أمين دراوشة - فلسطين
قراءة في رواية لأكرم مسلم
السجن والسجان والآخر الإسرائيلي في رواية "سيرة العقرب الذي يتصبّب عرقا" للروائي أكرم مسلم
يتناول أكرم مسلم في روايته سيرة شاب فلسطيني، ولد وترعرع في أحد قرى رام الله، المدينة الأجمل في الضفة الغربية المحتلة. وتنقل خلال سيرة حياته بين قريته على رأس الجبل وبين رام الله، ونتانيا في أراضينا المحتلة عام 1948، وفي بغداد.
تتناول الرواية العلاقة مع الآخر من خلال صوت الراوي بشكل أساسي، وعبر أحد الشخصيات المحورية فيها، الذي تعرض للسجن لفترة طويلة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
صوت الراوي يطغى على الرواية، ويمتد زمنها ما بين عامي 1988 إلى عام 2007، وقد شهدت هذه الأعوام اشتعال انتفاضتين فلسطينيتين، كان لبطل الرواية دوره ومشاركته الفاعلة في الأولى، أما الثانية فاكتفى فيها بالتغطية الصحفية بعد أن استطاع أن يتغلب على صعوبات المدرسة، وينتقل للتعليم العالي. غير أنه لم ينه دراسته العليا واتجه إلى القراءة بنهم.
الشخصيات الرئيسة في الرواية عديدة، والشخصية المحورية لا شك هي شخصية الراوي، وهو شخص متعلم ومثقف، وله تجارب عدة مريرة، منذ ولادته، كما تعاني كل شخصيات الرواية.
استطاع بطلنا الاستمرار في بناء ذاته بعيدا عن مؤثرات العائلة، ونجح نجاحا باهرا في أن يكون ما أراد أن يكون، رغم المشاعر والعواطف المتأججة اتجاه فتاة فرنسية والمكان الذي عمل فيه وكان له دوره المؤثر في تكوين شخصيته.
ومن الشخصيات التي لعبت دورا في حياة بطلنا، وجعلته يرث انتباها خاصا للفراغ، الأمر الذي مكنه من كتابة روايته باحتراف والده، الذي بترت رجله وهو في طريقة لصناعة عمله الخاص، ولكن القدر تدخل وجعله يدوس على "مسمار عابر، قذر، مستخدم، صدئ، "مطعوج"، في خشب تالف، تافه، مفسّخ، في ورشة بناء تافهة شارفت على الانتهاء".
هذه الحادثة كان لها ما بعدها في حياة العائلة، فتسببت في العقم لأحد الوالديّن أو كليهما، وبالتالي كان بطلنا الطفل الوحيد في الأسرة. وعن هذا يقول:
"لم أعرف، وربّما لن أعرف أبدا، "رحمها" هو الذي "حزن" (وفق التفسير النسوي لذلك العقم)، أم خصيتاه، أم شيء آخر لا علاقة له بهذين المكانين، تسبّب في أن أكون وحيد والديّ".
وفي تفسير لافت من قبل الراوي، يقول أنه لم يشأ أن يسيّس الموضوع ويتحدث عن البتر الذي خلفه الاحتلال، فالأمر طبيعي ويحدث في وجود الاحتلال أو عدمه، كما أنه لا يرمز لأي معنى بهذا البتر، فالأمر لا يشكل كناية عن صراع الأجيال، وأن الأب الكسيح يمثل الجيل العاجز والعقيم، وأن جيلنا (جيل الانتفاضة 1987) كان أقوى على الفعل، وأكثر فعالية من الجيل السابق، فالراوي يعتقد أن هذا الجيل قد قدم كل ما يمكنه في ظل ظروف صعبة.
الراوي ليس الابن الوحيد للعائلة وحسب، بل أن تاريخ ميلاده كان عجيبا وغريبا، فقد ولد في 29 شباط/فبراير عام 1972، وهذا التاريخ يعني أنه ولد في سنة كبيسة التي لا تأتي إلا كل أربع سنوات مرة. ويقول إنه لم يقصد شيئا من هذا التاريخ، فتاريخ محايد وحقيقي كما السنة محايدة، وليس لها أي أبعاد تاريخية وسياسية.
ولأنه وحيد، وقدم والده قطعت، فإنه وقع عليه تكليفان صعبان وبشعان جاهد كي يتهرب منهما، وهما مهمة بقاء نسل العائلة فهو "الغصن الوحيد على الجذع".
ويقول عن هذا إنه استطاع الإفلات، ولكنه لم يفلت من الحزن. أما التكليف الثاني فهو حك أسفل قدم والده المبتورة، أو على الأصح الفراغ الموازي لآخر القدم الموجودة.
