راضية عشي - الجزائر
ما زلتَ حلماً
"عندما تودين إعادة ذكرياتك مع شخص فارقته، فأجلسيه بقربك، وناقشيه في أبسطِ أسباب الوداع، لكل منكما عُذره وحتما سينتهي الخلاف بعد ذلكَ."
"ونعود كما كنّا؟"
"ربما أفضل، أو ربما لا نعود، لكن على الأقل نكون فهمنا الآخر، وحاولنا جعله يفهمنا. الذكريات يا صديقتي موجعة، ولا يجب ان تعيشيها بمفردكِ، تقاسميها مع الآخرين، مع كل من له جزءٌ في ذاكرتكِ."
* * *
عدتُ إلى المَنزل بعد يوم شاق ونقاش أطول مما أتذكر، حاولت فيه إقناع صديقتي أن لكل مشكلة حلا، ولكل وداع لقاء آخر، ولكل فراق رجوعٌ أجمل.
ربما فراقي بك كان أجمل من الرجوع، ففي الواقع أنا لن أتحمّل رجوعك، على الأقل ليس قبل أن أعرف أسباب رحيلك، (بل أسباب عدم مجيئك، أصح).
لا تزال الساعة الرابعة مساءً ولايزال الوقت باكرا على النوم والبكاء، سأفعل أشياء أخرى إلى حين يقترب الليل.
حضرت كوب قهوة متواطئة مع الذاكرة التي لا تَستيقظ إلا ليلاً، وفتحت كتاباً مدرسيا محاولة تجاهل كل الأفكار التي تحوم بعقلي الصغير الذي لا يحتمل أكثر من معادلتين في لحظة واحدة.
أكُلُّ الذي أفعله الآنَ ما هو إلا تحضير لأمسية ستشبه سابقتها، ولاحقتها بكل حالٍ من الأحوال: مجموعة من الأعذار أخلقها لكَ، بكاءٌ على حافة السرير، شوقٌ يقودني إلى ما بعد منتصف الليل، وجعٌ، وأحلامٌ ليلية ستصبح أوهاما بمجرد أن أستيقظ صباحاً وأرى عيني المتورمتين، وأشهد خروج روحي المتكرر عن جسدي. كم بتُ غريبة عني إذن!
ظننتُ أننا لا نتذكر غير الوجع، وننسى ما أعددناه لاستقبال الفرح (الذي لا ننتبه أنه قد يخوننا في لحظة غربة قاسية)، لكن انتبهتُ أنني لمْ أنس بعدُ ما كان جاهزاً للقائكَ، كل شيءٍ مرتب في صندوق عتيق.
هناك في جرح الغياب الأول تقبع أول حادثة تستحق أن تحتفظ بها الذاكرة. (كل شَيء في حياتنا قابل للتغيير إلا الذاكرة، كل ما علينا القيام به هو قبولها على حالها).
وجدتني الآن أختلف مع نفسي فكل النصائح التي قدمتها لصديقتي صباحا لا تشبه ما أنا مريضة به، الأولى قناعات، أما الثانية فأوجاع وآهات.
في اليوم المقرر للقائنا، قلت لكَ: "سأنتظركِ قبل الموعد". وقلتَ: "سأنتظركِ لأكثر من موعد قادم".
حضّرتُ تفاصيل اللقاء بالشموع والورد والأغنيات، وباشرتُ أُطمئن حالي بعد ربع ساعةٍ من تأخركَ أنك قادم، لا محالة. لم تأتِ، فمثلك الكثير، تحبون اللقاءات بعد المواعيد، وتفتشون عن الحب بعد الأزمنة، تهمسون للوفاء بعد طول الغياب، ثم تتبرؤون من خطيئة جعل الآخر ينتظر بحُجة فريضة الصبر في الحب.
هناكَ ألف رسالة من القدر تأتيك خلسة لتنذر بداخلكَ غيابهم، كنفاذ آخر شمعة قبل وصول ضيفك الموقر، وذبول أول وردة متزامنة بصمت الشريط، ذلكَ أنني دون أن أنتبه اِستخدمت المسجلة العتيقة التي لا تمتاز بقلب الشريط أو أعادته عند كل نهاية.
