عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

تسنيم حسن - الأردن

ثوبي ابيض


عادت للتو بعد أن صففت شعرها واستعدت كما تستعد جميع العرائس ليوم الزفاف. بالقرب منها تقف فتاة ترتدي ثوباً أبيض ترفعه، تخفضه، تدور به وتقول بلسان ثقيل: "جميل ماما؟"

تبتسم الأم وتقول: "جميل".

تقترب منها تتفحص وجهها البريء وتقول بصوت لا يخلو من الحزن والرضا:

"آه يا ابنتي كم تمنيت أن تكوني أنت العروس، أن أزفك إلى بيتك الجديد، أميرة برفقة فارس يحميك، لكنها مشيئة الله، لكن لا عليك ها نحن معا ننتقل لبيتنا الجديد، سيكون لك أب حنون يعوضك عن حنان أبيك رحمه الله، وأخ كبير سيصحبك إلى المركز عندما يتعذر علي اصطحابك، وربما يجود علينا القدر بالمزيد من الإخوة والأخوات"، قالتها باستحياء وسارت نحو خزانتها وهي تقول:

"آه يا صغيرتي منذ أن ولدتِ وأنت تنامين بالقرب مني، واليوم ستبيتين هنا وحدك مع جدتك، وغدا سيصبح لك غرفة جديدة، في بيتنا الجديد تنامين بها بمفردك".

فتحت باب الخزانة، عندها شعرت بوخزة قوية في صدرها ودوار شديد، نظرت إلى الخلف شدها شيء ربما كانت المرة الأولى الذي تراه فيه: بروز صغير في صدر ابنتها. لم تقوَ ساقاها على حملها، تمتمت: "ابنتي تقترب من ... يا الله!"

أعادت ترتيب ما قالته مرة أخرى: حازم أخ كبير، غرفة بمفردك، نعم. نعم حازم في السابعة عشرة من عمره، هو رجل.

أمسكت برأسها الذي أوشك على الانفجار وقالت: "أي شيطان لعين نفث سمه في رأسي. لا. لا. لا يمكن أن يفعلها؛ حازم فتى مهذب وخلوق".

أدارت وجهها إلى الجهة الأخرى من الغرفة وقالت: "لكنه فتى. لا، شاب، وابنتي فتاة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، إنها لا تستطيع التمييز".

شعرت بأن شيئاً ما يطبق على أنفاسها، وبنفثة شيطانية أخرى تذكرت ذلك العرض الذي قدمته لها إحدى الجمعيات الخيرية عن استئصال رحم ابنتها للتخفيف من حجم الأضرار التي من الممكن أن تتعرض لها فتاة بمثل حالتها وإعاقتها الذهنية إذا تم الاعتداء عليها واغتصابها.

نهضت بسرعة واندفعت نحو النافذة تحاول استنشاق الهواء فقد أصبح المكان حولها موحشاً ومخيفاً وخانقاً.

نظرت إلى ابنتها وفكرت: ليس عدلاً أن يستأصلوا رحمك. ليس عدلا، لماذا عليَّ التصديق بأن ذلك هو الأفضل لك؟ لا. لا، يا صغيرتي فجسدك الطاهر هذا أكثر حرمة عندي من نطفة تزرع فيه من أحد العابثين، فما الجدوى إن أخفينا بصمات الفاعل وتركناه يعبث بكل المقدسات؟ يا له من مجتمع قاسٍ! فكم صبي تنتهك كرامته بصمت. كيف سيحمون إنسانيته؟ كيف سيحمونك من تلك الأمراض التي قد ينقلها لك ذلك السفيه؟

عاصفة جديدة ثارت في رأسها ورغبة عارمة بالصراخ تنتابها: لماذا عليك أن تتحملي آلام جراحة لم تختاريها؟ هل ليشعر المجتمع الآثم بأنه قد أدى دوره في حمايتك؟

شعرت برعشة قوية تسري في جسدها، سقطت على المقعد القريب منها، أسندت رأسها على الحائط وتابعت هذيانها: سيخبرونك عن احتمال إصابتك بهشاشة العظام، وبنوبة هستيرية بكت وضحكت. هل تفهمين ما معنى هشاشة العظام وكيف تتجنبين الإصابة بها أيتها المسكينة؟

مسحت دمعتها وأشارت بيدها نحو ابنتها الباسمة هناك، وقالت: "لقد نسيت أن أخبرك، هناك أيضا تغير في الهرمونات..."

حاولت أن تكمل حديثها لكنها لم تستطع. غطت وجهها بكفيها وأجهشت بالبكاء. شعرت بشيء يهزها. رفعت رأسها ونظرت نحوه: "ماما، ثوبي أبيض".