ومن الشخصيات الهامة في الرواية، شخصية الأسير السابق المسؤول عن موقف السيارات الذي اختار الراوي بقعة فيه للجلوس فيها، والبدء في كتابة روايته. هذا الأسير الذي سيقص علينا تجربته في سجن الاحتلال، بلغة جميلة رغم احتواءها على الألم والعجز والأنفة.
أما الآخر فلا يظهر في الرواية إلا من خلال حديث الشخصيات الفلسطينية، فهناك شخصية السجان التي تظهر من خلال تجربة الأسير المريرة، ففي رده على سؤال الراوي، إذا كان يمكن له أن يحب سجانه، فيجيبه بثقة كبيرة: إن السجان يخاف على نفسه من سحر السجين، والسجون ليست متشابهة، وفي حالة الاحتلال يصبح الأمر شائكا ومعقدا، "فسجين الحرية ليس من السهل أن تنتزع منه قضيته، وعدم استسلامه ينهك السجّان". فالسجان ليس لديه المقدرة على سحق هويتك كما لا يقدر على النظر بعينك خوفا من أن يكتشف إنسانيته المهدورة.
الآخر والعلاقة المبتورة
أما شخصية الآخر الرئيسية، والتي لها حجمها الضخم في الرواية، فهي الفتاة الفرنسية، التي كان لها مغامرة جنسية مع الراوي وهو ما زال غضا، والتي ستبقى في ذاكرته إلى الأبد، لأنها طبعت حياته بسحرها الخاص، أو عقربها المشوم أسفل العمود الفقري.
وهنا لا بد من القول، أن الكاتب قد تفادي الحديث عن كونها فرنسية الأصل أم هي يهودية فرنسية، وترك الأمر للقارئ ليظن ما يشاء. واعتقد أن الراوي لم يستطع الجهر بديانتها، أو لم يرد أن يعرف ذلك، وهذا أن دل على شيء إنما يدل على الخوف والريبة من هذه المعرفة.
وقد يكون الأمر متعلقا بالخوف من المعرفة مما سيؤدي إلى تغيير في المشاعر والعواطف الملتهبة، أو أن الراوي يعتقد أن الوقت لم يحن، أو غير مناسب للقاء مع الآخر الذي استولى على الأرض والسماء، وجعل كل الشعب الفلسطيني يرزح تحت نير العبودية والظلام. كما أن المزاج الشعبي سيرفض هذه العلاقة العقيمة، والتي لن تؤدي إلى حياة حقيقة. ولكنها لعبت دورا محوريا في حياته، حتى أنها دفعته لكتابة روايته، فيقول:
"كنا مراهقين، جاءت إليّ إلى صالة الرقص في أول اللّيل. فجأة جاءت، وبعد حديث تعارف بالغ القصر، قالت أنّها جاءت كي تريني عقربا، وشمته حديثا، تماما عند أسفل عمودها الفقري".
وتطورت الأمور، وكان لعقربها الوشم فاتحة الجسد بالنسبة إليه، وبواسطة أحمر الشفاه، يرسم حدود حوضها على المرآة التي ألصق جسدها بها، وانتهى اللقاء بقبلة وداع، سيبقى طعمها يلاحق الراوي إلى الأبد، ورحلت الفتاة صباحا إلى باريس موطنها.
وأخذت الفتاة تأتيه في الحلم دائما، ويتحسس وشمها الذي يتحول إلى عقرب حقيقي ينزلق على جسدها، ويركض فوق السّجاد الأحمر في الصالة، متجها صوب المرآة، ويقف أسفلها، ويشرع في محاولة الصعود باتجاه صورة الجسد المرسوم بأحمر الشفاه. يحاول العقرب دون كلل، أن يصعد ليقف في مكانه على الجسد كوشم، ولكن سطح المرآة الأملس يمنعه، ومحاولاته "فعل عنيد يشبه المستحيل أو العبث أو الجنون أو الغباء. لا اعرف، لكنّه فعل منهك ومؤلم، بل يقترب من أن يكون قاتلا".
يجّهد العقرب من المحاولات، يسقط على ظهره، ويحرك أطرافه ورأسه بيأس، وتبدو حركاته كأنها حركات النزع الأخير. وعند هذا المشهد ينهض من حلمه، ناشف الحلق، غارقا في العرق، وقد أخذ منه التعب مأخذه.
وسنجد أن شخوص الرواية الرئيسين سيؤرقهم "العقرب" في محاولات صعوده ويجهدهم، ولكنهم لا يتوقفون بل يستمرون في المحاولة.
