زهرة يبرم - الجزائر
غفلة العمر+ لست مجنونة
غفلة العمر
وقفتُ أمام المرآة أهيّئ نفسي لحضور حفل خطوبة إحدى الصديقات، تملؤني الغبطة بعودتي إلى الحياة الاجتماعية وقد كنت لأشهر طويلة أعتذر عن حضور المناسبات بسبب وضع صحي مؤقت انتهى بتتويجي بلقب تتمناه كل امرأة، مقرونا بأكبر مسؤولية في الحياة، فقد صرت أمّا لأجمل طفلة في الوجود.
عُدتُ إلى الحياة راغبة في أن أعبّ منها وألا أفرط في أية مناسبة تجمعني بصحبي وأهلي، وتلك كانت أول لمّة أحضرها بعد غياب. لكن الأمومة غيرت حياتي وصارت الرضيعة مكبحا لانطلاقي.
احترتُ وزوجي، الملزم بواجب الحضور أيضا، لمن نتعهد برعاية الصغيرة أثناء غيابنا؟
ولم تطل حيرتنا حتى اهتدينا لفكرة اصطحابها معنا. اتفقنا على أن تكون رعايتها مناصفة بيننا. ورغم الحرارة الموسمية المرتفعة جدا إلا أن قاعة الأفراح شاسعة ومكيفة ولا اكتظاظ فيها، لأن عدد المدعوين يكون محدودا في مناسبة كهذه.
حُلّت المشكلة ومُنِحتُ الطمأنينة ببقاء صغيرتنا تحت أعيننا فيتسنى لنا إكمال الحفل حتى النهاية وإشباع شوقي لمجموعة الصديقات دون أن ينتابني قلق يضطرني للإسراع بالعودة.
حرصت على أن تكون أناقتي مميزة، من تسريحة الشعر إلى اختيار الفستان والحذاء، فانتقاء قطع الصيغة. ثم جعلت طفلتي أجمل أميرة. لم أرفع بصري عنها طول الطريق وهي كملاك بمهدها الخاص المثبت بالمقعد الخلفي. استهوتها لطافة جو السيارة الخاضع للتكييف فاستسلمت لنوم عميق. وكان والدها لا يفتأ يخطف منها نظرة بين الحين والآخر، فأسارع إلى المقود حرصا مني على سلامتنا، فيضحك من مبالغتي في الحب مترجما في الحرص والخوف.
ركن زوجي السيارة أمام القاعة، فحياه جمع من الأصحاب، فنزل ليسلم عليهم، فاغتنمت الفرصة ونزلت رافعة أطراف ثوبي، ودلفت إلى جناح النساء تاركة له مسؤولية الاعتناء بالطفلة خلال الجزء الأول من الوقت.
سارعتْ إليّ بعض الصديقات بالأحضان والقبلات. غمرنني بلطفهن وحفاوتهن وسط صخب الموسيقى والغناء. وسرعان ما قذفنني إلى حلبة الرقص، والعروس تختال كأجمل طاووس. أحطنا العروسة حلقة واندمجنا في جو من البهجة والمرح نسيت معه الدنيا وعشته لنفسي، غافلة عن واقعي.
انقضت سويعات الحفل بسرعة. ولكم وددت تحكمي بالوقت، لمددت فيه واستحوذت بشكل أفضل على الفرح المبعثر عبر لحظات الزمن، كي أنعم به بصورة تامة. وفي بعض الأحيان كنت أفكر بصغيرتي، وأشعر بالامتنان لنصفي الرائع الذي أبقاها معه بجناح الرجال واهتم بها كل الوقت.
ولما قارب الحفل على النهاية رغبت في أن تكون بحضني التقط معها صورا تذكارية رفقة العروسين والمجموعة. هاتفته أطلب منه أن يوافيني بها. ويا له من توافق غريب، فهو أيضا يريد آنسته الصغيرة ليظهرها لأصدقائه الذين طالبوا برؤيتها.
"لا تسخر مني. هاتِها"، قلت ضاحكة، فصاح كوحش كاسر "لا تجننيني أليست معك؟"
انقض عليّ هول كالصاعقة. إنه لأمر مخيف.