قالت: "نعم، وسيبقى ثوبك دائما أبيض وجميلا".

D 25 حزيران (يونيو) 2013     A تسنيم حسن     C 14 تعليقات

6 مشاركة منتدى

  • رائعه دائما متميزه تسنيم واحساس مرهف


  • نص جميل فيه الكثير من الحقائق الغائبة عن أذهان الناس، ويسلط الضوء على أصحاب الإحتياجات الخاصة، والذين هم جزء من مجتمعنا يستحق الرعاية والإهتمام.

    نص متكامل وإن لزمه بعد التفصيل لتتضح الصورة أكثر.

    شكرا لك تسنيم وأهلا بك ياصديقتي

    تحيتي ومودتي.


    • شكرا لقراءتك النص يا اشواق ولتعليقق الجميل نعم ينقصه الكثير فهذه الفئة تحتاج للكثير وتحتاج ايضا منا فهم لمشاكلها وحجم معاناتها
      ساعمل جاهده في المستقبل على اضافة ما يفيدهم و يخدم قضيتهم
      شكرا يا صديقتي

  • نصك رائع يا استاذة تسنيم وموجع , الحقيقة اول مرة أسمع عن موضوع استئصال الرحم للمعاقات ذهنياً لحمايتها من عواقب الاغتصاب , وكأنهـا الأهم هو حمايتها من عواقبه لا حمايتها منه , وكأنها معرضة له لا محالـة , وان بالاستئصال يأمن المجتمع من بذرة الاغتصاب التي قد تنمو وتطرح طفلاً , لا يهم ماذا عواقب الاغتصاب على نفسية البنت طالما غير ظاهر لنا , نظرة المجتمع هذه سلبية مُهينة إلى اقصى درجة , عار علينا أن ننتمني لمجتمع يفكر بهذا الأسلوب,
    نصك الرائع يطرق موضوع بالغ الأهمية, فالمجتمع مُجرم في حق عدم حماية هؤلاء وتركهم فريسة لذئاب من نتاج هذا المجتمع ابضاً ...سلمتِ يداك


    • شكرا استاذ مهند وسعيدة لا انني استطع ان القي الضوء على قضية مهم في حياة البنت المعاقة وكيف ابتدع المجتمع علاج لحل هذه المشكلة،لا ينهيها لكن يزيل اثارها الظاهرة للناظر.
      وسعيدة جدا بمرورك الجميل.

  • نصك اكثر من رائع كلماتك رقيقه جدااننا فى مجتمع يقلل من شان المراه بطبيعته فماذا لوانها معاقه ولكن المراه تجد من يدافع عنها
    اعجبنى فكره دافعك عن المراه المعاقه
    وسعيدة جدا بطرحك لتلك القضيه بذلك الشكل
    وفقك الله دائما


  • حين قرأت تعليق رانيا كمال كدت أقول كلمات رقيقة حقاً كحد مبضع الجراح ولكن أراحني قول مهند فودة رائع وموجع.ثم إضاءته حول تقصير المجتمع تجاه المعاقات.كان النص فعلاً رائعاً وموجعَاً.


  • أن تتحدث عن المسكوت عنه.. خجلا او جهلا... فهذا امر مهم.. وهدف نبيل.. إن كانت غايتك التوعية والإصلاح..
    قلمكِ رسم لنا صورة يعايشها كثيرون.. تراود افكارهم..تؤرقهم..ويصمتون عن البوح بها... خوفا او خجلا من المجتمع وثقافة العيب السائدة..
    اما حرفك يا تسنيم.. فحده كان رقيقا رفيقا.. حرك القلب.. وأثار العقل..واستمال العاطفة والرأي.. لفئة من أبنائنا.. تستحق الرعاية والالتفات
    دمت مبدعة حساسة متفائلة وننتظر مزيدا من دفق روحك


    • صديقتي العزيزة اردنا وجه الله واردنا ان نلقي الضوء على امر اراه حق لهذه الفئة التي تعجز عن التعبير عن نفسها واحيانا نكون نحن للاسف سبب عذابهم ،وارجو الله ان اكون وفقت في عرض قضيتهم ومخاوف ذويهم .
      وجزاك الله خير لدعمك المستمر .

في العدد نفسه

كلمة العدد 85: ظاهرة اليساريين سابقا

مفهوم التناص: المصطلح والإشكالية

ابن المقفع وتجديد النثر العربي

التجريب في رواية المتشائل

الحقول الدلالية في قصيدة...