ظلال العقلة - الأردن
انكسار الذاكرة
طاردته في منامه. جميلة ممشوقة القوام، تتقاطر عذوبة. عيناها غازلته، ويداها دعته: أن تعال.
اتكأ على جرحه النازف متمسكاً بأهداب حلمه يحاول النهوض، بل الصعود إليها، وما أن نجح في ذلك حتى فرّت من أمامه فرار الغزال الشارد من صياد ماهر.
سريعةً كانت، كومض فكرة في الخاطر، وهو أبطأ به حمل أوهنه.
أشارت إليه: أن تخفّف من بعض أحمالك؛ فلعلك تحظى بي.
تردَّد، احتار، ثم اختار.
وعلى قارعة الطريق ألقى حقائب زمن موهَن برطوبة الذكرى، انتشر فيه العفن فاخضوضر خضرة خادعة.
نهض من جديد أخفّ وأسرع وأقرب للفرح.
ظنها قريبة منه لكن ما طالتها يداه. خطوها الرشيق يتماوج أمام ناظريه، وتقاسيم وجهها تذكره بأمٍّ حملته وهناً على وهن؛ لعله يكون زهر لوزها وربيع خريفها.
ولاحقته كلماتها: هرمنا. هرمنا.
وهو مترعٌ في شهواته حتى ضاقت به أنفاسه.
استيقظ فزعاً تتلاحق زفراته، ويتفصّد العرق من جبينه. الساعة الثانية صباحا. الكلّ نيام. وكابوسه ذاك أقضّ مضجعه، فجلس يفكر في تفاصيل منامه، احتلته فكرة مزعجة أزاحها بحركة لا إرادية من يده، وردد لسانه دون أن يقتنع عقله: لا، لا، لا. خطيبتي ليست هكذا ولن تكون. هي تحبني رغم فاقتي وقلة حيلتي و...
خاتم ذهبي يرتطم بوجهه، يسقط على أرض رخامية لامعة، يرن بانكسار قلبه: خذه فما أنا لك. وما أنت إلا لفقرك.
تغادر المطعم بحذاء رفيع الكعب تطعنه مع كل دعسة.
الواحدة صباحا والنوم لا زال يجافيه عامداً. تطلّ مذيعة شفتاها مكتنزتان متلونتان حمرةً تليق بخبر الدماء النازفة، تكشف عن ساقيها لتجذب المشاهد؛ كي يلعق جراحه فينتشي. ينام مشوش التفكير، حائر القرار، فتطارده ثانية كما في ليلته السابقة. ثيابها مسدلة: ثوبٌ ريفي يحمل تيناً وزيتوناً وجوزاً، وعباءةٌ مطرزة تعبق بشذى قهوة معتقة.
هذه المرة هو أقوى. سينالها لا ريب. شمّر عن ساعديه، وعقد حزامه، وهرول نحوها متكئاً على عصاه، يتعثر ويُدمى فلا يبالي.
يعترض نهر طريقهما فتكشف عن ساقيها: بيضاء كاللؤلؤ المكنون، والتفّت السّاق بالساق، وهو ما زال يحاول اللحاق. يبتل، يغوص، يكاد أن يغرق. يصرخ طالبا نجدتها فتبكي.
يستيقظ مُفزَعا. وشمس الصباح ترتفع رويداً في سمائه الدنيا، واحتلته ذات الأفكار المزعجة لكنه لم يُزحها أو يحاول إبعادها؛ فيداه مكبّلتان، والتُّهم تنتشر حوله، تتفرق، تتعدد، تتنوع، لتلتقي في جملة واحدة:
أنت مطلوب على كل المحاور. لا تناور. لا تحاور.
يغزوه الحلم أقوى طعماً، وهي ما زالت كاشفة عن ساقيها تنير قبوه الرطب. وتلتفّ ساقها بجذع ليمونة، لتنغمس في الطين حتى خصرها النحيل. تشير إليه: أن هاهنا اللقاء. تُقدّم له فأساً عتيقة:
هيّا تعال. فكنزك مخبوء هنا.