ويسأل الراوي: "أليس هذا حلما روائّيا، أو حلم رواية؟"
ويجيب: بالإيجاب. ويشرع في كتابة روايته عن "سيرة العقرب الذي يتصبّب عرقا".
وتنتهي الرواية، والراوي مصابا بالحمّى، وأمه تضع قدميه في طشت الماء، ويأخذ يهلوس، قائلا: "ماء، ماء كثير تحت رجليّ، ماء كثير".
ويسأل أمه كيف استطاعت أن تجرّ "البحر إلى هنا. كيف جلبته إلى هنا؟"
ويخاطب والده: "وصلت إلى هنا إلى شاطئ المتوسط، كيف نزلت عن الجبل، مالح ماء البحر؟ عرقي؟ ماذا تفعل هنا؟"
وتختلط الأصوات فلا نعرف من يقول: اغسل قدمي جيدا، قدمي تنمنم، افرك بين الأصابع، افرك جيدا. أهو الأب أم الأبن.
وختم الرواية بهذا الكلمات وما تعنيه من تقليد عائلي متوارث (حسب الراوي)، يعني أن الراوي انحاز إلى أصله وجذوره التي لا فكاك منها، وسيبقى مزروعا في الأرض التي ولد ونشأ فيها وأحبها، وأن الحلم بالبحر يسبق الفعل المراد والمرغوب.
لقد استطاع الكاتب في روايته، أن يصل بالقارئ إلى الالتصاق بالرواية وعدم تركها حتى الانتهاء من قراءتها، فهي مكتوبة بلغة رشيقة، وبأسلوب جميل ومتفرد، وتضمنت الرواية بعض الكلام العامي والذي اضفى روح وعبق المكان عليها.
مصارعة السجن والسجّان
في حوارات الراوي مع الأسير، والتي تمتاز بالعمق والفلسفة، حيث الكاتب استفاد من علم النفس ومن النظرية السلوكية تحديدا، وهي النظرية التي عملت كل الأجهزة الأمنية في العالم على الاستفادة منها في ترويض الإنسان، وكذلك انتفع منها الاحتلال الإسرائيلي في محاولاته السيطرة على روح الشعب الفلسطيني.
ينقلنا الكاتب إلى السجون الاحتلالية التي يقبع فيها آلاف الأسرى الفلسطينيين، من خلال إسهاب الأسير في الحديث عن تجربته المريرة.
شخصية الأسير هنا تبدو إيجابية وقد برع الكاتب في حياكتها، لتكون نموذجا للشعب الفلسطيني المقاوم، وتعمد الكاتب ألا يسميها باسم محدد ومخصوص لتعبر عن تجربة قاسية لشعب عانى وما زال يعاني من بطش الاحتلال.
وعندما يحاول الراوي استئجار موقف سيارات ليخيط وينسج روايته عن العقرب الذي يتصبّب عرقا، فأنه يقابل الأسير الذي يشرف على إدارة الكراج، وعندما يلتقي فيه ويخبره عن مراده، يبتسم الأسير، ويدعوه ليشرب شيئا، ويخبره عن نفسه بأنه قارئ مرعب، وأنه في السابق كان "عن سابق إصرار بغل ثورة. انتهت الثورة فبقيت باختياري وبحكم وعيي بغلا".
ويعبر عن رفضه للأوضاع التي وصلت إليها الثورة الفلسطينية، وينتقدها بقوة وقسوة، ويضيف: "لا أحد غيري يجرؤ أن يقول إنّني بغل، هذا لقب بإمكانك أن تسمّيه احتجاجيّا أو تربويّا أو تنفسيّا. لن أصعب عليك، فأنا محارب قديم، وأسير محرّر (دفعة محرّري 95)".
ولكنه رفض الاستفادة من تاريخية النضالي في الحصول على وظيفة مرموقة، وفضل عوضا عن ذلك العمل حارسا وبوّابا ومديرا لهذا الكراج، وهذا يعني أنه يرفض ما جرى من تحولات سلبية في الثورة الفلسطينية ويعبر عن احتجاجه بطرقه الخاصة.
وفي مقطوعة جميلة، أبدع الكاتب في الولوج فيها في نفسيات شخوصه، يناقش فيها الأسير علاقته بالآخر السجّان، فيقول بثقة متولدة عن سنوات الخبرة الطويلة في السجن: "يخاف السجان على ذاته من سحر السجين، السجون لست سواء، السجن في حالة الاحتلال معقّد أكثر، فسجين الحرية ليس من السهل أن تنتزع من قضيته، وعدم استسلامه ينهك السجّان".