ليس لكل نهاية بداية أخرى كما كنت أعتقد إذن. وليس لبدايتنا أكثر من نهاية كما قلتَ لي، بل ليس لنا من بداية أصلاً. في ذلك المساء الأول، ذقت طعم الخذلان، أبرحتني ضرباً دون أن تأتي، وأبرحتكَ أسئلة دون أن تجيب. وما كان عليَ إلا أن أعيد ترتيب الستائر الممزقة في غرفة عتيقة بقلبي وفتح الباب لأمنيةِ حب جديدة.
الحب وصال وحنان ودفءٌ، الحب ذاكرة تلاحقك بحاضرها ومستقبلها، الحب أغنية مرتلة دون موسيقى، وآلة زهر خُلقت لتزرع بقلبك الفرح لا لتحصده.
سأقتنع إذنْ، سأعيد ترتيب أمسياتي أيضاً، وسأتوقف عن سماع قصائد درويش المبحوحة، والمخلة بتوازن القلب، سأسمح لنفسي هذا المساء أن أنام باكرا، دونَ حاجة لانتظار مجيء طيفكَ ليلاً كي يواسي غيابك، دون الحاجة لقصة مختبئة بجيب ذاكرةٍ ممزق. ببساطة سأنساك هذا المساء. إنها الثامنة إلا ربعا، سأخلدُ للنوم.
على صوت موسيقى "سقوط القمر" (*) أيقظني هاتفي مبشراً بظهور رقمٍ جديد، أو ربما بداية جديدة، رفعت السماعة وبصوت نصف نائم سألت من؟
"آسف". على ضفة الحلم كان صوتكَ يردد آسف مرتين، إنه صوتك بالفعل، ويقول آسف. أنت في جهة الخط المتحكمة في الأقدار وأنا في الجهة الثانية للصدمة، أستمع للظروف بصمت.
ربما كان يوماً جديداً، ربما كانت هذه هي البداية، بداية بعنوانٍ مختلف تماما عمّا توقعت "ذات استيقاظٍ، ما زلتَ حلماً".
= = = = =
"سقوط القمر" قصيدة لمحمود درويش، الموسيقى لمارسيل خليفة.
◄ راضية عشي
▼ موضوعاتي
6 مشاركة منتدى
نصّ أفحمني حقاَ , وأدخلني في دوـامة الاعتزال :) / بصرـاحة بدـاية رائعة ونهـاية أروع وكـاتبة أروع وأروع
دمتِ مبدعة صديقتي
1. ما زلتَ حلماً, 9 أيار (مايو) 2013, 18:33, ::::: راضية عشي / الجزائر
أدامكِ الله قربي عزيزتي... شكرا لكِ، تشعرينني بالفخر دوماً :)
هنالك حب خلق للبقاء
هنالك حب لم يبقي على شيء
هنالك حب في شراسة الكراهية
هنالك كراهية لا يضاهيها حب
هنالك نسيان أكثر حضورا من الذاكرة
هنالك كذب أصدق من الصدق
كلمات للأديبة أحلام مستغانمي.
وأقول:بعد أن كان الحب أصليا أصبح "تايواني" الصنع. وانت تعرفين ولا شك ما تعنيه الماركة التايوانية في الصناعة.
صراحة هذا النص كقطعة فنية متقنة الصنع.
خطواتك نحو الإبداع ثابتة.
1. ما زلتَ حلماً, 9 أيار (مايو) 2013, 18:26, ::::: راضية عشي / الجزائر
الحب أصبح "تيواني بالفعل" عندما تخلى عن نقائه وعفويته... الحب أصبح لعبة يمارسها الكبير والصغير ليتسلى لا أكثر .
شكراً لكِ عزيزتي زهرة، دعمكِ الدائم يزيدني قوة بنت بلادي :)
كنت اظن اني سأقرأ نصا ً ادبيا ً لك يا راضية..... ولكن....
دون ان اشعر كنت استمع الى مقطوعة موسيقية عذبة، لقد خدعت الكلمات وخدعتني كقاريء.... ولكنه كان خداعا ً جميلا.
1. ما زلتَ حلماً, 9 أيار (مايو) 2013, 18:23, ::::: راضية عشي / الجزائر
شكـــــــــرا وألف شكراً... قد أخجلت تواضعي أستاذ ويشرفني جداً أن يكون نصي البسيط من منظورك بهذا الجمال
2. ما زلتَ حلماً, 10 أيار (مايو) 2013, 08:13, ::::: محسن الغالبي - العراق / السويد
نعم فغالبا مايكون الجمال والعمق في البساطة والعفوية لا في التعقيد والافتعال.
