عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

منجي العيساوي - تونس

العرس


انطلقت خيول الاستعراض في تلك العشية من أيام "أوسّو" الحارقة من أمام بيت العروس والهودج المتبختر في سيره إلى منتهاه في مشهد مهيب قلّما عاشت القرية مثيلا له. يسايره علي جنبتاه شبّان القرية وشابّاتها وتتبعه من ثقلت حركته من المسنّين والصّبية. اختلط الغبار المتصاعد بالعرق المتصبّب من الوجوه المنتشية بزغاريد النّسوة وغنائهم ودقّ الطّبول المنغّم علي وقع خطي الفرسان في سباقهم وألعابهم البهلوانية المضمرة مع جيادهم.

سار الموكب الهوينى والعروس تترنّح متمايلة مع وقع خطي الناقة. عند منتصف الطريق توقّف هودج العروس غير بعيد عن شجرة تين ليمنح الفرصة للحضور التمتّع بمشاهد الفروسية وليعطي الوقت لمن يريد الرّقص فالرّقص نشوة للجسد والرّوح.

كان والد العروس من بعيد يراقب سير الاحتفال ودخان السّجائر لم ينقطع تصاعده. يستعجل غروب الشّمس فهته العشيّة مميّزة. إنها عشيّة زواج ابنته البكر وهو حريص على سير ترتيب العرس كما يريد.

كان الرجل كثيرا ما يرسل أحد أبنائه للاطمئنان على حال ابنته أو يسترق النّظر إليها كلّما قابلته فتحة الهودج المتمايل. من تلك الفتحة كانت العروس تختلس النّظر إلى الخارج تطمئنّ على سير الموكب وتستكشف الطّريق إلي بيتها الجديد.

أطال الموكب الوقوف ممّا اضطرّ الرّاحلة إلى الدّوران في مكانها دون أن تغادره تدور في كل الاتّجاهات كأنّها تبحث عن أليف افتقدته. في غفلة من طقوس الحفل انتصبت شجرة التّين أمام عيني العروس فأغلقت فتحة الهودج وتمنّت انتهاء نوبة الرّقص التي طالت وصارت لا تتحمّلها. أومأت لإحدى قريباتها بأنّها لم تعد تطيق الانتظار أكثر.

تحت أغصان تلك الشّجرة وارفة الظّلال والمتدليّة أغصانها تينا شهيّا الجاثمة منذ الأزل قرب بئر ماء عذب كان "يحيى" يلفّ جسمه المكتوي بقواءل الشّمس وضوء القمر بلحاف صوفيّ نسجته له أمّه لعرسه الذي مضى زمنه يتناهى إلى سمعه قرع الطّبول وزغاريد النّسوة ضرب مطارق عجز عن تحمّله رغم ما بذله من عناء بتكوير اللّحاف الصوفيّ على رأسه. ولكن دون جدوى.

تعالت الزّغاريد حول الهودج المنغّمة خطى سيره وقد هدج صوب بيت العريس. بدت تلك الخطوات تحت الشّجرة دقّ أوتاد مغمّسة بأشّعة شّمس أبت أن تغرب لتتركه يتضوّع ألما وحرقة. تتابع الطرق مدويّا في رأسه وفي كل جزء من جسمه المشتعل المكوّر تحت الأغصان المتدليّة "ليتني أقتلع عروق الشّجرة وأرحل. لقد فارقت عالمها منذ سنين لما تقتحم عالمي. كيف أطفئ النّار التي تلفّني." تصبّب العرق وسط الهودج حتّى انزاحت الزّينة من على وجه العروس، ضاقت نفسها من هذا الوقت المشدود ومن اللّيل الذي تكاسل في اغتصاب ضوء الشّمس وتركها معلّقة بين السماء والأرض.

في مكان غير بعيد كان العريس يقاوم حرارة الطقس وضجر طول المساء باحتساء الخمر وسرد الحكايات السّمجة مع أصدقائه ولكنّ أصوات الفرح التي تضاعف صداه في الغرفة زاد عينيه بريقا وأوداجه انتفاخا. أطلّ برأسه من نافذة مواربة فسوّي شاربيه وهو يرى الموكب قد وصل مقصده وبدأ يطوف بالمنزل لطرد الأرواح الشرّيرة وسحر الحاسدين.

