عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 5: 48-59 » العدد 56: 2011/02 » الألوان: المعاني والرموز في الثقافات

رشيد فيلالي - الجزائر

الألوان: المعاني والرموز في الثقافات


رشيد فيلالييـعــدُّ الخبير العالمــي الفرنسي ميشال باستورو (Michel Pastoureau) أحد أبرز الأعلام المعاصرين المختصين في تاريخ الألوان بدءا من العصور القديمة وصولا إلى وقتنا الحاضر، فلقد استطاع هذا الباحث الكبير في جامعة السوربون الفرنسية عبر نصوصه الأنثروبولوجية المستفيضة الإبحار في عوالم الألوان التي تبدو لنا في الظاهر عادية، محللا رموزها ومعانيها المستترة وشفراتها وطابوهاتها وإيحاءاتها والأحكام المسبقة المتولدة بتأثير منها والتي ننساق طائعين خلفها فاقدي الإرادة ودون إدراك منّا فتطبع آثارها على موضاتنا ومحيطنا ويومياتنا وسلوكاتنا، وكذا على لغتنا وحتى على تخييلنا.

ومن هنا فقد كشف باستورو بأسلوبه المثير والمشوق في مجموعة من المؤلفات الهامة حديثة الصدور (*) على أن للألوان سيرتها الخاصة هي الأخرى المتحركة والتي تضرب جذورها في أزمنة ماضية سحيقة. وضمن هذه المغامرة المعرفية الممتعة من حيث طرافتها وجديتها وأصالتها يمضي هذا الباحث ليميط اللثام عن أسرار تاريخية مدهشة كانت الألوان ترجمة لها في الواقع المعيش، ومن بين هذه الأسرار، سيما منها تلك المرتبطة باللون الأخضر في تاريخ حضارتنا العربية الإسلامية والذي للإشارة بقرار تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم له يعد أول مدافع عن البيئة في التاريخ حسب الباحث ميشال باستورو، الذي لا يكتفي عند عتبات هذه الخلاصة قبل أن يواصل تحليله موضحا تلك العلاقة الرمزية الوثيقة التي أضحت قائمة اليوم بين هذا اللون وبين البيئة والدفاع عنها عموما ، وذلك من خلال استعراضه للحيثيّات التاريخية لهذه الصلة، منتهجا في ذلك مقاربة أنثروبولوجية دقيقة وملفتة في الوقت ذاته.

ميشيل باستورويقول ميشال باستورو في حديثه عن تاريخ اللون الأخضر أنه مبدئيا اللون المفضل بالنسبة له شخصيا، رغم أن اللون الأزرق هو اللون الأول لدى الغربيين جميعا حسب سبر الآراء، وربما لأنه (باستورو) في هذا الاختيار كان مسحورا بطبيعة الريف الخلاّبة، وهو ابن المدينة بامتياز، وربما أيضا أراد بهذا الاختيار أن يعيد الاعتبار لهذا اللون الذي كان يعدّ لونا وسطيا أو على الأحرى غير محبوب في الغرب، ويقصد بكلمة "وسطية" أنه غير عنيف وهادئ وهذا حسبه يتمظهر جليا في نصوص قدماء الرومان وكُتّاب القرون الوسطى، ففي مقال مشهور مثلا كتبه شاعر ألمانيا "غوته" في نهاية القرن الثامن عشر، وهو للمفارقة يعشق الأزرق، ينصح هذا الأديب الكبير باختيار اللون الأخضر لتغليف الجدران الداخلية للمساكن وخاصة يقول غرف النوم منها، فقد وجد في هذا اللون فضائل مُسكّنة ومريحة للأعصاب.

وفي ذات السياق يضيف باستورو أن الأخضر كان لون الموضة إبان قرون بأكملها في ألمانيا عكس بلدان أوروبية أخرى، هذا واللون الأخضر حسب باستورو دائما يعتبر لونا يمزج بشكل مدهش على المستوى التقني والرمزي؛ فهو سهل الإعداد، حيث تدخل في تكوينه مواد نباتية: أوراق، جذور، ورود، لحاء الأشجار، إلى آخره. غير أنه على المستوى الكيميائي يبقى لونا غير مستقر كونه سريع الانمحاء والزوال حتى أن الفنانين يجدون صعوبة بالغة في الحفاظ عليه ضمن أعمالهم الفنية، وحتى الصور الشمسية التي التقطت منذ 40 سنة وما فوق فإن أوّل لون يزول بها هو اللون الأخضر، ومن هنا فإن الحل صار يكمن في اللجوء إلى صناعة لون أخضر من مواد كيميائية شديدة السمية، وهذا هو أصل التسمية الألمانية للون يدعى الأخضر السّام (Giftgruen).

وبالنسبة للجانب الرّمزي فإن اللون الأخضر لون القدر، المصير، ألعاب الحظ، حتى أنه إبان القرون الوسطى فإن المهرجين كانوا يرتدون اللون الأخضر لجاذبيته، شأنهم في ذلك شأن العشاق من الشباب، وحتى على مستوى الحظ والمصير فإن الطاولات الخاصة بالقمار ولوحات المدارس والاجتماعات كلها اختير لها اللون الأخضر لأنها تحدد مصير اللاعبين والطلاب والمجتمعين في شؤون الأعمال والتسويق.