تُلقي عباءتها، وتُمزّق ثوبها، فيظهر جيدها عاجياً متسعاً كدهشته.
احفرْ هنا: بين النهدين، فوق السُّرة وتحت الرئتين، في القلب تماما وبكلتا اليدين.
وتفجرت من صدرها الدماء: سوداء بيضاء آخرها حمراء. التصقت به فاصطبغ بها دون حياء.
وبركلة من بسطار مقاس 48 أيقظوه من ذاك المنام.
انكمش. وسط ضحكاتهم؛ فما عاد يهوى تفسير الأحلام.
◄ ظلال عدنان
▼ موضوعاتي
3 مشاركة منتدى
انكسار الذاكرة, إبراهيم يوسف | 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 04:30 1
ظلال العقلة
انكسارُ الذّاكرة
أُقسمُ باللهِ العظيم أن أقولَ الحقّ، ولا شيءَ غير الحقّ.. هل يزعجُكِ يا سيِّدتي..؟ أن أرددَ وراءكِ لأتعلمَ منكِ روعةَ ما تقولين:
"وتلتفّ ساقُها بجذعِ ليمونةٍ، لتنغمِسَ في الطّين حتى خصرها النحيل. تشيرُ إليهِ أن ها هنا اللقاء، تُقدّمُ له فأساً عتيقة.. احفُرْ هنا: بينَ النّهدين، فوقَ السُّرة وتحتَ الرئتين، في القلبِ تماماً وبكلتا اليدين".
هذه اللغةُ الجميلةُ المتقنة بكلِّ المقاييس.. في الرشاقةِ والطلاوةِ والإيحاء.. بلغتْ مني حدَّ الفتنةِ والذهول.. كل عامٍ يا سيدتي وأنتِ تكتبين.
1. انكسار الذاكرة, 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 12:14, ::::: ظلال العقلة
أستاذ إبراهيم الفاضل:
سرني أن تلقى حروف بعثرها قلم على جنبات ورقة خجلى إعجابا منكم..
ولعلني اتمنى ان تجد طريقها للقلوب الصادقة..فتكتمل بها سعادتي
كل عام وأنتم بخير...
انكسار الذاكرة, موسى أبو رياش / الأردن | 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 14:18 2
أصعب الأحلام والذكريات وأشدها إيلاماً هي تلك التي تكون في مكان مستحيل، مكان يئد الحلم، ويحيل الذكريات إلى هباء منثور!
هل يمكن أن نحلم بنهر أو سفينة وسط الصحراء، أو بسمك في البحر الميت، ... وكذلك الحلم الجميل في غير مكانه يستحيل كابوساً يجثم على النفس والروح، ويتحول عذاباً فوق عذاب!
نعم، قد يكون هذا الحلم أو الذكريات الجميلة بقعة ضوء وسط الظلام، ونسمة جميلة في نفق مظلم، ولكنها سرعان ما تتلاشى وتبقى حسرتها في النفس إلى الأبد!
جميل ما كتبت أخت ظلال ... ولعل ما كتبت ظلال وسط الهجير!
1. انكسار الذاكرة, 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 12:09, ::::: ظلال العقلة
أستاذ موسى الفاضل:
أشكر قراءتكم.. وإضاءتكم.. لكننا مع ذلك نبقى نحلم.. رغم كل الانكسارات..
كل عام وأنتم بخير
انكسار الذاكرة, تسنيم | 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 07:49 3
قلم معطاء ومخيلة خصبة ولغة رائعة
نص جميل لا يليق إلا بكاتبة مبدعة تطوع الحورف والكلمات لتصيغها كما يصيغ الجواهرجي اجمل الحلي لتبق نفيسة بمعدنها وابداع صانعها ونصك كذلك جميل بصياغته و رائع بمعناه
تمنياتي لك بالتوفيق
1. انكسار الذاكرة, 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 05:21, ::::: ظلال العقلة
الجمال أتلمسه بكم وفيكم تسنيم..
أشكر رأيك ولطفك..
لك كل المنى وكل عام وأنتم بخير