إن استطاع السجّان انتهاك زمنك الشخصي، فأنك لا تواجه صعوبة في حماية هويتك كسجين، بينما السجّان يعاني لأنه لا يحتمل إزالة قناع القوة عن وجه ولو للحظات لينظر في عينيك، أتعلم لماذا؟ لأنه يخاف أن يقع في حبّك.
فيبقى السجّان محتفظا في نظرته الممتلئة بالكراهية والمحصّنة بالحقد لسجينه، أما نظرة السجين فتعبر عن الاحتقار، وبنظر سجيننا فالاحتقار أقوى من الكراهية، ويبقى السجين يملك إنسانية صاحية، والسجّان يقف حارسا على حريته من نفسه بعكس السجين، الذي يحتفظ بإنسانيته ليكون قادرا على اكتشاف اللاإنساني في الآخرين. فالقوة "لكيلا تأكل ذاتها تحتاج لحساسية عالية تجاه الضعف".
وهذا يحيلنا إلى أن قضية التعاطف مع الشعب الضحية غير موجودة في قاموس الإسرائيليين، حيث يتربون على كراهية الآخر الفلسطيني المختلف، سواء في الكتب المدرسيّة، أو أثناء التحاقهم في الخدمة العسكرية، إذ قناعتهم تنشأ من أن التعاطف مرتبط بالعرق والدين وحسب.
وكما تقول الباحثة نوريت بيلد فإنه لا يمكن السماح بالتعاطف مع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت رحمة الإسرائيليين، فالذي يوجه سلوك الإسرائيليين المنفعة، وهي المعيار الوحيد. وبالنسبة لنا يمكن التغاضي أو تجاهل الأذى الذي لحق بهم بسببنا، وتنقل عن الكاتب زيزيك قوله: " إن الألم الكبير (الذي وقع بهم) يمكن احتماله إذا كان يحول دون وقوع ألم أكبر (بنا)".
البطل الفصامي يحدد خياراته
تحت عنوان "عودة متجدّدة إلى صالة العقرب"، يأخذنا الراوي إلى شخصية البطل "الأنا"، ليحكي لنا قدرة البطل الفلسطيني على التفوق وإثبات الذات رغم الصعوبات التي لا تحصى في دروبه.
فهو لا يريد أن يكون صدى صوت لوالده، لذلك يهرب من حب والديه الجارف ليجد نفسه وقد وقع "في أحضان القسوة الزائدة، قسوة الحياة وقسوة الاستغلال". وفراره من صورته الجميلة في مخيّلة والديه، توقعه أيضا "في مصيدة صورتك المشوهة في مخيّلة مشغليك".
أراد بإصرار أن يتعلم لغة عدوه وأن يفهم ركائز فكره ليكون على دراية بمن يجابه في الجبل، واستطاع في وقت قياسي التهام لغتهم مما أثار اندهاشهم.
لقد كان لعمله في الفندق وقع إيجابي عليه رغم أنه لم يكن سوى فتى هرب من المدرسة وكرهها، وأنه مجرد خادم يرتب الصحون والكؤوس والملاعق ويفرش الطاولات بشراشف نظيفة قبل الحفل، وبعد الحفل ينظف ما تركه الزبائن من قاذورات، فما أن ينتهي من تنظيف وتنظيم القاعة حتى يذهب إلى المطبخ مكانه الأبدي، أو مكان الإنسان الواقع تحت الاحتلال، حيث يتم استغلاله بحكم هويته الدونية.
وعن إثبات نفسه في العمل، يقول: "قويّا أراك صلّب جسدك الجبل، وصلّب روحك وقوفك وحيدا على حافة العدم، وذكيّا ورثت ذكاءك من أبوين عبقريين، وأراك تعدّل الأشياء وتبدي الملاحظات على آليات العمل لتقلّل الكلفة وتختصر الجهد على الجميع".
أوقات راحته كان يستغلها في تعلم العبرية والقراءة في كتب أكبر منه يحضرها من مكتبة أبيه. كان يقرأ بنهم وشغف وكأنه ليس هو الذي لم يحب المدرسة يوما.
ونلاحظ أن صورة الفلسطيني مشروخة ومشوهة في مرآة الآخر المحتل، بعكس نظرة الأنا في مراياها، حيث يقول بطلنا أن اللعبة ما هي إلا لعبة صور ومرايا.