وتجدر الإشارة إلى أن اللون الأخضر أيضا هو لون الأمل كما أنه لون المجهول، فقد كان من العادة قديما رسم التنينات والثعابين والكائنات الخرافية المرعبة باللون الأخضر، حتى الكائنات الفضائية تخيلناها بهذا اللون، لكن هذا على نطاق ضيق ومحدود فقط، كما أن المال والثروة من جهة أخرى يرمز لهما دائما باللون الأخضر، فحسب الباحث باستورو فإن اختيار هذا اللون ليمثل عملة أمريكا "الدولار" لم يأت صدفة واعتباطا رغم أن المال كان يُرمز له من قبل باللونين الذهبي والفضي في المخيال الشعبي، لكن عند صناعة ورقة الدولار بين 1792 و1863 كان الأخضر اللون المفضل لدى البنوك والتعاملات التجارية والمالية.

وبالنسبة للعلاقة التي صارت وثيقة الصلة ما بين اللون الأخضر والطبيعة فحسب باستورو أن تفكيرنا المعاصر يجد من المتعذر الفصل ما بين الاثنين، إذ إلى غاية القرن 18 فإن الطبيعة كانت على نحو خاص تعرف بواسطة العناصر الأربعة: النار، الهواء، الماء والتراب، وحدها الكلمات كانت توحي بهذه العلاقة بين الأخضر والطبيعة، فالكلمة اللاتينية (viridis) مرتبطة بمفهوم الطاقة، وكذا كلمة (la virilitè) (vir) التي تعني الفحولة والنسغ. لكن ضمن عدة لغات قديمة لازال هناك خلط بين اللون الأخضر والأزرق والرمادي المعرفين بكلمة واحدة، حتى لون البحر في لغة البروتون الفرنسية المعاصرة، تعني الأزرق والأخضر معا (glas).

وربما الإسلام في عصوره الأولى حسب الباحث باستورو له الفضل والأسبقية في الربط بين اللون الأخضر والطبيعة، ففي عصر محمد صلى الله عليه وسلم يقول هذا الباحث كل مكان مخضوضر كان يرمز للواحة وللجنة والنماء، وقد شاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بنفسه كان يعتمر عمامة خضراء، ويحمل راية في الغزوات بهذا اللون وهذا هو مرد تفضيل المسلمين منذ بدء انتشار الإسلام إلى غاية اليوم للون الأخضر.

وفيما يتعلق بالغرب فإن توثيق العلاقة ما بين اللون الأخضر والطبيعة يعود إلى أزمنة متأخرة أي إلى المرحلة الرومانسية، ثم في الجزء الثاني من القرن التاسع عشر، في الوقت الذي شرعت فيه بعض الأنشطة التجارية الحضرية في التوسع، حيث اختارت رموزا وشعارات بلون أخضر، سيما منها الصيدليات والمخابر العلمية. وفي الوقت الراهن فإن كل ما هو باللون الأخضر يعكس ما هو منعش وطبيعي ونظيف، فالعاصمة باريس وبعدها جميع مدن العالم اختارت اللون الأخضر لقمامتها وحتى لباس عمال النظافة، فهذا اللون الذي صار رمزا لمحاربة كل ما هو وسخ وقذر يعد مع الأبيض أكثر الألوان رمزا للنقاء والاستجمام أيضا في زمننا الراهن، مثل تشجيع المساحات الخضراء (والخط الأخضر).

ومنذ خمس عشرة سنة تقريبا يؤكد الباحث باستورو على أن ثمة هوسا حقيقيا فيما يخص استعمال اللون الأخضر وذلك ضمن الشعارات الخاصة بالقرى والمدن والمناطق والأحزاب والفرق الرياضية والجمعيات البيئية والعلمية والكشافة. ومن هنا فقد تحول هذا اللون اليوم إلى رمز للحرية على نحو عام ولذلك فإن اختيار باستورو له شخصيا لم يكن اختيارا سيئا حسب قوله! هذا فيما يخص اللون الأخضر وما يتضمنه قديما وحديثا من رموز ثقافية خاصة في عالمنا العربي الإسلامي.

أما بشأن اللون الأزرق فيقول الباحث باستورو أنه منذ بدأ إجراء سبر الآراء (1890) فإن هذا اللون في الغرب، في فرنسا، صقيليا، الولايات المتحدة، نيوزيلاندا، المفضل لدى النساء كما عند الرجال، ومهما كان الوسط الاجتماعي والمهني، وبمفهوم أعم كل ما يمثل الحضارة الغربية يتم اختياره في المقدمة (البني في مؤخرة الترتيب) الأمر الذي يعتبر مختلفا مقارنة بالحضارات الإنسانية الأخرى، فاليابانيون مثلا يفضلون الأحمر لكن الغريب في الأمر يقول ميشال باستورو: فإن ظاهرة اختيار الأزرق لم تكن وليدة أزمنة قديمة، حيث أن هذا اللون وعلى العكس كان غير مرغوب فيه لمدة طويلة، ففي الكهوف وحتى في العصر الحجري القديم والأخير أي عند ظهور التقنيات الأولى للصباغة وفي العصور القديمة لم يعتبر الأزرق لونا أصلا على غرار بقية الألوان وحده.