تخلصت من كعبي العالي وهرولت نحو الباب، فوجدته هناك على السلم. أمسك بكتفي ورجني بقسوة مرددا نفس السؤال الذي أدخلني في هاوية يكتنفها الظلام: "أليست معك حقا؟"
تماسكت، فليس وقت التهاوي. جمعت قبضتي، وبما بقي بي من قوة كنت أضرب على صدره وأهذي بنفس السؤال: "كيف ليست معك؟"
وجم برهة، وجحظت عيناه كأنما تذكر ما هو أدهى فاستفاق من ذهول. دفعني ووثب ينزل السلالم بخطوات عملاقة، يزأر كأسد جريح: "يا إلهي. التكييف. قطعت التكييف وأغلقت النوافذ".
لما أفقت من غيبوبتي كان هناك قرب سريري. لم ينبس ببنت شفة. ولم أجرؤ على النظر في عينيه. لم يبق شيء نتكلم فيه. انتصر الصمت وقد وقف حاجزا قويا بيننا.
* * *
لستُ مجنونة
نفسيتي المهترئة بسبب هجرك أوهمتني اليوم أنني مجنونة بدون أوراق رسمية. لكن جنوني مسوّغ مهضوم. فأنت من قال لي يوما إن جنون الحب جميل صادق لا يكذب. ولا أراني إلا صادقة في خيالاتي المجنونة التي لا أجرؤ على كشفها لأحد إلا لو عدت لي، أكشفها لك وأتدارسها معك لعل بها شيئا من عقل أو قد تحضنها الحياة فيصدقها الواقع لتصير حقيقة.
من عمق إحساسي بالوجود وبك استوطن بروحي طفلٌ. طفلٌ يشبهك تماما، ويشبهني. جمعت حرفين من اسمك بآخرين من اسمي وابتكرت له اسما تفرد به. لا علم لك كم جننت به حتى صار طفلي، طفلنا، حقيقة. فضلا لا يجادلني بأمره أحد. كم حضنته تصورا حتى تشابه بالواقع فلم يعد لي بد من العيش بدونه. أضمه فيلتصق بصدري ويمنحني دفئا وحياة، وأكلمه فيسمعني ويفهمني ويسري تفاعله في شراييني. إنه الوحيد الذي يفهمني بعدك، بعد تخليك عن الإصغاء لي وفهمي. ولقد صار يعرفك ويحبك لكثر ما أحدثه عنك. وتعاظم حبه فتطور إلى اشتياق.
لقد جن طفلي بك وجننت بكما ولم يجن بي أحد، لكنني لست مجنونة. ليس مجنونا من يتخيل، وابننا أجمل ما عرفت من خيال مذ عرفتك وعرفتني وتركتني لأنني...
لست عقيمة وخيالي خِصبُ يحبل بروائع الأطفال والأفكار. لست عاقرا، وخيالي حبل بطفل جميل يَندُر أن تنجب مثله بطون النساء.
لكن قسما بربكما وربي لست مجنونة.
نعيش ثلاثتنا في خلوة بالقمر، نهِبُ دروسا للبشر في معنى الحب والحياة. صدّق، فكلامي لا ينبع من الجزء المعطوب بعقلي. فقط لو تعود ونعيش ثلاثتنا معا ستمتد بنا جذور الحياة. سنعمّر كثيرا.
أرأيت بربك كيف غير طفلي حياتي؟
هل أحكي لك ما حصل اليوم؟ خرجت كعادتي أتمشى، وكان على مشواري محل لبيع ملابس الأطفال. لا إراديا دخلته، فالملابس جميلة تغري أيّ أم بالدخول. قلبت الأثواب واحدا واحدا أتأمل كل قطعة جيدا. أبعدها ثم أدنيها من ناظري وأقرأ بدقة ما هو مكتوب عليها. أرتبها وأعيدها مكانها بعناية. وكلما أبهرتني قطعة تمنيت اقتناءها لطفلي. وكم تمنيت لو كنت معي لتبدي رأيك فيما رأيت.
الحقيقة أنها لم تكن المرة الأولى التي أدخل فيها المحل، فكل مرة تغريني معروضات الواجهة أرغب برؤية الجديد من الملابس الملائكية. وأظن أن التاجر صار يعرفني. يعرف مسبقا أنني لن أشتري شيئا، بل أشتري بخيالي. وربما يعرف أيضا حقيقة طفلي. مع ذلك يبتسم لي عند خروجي ويحني لي هامته.
بشرفك ألست مجنونة؟
◄ زهرة يبرم
▼ موضوعاتي
المفاتيح
في العدد نفسه
■ كلمة العدد الفصلي 24: الجدل حول الأعمال الفنية
■ قصتان: فيروزتان + زيارة قصيرة
■ لقاء