ما هكذا تُقْحَمُ الصناعة في الحب ويتمَّ تعليبُه كما السردين. بعض المفردات والتعابير تتوسلُ التناقضَ والتنافرَ والغموض للإيحاءِ بأهميتِها..! فلم أفهمها كانَ مَنْ كانَ قائلُها..!؟
1. ما زلتَ حلماً, 11 أيار (مايو) 2013, 14:01, ::::: راضية عشي / الجزائر
لم أصطنع الحُب ولم أعلبه... ولم أضع له أي شروط، الحب قدر يأتينا دون أن يسألنا أو نسأله، لكن قد يُصبح أحياناً حلماً هاربا كلما استيقظنا لم نجده.
"كان من كان قائله" : هي مبتدئة في الحلم والكتابة تكتب ما بداخلها بعفوية كما تحسه ولا يهم أن يحس بمثله الآخرون.
2. ما زلتَ حلماً, 11 أيار (مايو) 2013, 18:04, ::::: راضية عشي / الجزائر
للتوضيح فقط، قلت لا يُهم ان يُحس بمثله الآخرون ولم أقل أن يحس به... يعني أنا اكتب ما أحسه عن الحب قد تحس مثله وقد تحس غير ذلك، فالإنسان يقرأويكتش نفسه حين يجد ما لا يُشبهه.. وشكراً أستاذ إبراهيم :)
3. ما زلتَ حلماً, 12 أيار (مايو) 2013, 02:25, ::::: إبراهيم يوسف - لبنان
راضية عشي – الجزائر
ومن قالَ خلافَ ما تقولين يا سيِّدتي يكونُ مُخْطِئاً ومُشْتَبِهاً..! فأنتِ كاتبةٌ محترفة تكتبين كلاماً جميلاً، وأنا أشاطركِ الرأيَ والإحساس.
4. ما زلتَ حلماً, 13 أيار (مايو) 2013, 13:23, ::::: راضية عشي / الجزائر
شكراً أستاذ، وتقبل اعتذاري أنني فهمت كلامك خطأ، وأريد ان اوضح أيضا ان ما تقصده الأستاذة زهرة يبرم هو الحب أصبح تقليداً، وكلمة "تايواني" مستخدمة كثيرا لدينا، وتعني كل ما ليس أصلياً. دمتَ.
5. ما زلتَ حلماً, 13 أيار (مايو) 2013, 13:52, ::::: إبراهيم يوسف - لبنان
أشكر لكِ لياقتكِ ولطفك يا سيدتي.. و ليس ما يستحق الأسف أو الاعتذار
أكيد أنا المقصودة ب" كان من كان قائلها". فأنا من أقحم الصناعة في الحب حين قلت: ".. أصبح الحب تايواني الصنع".
المعروف عندنا أن كل منتوج رديء النوعية هو صنع تايواني. على هذا الأساس أصبح متداول بيننا نحن الجزائرون نعت كل ماهو رديء بالتايواني. حتى الحب فيه ما هو تايواني رخيص، مغشوش، سريع التلف، انتهازي، غادر، هش لا يصمد أمام أية هزة كمواد صنعت من "الروسيكلاج". لذا ليس فيما قلت أي تناقض أوتنافر أوغموض، كما لم أقصد جلب الإنتباه ولا الإيحاء بأهمية المفردة ولا أي شيء من هذا الكلام الكبير. بل هي مفردة محدثة في كلامنا العامي، وإن لم يفهمها البعض فليس ذنبي أن أكون من.. "المغرب العربي".
1. ما زلتَ حلماً, 13 أيار (مايو) 2013, 13:25, ::::: راضية عشي / الجزائر
زادك الله فهما غاليتي... كلامكِ عين الصواب.
مازلت حلماً
راضية عشي
راضية بفية عيونو راضية
وناسية كل الجروح الماضية
العتاب ولو موجعا
يغسل القلوب
ويبقى لحظات حب لا تنسى
كلمة عتب لا أكتر ولا قل
بترجع قلوب الحبايب راضيه