غانية الوناس.الجزائر

أنت لا تقرأ

غانية الوناس

ثمّة رسائل لا نكتبها بالحبر والقلم، إنّما نكتبها بدمع العيون ونبض القلوب، تلك الرسائل هي رسائل العمر كلّه، رسائل لشخص واحد قد يصادف أن يقرأها غيره مرات ومرات، ولكنّها بالنّهاية لا تصل إلاّ إلى ذلك الشخص التي كتبت لأجله.

وثمّة رسائل أخرى تكتب لكلّ النّاس، وربّما يحدث أن يصادفها مرّة شخص لم تكن تعنيه تماما، ومع ذلك يجد فيها شيئا ما يخصّه ولو من باب التشابه في الأحداث والوضع والأقدار ربّما.

كنت على حافة الانعزال عن كلّ شيء حين قادتني الصدفة ذات شتاء إلى قراءة شيء ما أصابني للوهلة الأولى بالذّهول، فأنا من الأشخاص الذين لا يخفون انبهارهم بأي شيء مهما كان بسيطا، لذلك كان تعليقي العفوي حيّال ما قرأت بشكل مباشر: يا إلهي، هذا حقا مذهل!

كان الأمر أشبه بفيلم قصير يحمل بداية ساذجة في الغالب، قصّة تبدأ بكذبة صغيرة بريئة، إعجاب ثمّ انبهار بالأفكار ثمّ صداقة تعمّقت مع الأيام لتنبت حبّا، أقلّ ما يقال عنه إنّه حبّ بائس يائس ذابل.

البؤس كصفة ليست تعبيرا جيّدا، لكنّه واقع يعكس الكثير من الأمور التي لا نراها بأعيننا إنّما نحسّها في داخلنا، نستشعرها بأفئدتنا، لذلك حين يحدث أمر صغير يعكرّ مزاجية ذلك الحبّ، أوّل ما يجرح فينا هي المشاعر والأحاسيس.

هي الرّوح بالدرجة الأولى الّتي تتلقّى الصّدمة، فتنزف وجعا لا نراه لكنّه في الداخل يقتلنا، يحرق أوصالنا، يدمينا فنشعر بتلك الشرايين تجفّ شيئا فشيئا من الدّماء التي كانت تسري فيها من قبل.

نشعر في أعماقنا بأنّ شيئا يهتز في الدّاخل، شيئا يجعلنا نرتجف كلّما حاولنا تجاوز الأمر بقليل من الصّبر والعناد وربّما القسوة، تلك الّتي بتنا نحتاج في كثير من الأحيان أن نتزوّد بها في علاقاتنا الإنسانية، تلك العلاقات التي ربّما لم يعد وصفها بالإنسانية يتماشى مع موضة العصر المادي المجرّد، فلقد باتت من التراث العالميّ، تماما مثل الأنتيكا والتحف القديمة التي نحتفظ بها للزينة أكثر من أيّ شيء آخر، أو ربّما للتذكّر كوننا أصبحنا بحاجة ماسة إلى أشياء نلمسها بأيدينا لنثبت لأنفسنا بأننا حقا قد عشنا ذلك الشيء حقيقة وليس وهما.

لم أكن أعي يومها تماما ماذا يعني أن تكتب امرأة لرجل عن شيء تحسّه في داخلها، اتجاه ذلك الرجل نفسه دون غيره، هو من بين كلّ الرجال الذين أعرفهم، والّذين ألتقيهم أو المحيطين بها، كنت أقرأ عن رجال كثر وكنت متأثرة بشخصيات عدّة في حياتي، وكنت أعرف رجالا بحكم الصداقة أو القرابة أو الزمالة، لكنّهم جميعا لم يحرّكوا فيّ ذلك الشعور الخرافي الذي تشعر به المرأة اتجاه رجل واحد فقط، تماما كما شعرت حوّاء اتجاه آدم في الجنّة.

شعور ينبت من الطّين الذي خلقنا منه، معجون بماء الأرض التي ننتمي إليها، شعور تغذّى لسنوات بأشعة الشمس الدافئة، وترعرع فوق ذلك العشب الأخضر لسنوات أيضا، وفوق كلّ ذلك ذاق الجوع والعطش والبرد والظلم والقهر والخذلان، إنّه شعور تعايش مع النفس لعهود وعهود ليخلص في النّهاية إلى شيء يسكن الرّوح، ولا يخرج منها إلا إذا صادف أن التقت أمرأه برجل هو القدر بالنّسبة لها.