ويسترجع صورته فتاته وهي عارية على المنصة، فصورتها تعود إليه دائما، ويبقى يشعر بالحنين إلى المكان (الصالة)، ولكن هذه المرة ليس كعامل بل كسائح، وفي محاولة منه لاستبدال المواقع، فبدل أن يكون غاسل صحون يكون سائحا حيث يخدمه الآخرون، ويقول لنفسه مكتشفا: "إنّ مشكلتك ليست مع العمل كعمل، إنما مع سجنك في إطار قاس وصغير، يضيق بأحلامك وبقدراتك".
ويحلم بالحكاية، ويخطط إلى العودة ليكتبها رواية، فهو يريد أن يرى الأشياء بعينين ليس كالسابق، ولكن الحرب اشتعلت (الانتفاضة 2000)، ومنى النفس أن تظل بعيدة عن صالة العقرب، لأن حدوث شيء سيعيق عودته إليها، وستحمل معاني لا يريدها، فكل ما يرغب فيه هو تذكّر أشياء شخصيّة "بعيدة قدر الإمكان عن الأشباح المدفونة، عن حكايات كبرى وعن كوابيس تاريخيّة شوهت ذاكرة المكان".
يشتهي بطلنا بسذاجة أحلامه الزائفة نزع المكان عن سياقه، واعتباره مكان ذكريات شخصية وحسب. فهل نجح بذلك؟
يقوم شاب فلسطيني بتفجير نفسه ويفجر المكان، ويتسأل بطلنا: ماذا لو كان على مدخل القاعة؟ ماذا كان سيفعل؟ هل كان سيحاول أن يقنعه بألا يفعل، أم أنه سيدعه "ليصفّي حساباته هو، ليس لأنّك منفصم، بل لأنّ فصام المكان أكبر منك، أردت أن تراوغ وتبعد حكايتك، لكنّ المكان اقتحمك وزلزلك".
لا هروب من واقع الفلسطيني البائس إلا بالفعل النضالي القادر على دحر الاحتلال، واستعادة الحق، تذهب به الذاكرة إلى الملجأ عندما سمع أصواتا تصفق وتغني، فهرول سريعا ليعرف، و"إذا العمال الفلسطينيون واقفون، يؤدّون السلام الوطني، وعلى شاشة التلفاز كان "أبو عمار" يعلن الاستقلال، وكان العمال يبكون ويتعانقون".
أراد أن يجلس على المنصة، وينزلهم عنها، كل ما أراده أن يبدع ويطور شخصية العقرب بشكل روائي، وإعطاءه ملامح فنية، أن يعطيه حرية أكبر و"بدل الذهاب باتجاه المرآة يركض باتجاه المنصّة، يقف على ذيلة ويلوّح ببعض أرجله/أياديه" .
حاول بطلنا في روايته أن يجعل العقرب يقول كلاما لم يستطع هو قوله، وأن يدربه على استدراج المرايا، ولكن المرايا تحطمت.
هنا يصل بطل الرواية وراويها إلى أن لا التقاء أبدا مع الآخر المحتل، وأي محاولة لبناء جسر، فأنه سيتهشم، وأن ليس له سوى الحلم بنهاية كابوسه (كابوس الشعب الفلسطيني كله)، فيحمل ربابته ويجلس على حجر وسط مدخل "ثمّ الجبل" ويقول لحنا من القلب يخرج:
نزل من "ثمّ الجبل" = = = = = ع بحر ماله نهايي
عشق موجات البحر = = = = = تتراقص بلا غايي
يغني زمنا سرقه الاحتلال، يغني امكنة تؤلمه وتوجعه والوديان تردد صدى صوته ولحنه.
لا شك أن الرواية جميلة، ومكتوبة بأسلوب رشيق، بما تضمنته من أغاني وحكايا شعبية، أضفت عليها نكهة فلسطينية خالصة.
ويصل البطل في النهاية إلى استحالة إقامة علاقة مع الآخر، ويلوذ بقريته الواقعة في "ثمّ الجبل" وعلى ربابته يعزف ويناجي الجبل والوادي والبحر، ويحلم بزيارة البحر، ويغني للأشياء وتغنيه، يبدل الكلمات وهي تبدله، ويرى جبالا وسهولا أمامه، وكان كله ككلمات يمضغها الجبل، كان كجواهر تتساقط من فم فتاة في حكايات عمته.
= = = = =
المراجع
=1= بيلد نوريت. "فلسطين في الكتب المدرسيّة في إسرائيل"، الأيديولوجيا والدعاية في التربية والتعليم. ترجمة ياسين السيّد، رام الله: مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، ط1، 2012م، ص 301.
=2= مسلّم أكرم. "سيرة العقرب الذي يتصبّب عرقا"، نشر بواسطة مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله، ودار الآداب في بيروت (2008).
◄ أمين دراوشة
▼ موضوعاتي