مرام أمان الله - فلسطين
حبّ بنيّة الفراق
بينما بانت لهما خيوطُ الشوقِ الخافتة من بعيد، تنساب في عذوبةٍ قسريةٍ لا اعتيادية، أخذ كلٌّ منهما الغوصَ في عتمة الصمت المطبقة، هرباً من جنون الخيال نحو معقولية التفاصيل.
ولكن، لأنّ الجنونَ يكسرُ حدودَ المنطقِ في لحظةِ شوق، وصولاً إلى اللا ممكن؛ تولّدتْ "الفكرة" من أمّ ٍ لم يمسسها بشر.
على أنين انتظارهما كان المخاض، وبين ثنايا ارتباكهما كانت تكبر، إلى أن تقاطعت خيوط الصباح على كتفيهما، كطيرٍ حرّ، له كلّ السماء، وليس له وطن.
فالأحلام تُبعثُ خلسةً إلى حيث تشاء الأماني.
كانت البدايةُ نداءً صامتاً قلقاً، يريد، ولكنّه يخشى الإفصاحَ.
أخذت "الفكرة" اللحوحة تشقُّ مساراً خفياً في زقاق الترقّب لديهما. وبينما كان عقرب الساعة المنتشي فرحاً بسيره على نبضهما، يتلذّذ برصف المسار يوماً بعد يوم بحجارةٍ كقسوة الوقت، كان كلٌّ منهما يستجيب لغطرسة "الفكرة" أكثر.
كان المسار طويلاً حتى على الذكريات اللاهثة توجّساً من إحلال غيرها بحكم "التقادم". قد يبدو طويلاً إلى حدّ اللاعودة، ولكنّه شديدُ القِصَر حدّ كونه نقطة "صفرٍ مكانيّ" نحتها عقربُ الساعةِ لحظةَ إتمامه الدائرة دون تنبيهٍ بنفاذ رمل الحكايات المتساقطة بجاذبية النهاية.
لازالت الأسئلة تتنافس فيما بينها على احتلال المساحة الأوسع من ذاكرتها المثقلة. لكنّها تدرك تماماً أنّ ما يشغلها ليس الانتظار، وإنما التهاوي المتكرر لأصنام قصص العشق المتخيَّلة ضمن منظومة الإنتاج التكنولوجي للعاطفة.
فالفكرة لم تكن منوطةً إلا بكمّ الخيبات الملقاة كجثث المقاتلين الخاسرين على أرصفة مدينة الذكرى.
هو لم يكن يعلم أنّه بطل الخسارة، وأنّه يلخّص هوية الكثيرين غيره من هواة التلاعب بمخزون الزمن. فأكثر ما يصبو ويصبون إليه لم يتعدّ إنفاقاً لبعض المقتنيات الوقتية بما يكفل تجديداً ل"فحولةٍ" يعتاش ويعتاشون على فتاتها.
ليس غباءً أن يبني لها قصوراً من الرغبة، وليس ذكاءً أن تبقى هي أسيرةَ متاهاته التي علق بأعتابها منذ النشأة.
لكنّ شغب "الفكرة" وغبار الصمت كانا أقوى وقعاً عليها، حتى استكانت للعبة الوقت.
وكما لكلّ فكرةٍ حكاية، فإنّ لكلّ لعبةٍ نهاية.
تناولت رشفةً سريعةً من قهوتها الباردة، وأسدلت كل الستائر تجنّباً لتسلل أيّ فكرةٍ مجنونةٍ، أو نسمةٍ قادمةٍ من مكانٍ ما كان قد تواجد فيه يوماً ما. بحثت كثيراً عن كرّاستها المهترئةِ تعباً، وفتشت عن آخر قلمٍ كان قد تآمر معها قبل أن تمنحه خيبةً أخرى.
خطّت في صفحةٍ نظيفةٍ من الكرّاسة العجوز ما أسمته "آخر الحروف":
"إن كان موتُ "الفكرة" يأتي قدراً محتوماً عند اكتمال الدائرة، وما بينهما من تفاصيل، تعِبَتْ من إعادة إنتاج صورها المنسوخة، أيضاً قدراً اعتاد على تكرار كلّ المشاهد بدقةٍ متناهية، وإن كانت رحلة الروح على متن الشغف تمشي دائماً مساراً مغلقاً محسوم البداية التي تنتهي حيث بدأت؛ إذاً فإنّ النداءَ الخافتَ ذاك لم يكن إلا تذكيراً بقصةِ حُبٍ لم تكن، وذكرياتِ عاشقَينِ لم يولدا بعد".
◄ مرام أمان الله
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
1 مشاركة منتدى
حبّ بنيّة الفراق, محمد علي حيدر ـ المغرب | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014 - 17:12 1
حين تكون البدايةُ نداءً صامتاً قلقاً، يريد، ولكنّه يخشى الإفصاحَ، يكون المخاض الذي تتولد عنه الفكرة البتول من أُمٍّ لم يمسسها بشر، ويقع الخطاب السردي في شَرَكِ الافتتان المجنون الذي يكسر حدود المنطق، ويتعالى على المواضعات، ليخلق لنفسه عالما من الأحلام وواقعا تؤطره الرغبة في الإشباع، بعيدا عن كل رقابة ذاتية أو غيرية، وتتحرك عقارب الترقب لتتلبس بالفرصة المواتية عن إصرار وسبق ترصد، لكنها تبقى أسيرة الحلم بعشق لعاشقين لم يولدا بعد إلا في رحم المعاناة والأماني... وكما "لكلّ فكرةٍ حكاية، فإنّ لكلّ لعبةٍ نهاية"... لكن دعيني أَقُلْ لك بصدق وقناعة: إن رحلتك السردية، وجمال مَسْحِكِ لسيكولوجيا الشَّدِّ والجذب بقيا مفتوحين على احتمالات تأويلٍ متعددةٍ، وذلك سر من أسار تَمَيُّزِ نص "حب بنية الفراق"، وسر من أسرار لذة النص كما يقول رولان بارث. سلم اليراع وتألق الإبداع، ولك مني كل التقدير والاحترام.
1. حبّ بنيّة الفراق, 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 20:15, ::::: مرام أمان الله
شكرا جزيلا على هذا المرور المعمّق