JPEG - 12.7 كيليبايت
غلاف كتاب عن اللون الأزرق

الأبيض والأحمر والأسود ينطبق عليهم هذا المفهوم، باستثناء الحضارة المصرية الفرعونية، حيث كان بمثابة جالب للحظ يوم البعث، وهو ما نكتشف دلالته بوضوح ضمن تحف فنية رائعة الجمال بلون أزرق مائل إلى الخضرة والمصنوع من مادة النحاس في تلك العصور. ومن أسباب مقت الأزرق في الحقيقة صعوبة صنعه والتحكم فيه - يضيف ميشال باستورو- وهو ربما الدافع الأصلي وراء عدم لعبه دورا في الحياة الاجتماعية الدينية والرمزية للغرب، فبالنسبة لروما كان هذا اللون يعد لون البرابرة والأجانب (سكان الشمال والجرمان يحبون هذا اللون) حتى أن الرومان كانوا يرون في العيون الزرق علامة شقاء وبالنسبة للرجال علامة غباء.

ونجد مثل هذا النوع من الأفكار شائعا في المفردات اللغوية، ففي اللاتينية الكلاسيكية مفردة الأزرق غير مستقرة وغير ذات قيمة، وعندما حاولت اللغات المتولدة عن اللاتينية (الفرنسية، البرتغالية، الإسبانية، الرومانية) نحت أسماء للألوان لجأت إلى الاستعارة من اللغات الجرمانية (Blau) والعربية، ولدى الإغريق نجد ذات الخلط قائما ما بين الألوان الثلاثة الأزرق، الأخضر والرمادي، ثم أنّ غياب إشارة إلى اللون الأزرق في النصوص القديمة من الأمور المحيرة فعلا إلى درجة أن بعض فقهاء اللغات في القرن التاسع عشر اعتقدوا جديا أن الإغريق لم يكونوا يرون هذا اللون أصلا !

وفي العصور الوسطى وبعد غياب هذا اللون على مستوى الكنائس ودور العبادة المسيحية، حيث كان يشيع اللون الأبيض، الأحمر، الأسود، والأخضر، استمر ذلك إلى غاية القرن الثاني عشر حين تم إلباس تمثال العذراء معطفا أزرق كرمز للسماء، ومنذ ذلك الحين صار للون الأزرق في الغرب المسيحي حظوة ومكانة جليلة.

وإلى غاية الآن وبعد مرور قرون من التقلبات والتحولات في ترجمة رموز ورؤى فكرية وتقاليد ثقافية ها هو الأزرق اليوم في الحضارة الغربية المعاصرة يتربع في الصدارة، وسيظلّ خلال الثلاثين سنة القادمة، حسب باستورو اللون المفضل لدى الغربيين جميعا؛ وذلك ببساطة لكونه لون توافقي (consensuelle) ومتفق عليه سواء بالنسبة للأشخاص العاديين أو المؤسسات العمومية والدولية مثل: الأمم المتحدة، اليونسكو، الاتحاد الأوروبي، المجلس الأوروبي.. كلها اختارت اللون الأزرق شعارا لها لأنه لون لا يصدم العين، ويستطيع الانسجام مع كل الألوان.

وهكذا منذ القرن الثامن عشر صار الأزرق اللون المفضل لدى الغربيين، والطريف في الأمر أن اللباس أعطى دفعا آخر لتكريس الاهتمام بهذا اللون، ففي الثلاثينيات من القرن المنصرم صار " الجينز" لباس العطل وأوقات الفراغ والراحة، ثم صار لباسا يدل على التحرر وعدم التقيد بالموضات والتقاليد الكلاسيكية أي أنه لباس رياضي خفيف ويوحي بالعفوية والرشاقة، وقد اختير له اللون الأزرق عن قصد مسبق لأنه ببساطة لون مناسب لكل ذلك، وجذاب فعلا، كما تتقبله العين مثل الأخضر بتلقائية وعذوبة وارتياح.

= = =

(*) صدر للبروفيسور ميشال باستورو مؤخرا كتب هامة حول التاريخ الرمزي للألوان لم يترجم منها حتى الآن أي كتاب إلى اللغة العربية ومنها كتابه الضخم والرائع: "الألوان - الكتاب الكبير" مع دومينيك سيموني (سبتمبر 2008) عن دار بروشي (Brochè)، و"قاموس ألوان عصرنا" (2007) عن نفس دار النشر. ومؤخرا صدر له كتاب عن "الأزرق تاريخ لون" حصل بفضله على عدة جوائز، وكسب من خلاله شهرة عالمية كخبير في الألوان وتاريخها الرمزي منذ العصور القديمة إلى غاية الآن.

D 1 شباط (فبراير) 2011     A رشيد فيلالي     C 0 تعليقات