئمنا حكمَ المماليكِ فينا.)
كل عام وأنت بخير
رسالة إلى الحرية, أمل النعيمي | 1 آب (أغسطس) 2012 - 04:23 3
الفاضلة غانية: لفعل الرحيل دوما خيارات ثلاث بعيدا عن الموت: رحيل اللاعودة فهي وداع اللارجوع, رحيل العودة فهي الى لقاء أو انتظار ترانزيت في محطّة ما يساعد وقته في اتّخاذ قرار , فان لم يستطع أناس هذا الزمن البهلوان مساعدتها بالاختيار اذن دع الأيّام تفعل ماتشاء وطب نفسا اذا حلّ القضاء.
رسالة إلى الحرية, محمد التميمي | 6 آب (أغسطس) 2012 - 06:23 4
الاستاذة غانية
على الاقل شاهدت الحرية وذقت حلاوة قربها ولكن ما يفعل من ينتظر ان تأتيه الحرية وهو لا يعرف ملامحها، كمن ينتظر ضيفا لا يعرف شكله فيشغل نفسه بتخيل شكل الوجه لحين قدومها. أيتها الحرية لم نرك بعد فهلا أتيت لنا.