أكنت أنت قدري أم أنّي كنت أتعجّل لقاءك فأقنعت نفسي بأنّك أنت هو، وبأنّ هذا الشعور إنّما هو الحبّ الّذي يكتبون عنه ويروون عنه، فيصبح هو نفسه قصصا لروايات وأفلام؟ ذلك الحبّ الّذي يتجاهله كلّ الناس ويحاربونه خجلا منه، أو خوفا أو ربّما كان عن جهل مسبق أو عقد بشرية ترسبت لعقود وسنوات وأزمنة مضت.

لا أدري حقا ماذا كنت لي في الواقع؟ لكنّي مع ذلك أتذّكر كلّ كلمة قلتها لك. أتذّكر تلك الكذبة الصغيرة التي عرّفتني بك، أتذّكر كلّ حواراتنا التي لم تكن تنتهي تماما عند نقطة محدّدة، لتبدأ من جديد في شكل موضوع أو فكرة أخرى.

كنت رجلا مثّقفا، لذلك كان من السهل عليك التعامل مع امرأة كانت تعيش على هامش الكتب التي تقرأها، والتي كانت تقنع نفسها لسبب أو لآخر بأنّ ثمّة في هذه الكتب شيئا ما هو تحديدا لها هي، ولم يكن على أحد أن يصدّق ذلك، لأنّها كانت تؤمن بذلك حقيقة وليس مجرّد وهم تنامى مع الأيام ليصبح هوسا أو ما شابه.

كنت حالمة بكلّ شيء من شأنه أن يأخذ بيدي إلى العالم الذي أرسمه لنفسي، ولم يكن في تفكيري أبدا أن أدفن نفسي هنا في هذا المكان البارد الفارغ من كلّ ما أحلم به.

أحلامي لم تكن يوما أحلاما عاديّة لفتاة أنهت دراستها وتحاول أن تبني لنفسها مستقبلا كما تراه هي، وليس كما يراه الآخرون أو كما يتصوّرونه، أنا كنت امرأة تؤمن أكثر ممّا تأكل وتشرب وتعمل وتنام، وأحلامي كانت هي ما أعيش عليه حقا، وأنت كنت رجلا من واقع، رجلا حاسما لم تكن تعنيه الأحلام كثيرا بقدر ما كان ينظر إلى ما بين يديه.

التقينا إذن ونحن لا نمتلك صكّا يبرر لقاءنا، لم نكن نمتلك ربّما حتى الرغبة في حدوث ذلك، فتحول ذلك اللقاء إلى هزة جعلتني أفتح عيني ولا أجد إلاّ رسائلي المفجوعة بالغيّاب.

رسائلي كانت تحمل معاناتي مع كل التناقضات التي كانت تواجهني، كل تلك الخيبات التي صادف أن مرّت بحياتي أحداثا كانت أو أشخاصا، كانت دموعا انسكبت على الورق في أقسى اللحظات، فتحولت إلى كلمات حاولت جاهدة أن أخنقها، لكنّها خانتني فجاءت إليك تطلب لجوءا، وربّما أخطأت الوجهة كسفينة غشاها الضّباب، فلم يكن بإمكانها أن تهتدي إلى الشطّ، لذلك تاهت وازدادت غربة فوق غربتها وضياعا فوق ضياعها.

أعترف اليوم أنّ أحلامي لم تتبدّل يوما، وأن خيباتي أيضا لم تتبدّل، كانت دائما بنفس اللون والطعم والرائحة، وحدها الأسماء كانت تختلف لذلك احتفظت باسمك في دفاتري لأجعله اسما لمخلوق حبريّ سيصادف ذات كتابة أن يكون بطلا لقصة ما أكتبها.

لا تخف فأنا لن أذكرك ولن يعرفك غيري، ذلك أنّي أمينة أكثر من اللازم اتجاه جراحي التي لازالت تنزف.

أعرف أنّك لن تقرأني ولو صدفة، فأنا تعلّمت من كل ما مضى أن الصّدفة تحدث في كلّ قصة مرّة واحدة، وصدفتنا العجيبة الجميلة كانت في لقاءنا، لذلك لن يحدث أبدا أن تتكرر الصدفة في حياتنا.

أنت لن تقرأني، ومع ذلك سأواصل الكتابة حتّى يحدث أن يقرأ رسائلي شخص ما سيعنيه كلّ ما أكتبه صدفة أو ربّما بترتيب مسبق من القدر.


مشاركة منتدى