تحت شجرة التّين لم ينقطع الضّجيج بل تغيّر قرع الطبول بأصوات الآلات الموسيقية تمزّق له زنار" يحيى " من شدّة الجذب. نهض من مكانه. جلس القرفصاء. تمدّد. زحف يطوف بجذع الشّجرة دون أن يجتاز محيط أغصانها الظّليلة.

تساقطت ثمار التّين على رأسه حتى غطّت الأرضية المبلّلة عرقا وغبارا. قفزت طيور الدّجاج من حوله وتعالى نباح كلاب الجيران الموقّع علي وقع خطواته.

تراكض الصّبية وراء الهودج والشّابّات تتقدّمنه مردّدات الأغاني وقد تعالت الزغاريد ودوّت طلقات البنادق في الفضاء الرّحب واحتدّ وقع حوافر الخيل وصهيلها.

قاربت شمس ذلك اليوم على المغيب. انطلق العريس مع أصحابه بعد أن زار أحد العرافين ليفكّ عقدة ليلة العرس ويطرد عنه شرور الحاسدين من الإنس والجنّ. فرغ من إكمال مظاهر الزّينة والأناقة. أنهي كلّ الاستعدادات ليزفّ إلى عروسه المتحرّقة. التحف ببرنسه الجديد. كان أصحابه يرددّون أناشيد البردة مهلّلين مكبّرين يحثوّن الخطي على وقع أناشيدهم. لم يعد بمقدور "يحيى" أن يدور حول جذع الشّجرة أكثر ولا أن يركض خلف أمواج السّراب. كانت الدائرة تضيق كلما طاف الهودج حتى لم يعد بإمكان الحبل المشدود إلي كعبه وجذع الشّجرة يسمح له بالدّوران ولا أن يتحمّل وهج روحه.

أنهت العروس دورتها الأخيرة. تقدّم العريس لينزلها من فوق النّاقة التي أنيخت علي عتبة الحوش وسط رائحة البخور المتصاعد والمتمدّد في كلّ الاتّجاهات ليصل حدّ شجرة التّين فيختلط بأشعّة النّجوم التي تسلّلت في سماء العرس بين بقايا غمامات السّحب الصّيفيّة وزغاريد النّسوة وطلقات البنادق.

ولج العريس وعروسه الغرفة وتعالى طرق الصّحون والطّبول على ضوء المصابيح الملوّنة التي ازدان بها الحوش ليلة ذلك العرس. أضافت أم العريس البخور للمجامير المتأجّجة نارها فازداد الدّخان تصاعدا. انتشى الحضور بالرّائحة المنسابة بين أغصان شجرة التّين وقد لفظت الشمس أشعتها الحارقة منذ مدّة ولكنّ وهجها أبى مغادرة فيء شجرة التّين رغم احتجابها في الأفق البعيد خلف الجبل. سدّ "يحيي " أنفه ليبعد عنه الرّائحة التي مزّقت أحشائه وزادت آلام الرأس فبلغت منتهاها أعاد لفّ الزنّار حول رأسه وأنفه فتقطعت أوصاله بين يديه المرتعشتين أمسك برأسه ليدفع عنه انغراس الأزميل. ولكنّه لم يفلح تكوّر تحت الشجرة مرّات. تمدّد. جلس القرفصاء. تمرّغ فوق الأرض المفروشة ثمارا. جذب اللّحاف ليغطيّ بدنه. انقطع الحبل المشدود إلى كعبه. زحف نحو فتحة ضوء. أراد الانتصاب. تعالت الزغاريد ودوّت طلقات البنادق تمجيدا لشرف العروس. اقتحمت النّسوة مخدع العروس التي لا تزال منتشية بعطر بعلها قدّمت إحداهنّ لها طبق غلال مدّت يدها إلى التّين المقشّر. غمرت زغاريد النّسوة ورائحة البخور نسيم المساء الممزوج بضوء النجوم الباهت شجرة التّين. أراد الوثوب. تعثر. زحف صوب آنية الماء. أدخل رأسه ليمنع ولوج دقّ المطارق إلى رأسه ويدفع عن أنفه رائحة البخور.

قالت لي أمّ يحيى "عندما جئت عند الفجر أتفقدّه كعادتي طار سرب حمام غريب اللّون والشّكل من تحت الشجرة في شكل دائرة يحمل الرّداء الذي خطته لعرسه وعندما دخلت مرقده لم أجد ليحيى أثرا. أمّا شجرة التّين فمنذ ذلك اليوم لم تثمر أبدا."

D 1 آذار (مارس) 2009     A منجي العيساوي     C 0 تعليقات