عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بهاء الدين محمد مزيد - مصر

قراءة في قصيدة بنت قمر


قراءة في قصيدة "بنت قمر" لدرويش الأسيوطي (*)

(*): شاعر مصري. من مؤلفاته الشعرية "من أحوال الدرويش العاشق شعر ". الناشر: هيئة الكتاب المصرية (2003).

القصيدة

تشرقُ .. وتشيلُ الهُدْبَ الليلَ

فتفتحُ شبَّاكَ الفردوْسِ لفارسها،

تصرخ بسمتُها بالشوق

فيأتيها فوقَ جيادِ الحلمِ

فيدخُلُها مِنْ عينيْها

طيفًا يمتشقُ الدهشةَ،

واللهفةُ تسبلُ جفنيْها،

فيدقُّ القلبُ، وترتعشُ الأنجمُ

وتغيبُ شموس

بنتٌ قمرٌ

تعطي للريح مساءاتِ الريحانِ،

تعطِّرُ صدرَ الشَّوق،

تحطُّ قناديلَ الصَّفْوِ على ليلِ جدائِلها،

وتنام

بنتٌ خُبزٌ مختمرٌ

نهداها ابتسما بزبيبِ الفتنةِ

لعيون اللهفةِ فارتعشتْ بالوجْدِ الأبدان .

غيَّةُ بوْحٍ

أغوتْ كلَّ طيورِ التَّوقِ فعشقتْها،

واجتذبت كلَّ فراشاتِ الدنيا

لحقولِ مباهِجِها،

ما بين السَّحرِ وبين النَّحرِ

فدادينُ المرْمَرِ والرَّيْحان.

بنتٌ بلدٌ

مزدحمٌ بالناسِ وبالفتنة

ناسٌ عُشَّاقٌ

عشاقٌ عطشى

ينتظرونَ هطولَ مواعيدَ الغيثِ

لتبلُّ شفاه مواجدِهم

عتبات

قصيدة درويش الأسيوطي قصيدة نموذج، عتبتها الأولى عنوانها ("بنت قمر") كلمتان نكرتان يربطهما التنكير والتواجد في العنوان، وتربطهما العلاقة التاريخيّة بين القمر والمرأة الجميلة. من العنوان يكون الانطلاق. على أنّ العنوان لا يخبر بكل ما في البيت أو النّص. يشير إلى بعض ما فيه وإلى انشغاله الكبير، نعم، لكنّه لا يختزله بحال من الأحوال.

يحسن أن نقرأ القصيدة عدّة مرات قبل التفكير في تحليلها أو الكتابة عنها، فمع كل قراءة اكتشافات جديدة، واقتراب أكثر من قلبها ودلالاتها. لا داعي للقلق إذا لم تؤدِ القراءة الأولى إلى استيعاب معنى القصيدة وغاياتها. يكفي أن نفهم المفردات والمعاني القريبة في هذه المرحلة.

بعد القراءة الأولى يكون الوقوف على ما يفعل الشاعر باللغة ليحقق غايات القصيدة. هناك عناصر مشتركة في كل القصائد، لكنّ من الملائم ألا نقتحم القصيدة بقرار مسبّق، بل علينا أن نستمع إليها لنقف على خصوصيتها وعلى طرائق إنتاج الدلالة فيها.

لعلّ من المفيد هنا أن نلاحظ ما يتكرّر من مفردات وتراكيب، ومن يتكلّم أو يفعل أو يكون في القصيدة. ولعلّ من المفيد كذلك أن نبحث عن الجملة، وعن فعلها وفاعلها ومفعولها، أو مسندها وإسنادها، لندرك ما يحدث في النّص، وما فيه من حالات. على أن تكون الغاية الكبرى هي أن ندرك كيف تقول القصيدة ما تقول وأن ينطلق الفهم من النّص وما فيه من شواهد وقرائن، دون الوقع في شرك الوهم الضيّق، وهم امتلاك الفهم المطلق الأخير للقصيدة.

ضمائر ومدارات

كيف نلج القصيدة وقد غادرنا عنوانها؟ نستطيع أن نلجها من باب الضمائر. من يتكلّم في القصيدة ومن يفعل؟ ومن يسمع ومن ينفعل؟ أول من نلتقي في القصيدة "بنت قمر"، والكلام للشاعر، تشغل موقع المبتدأ أو المسند إليه، وما بقي من القصيدة خبر أو إسناد.

من أول وهلة، ترفع القصيدة الالتباس عن العنوان، عن العلاقة بين "البنت" و"القمر"، فهي علاقة نعت ("هي بنت قمر") وخبر ("بنتٌ قمرٌ"). البنت هي القمر. تفتح البنت "شباك الفردوس لفارسها" الذي يأتيها "فوق جياد الحلم". ثم تعطي "البنت القمر" "للريح مساءات الريحان" و"تعطّر صدر الشوق" و"تحطّ قناديل الصفو على ليل جدائلها" و"تنام". البنت تفعل كلّ شيء حتّى هذه اللحظة وكلّ ما حولها ينفعل بما تفعل أو يقع عليه فعلها.

حتّى الفارس تستصرخه بالشوق وتفتح له شباكها "فيأتيها". هذا ما يحدث كذلك في المقطع التالي من القصيدة، مع نعت جديد للبنت التي أصبحت "خبزاً مختمراً" فائرا ينتظر اكتمال النضج، يبتسم "نهداها بزبيب الفتنة" فترتعش "بالوجد الأبدان".

ثم تصبحُ البنتُ "غيّة بوح"، لا مجرّد يمامة، تغوي كلّ الطيور وتجتذب الفراشات جميعاً إلى "حقول مباهجها" وإلى "فدادين المرمر والريحان" – جمال الطبيعة وعبقها، وصفاء وصلابة المرمر، وقد ورد مرادفه "الجزع" في بعض أشعار العرب.

ثم تستوي البنت في النهاية بلداً. ليست "بنتَ بلدٍ"، بل "بنتٌ بلدٌ". ليست مضافة إلى بلد، بل هي البلد. بلد "مزدحم بالناس وبالفتنة"، والنّاس "عشّاق" و"عطشى" "ينتظرونَ هطولَ مواعيدَ الغيثِ، لتبلُّ شفاه مواجدِهم".

ها نحن أولاء بلغنا قدراً كبيراً من الوعي بمدار النّص وانشغاله، ففي موضع القلب منه بنت قمر، هي مدار القصيدة ومحيطها ومركزها وكلّ ما في القصيدة منفعل بها. ليس في القصيدة متكلّم أو مخاطب فكلّ من فيها غائبون: "هي" –البنت- و"هو" –فارسها- و"هم" –الناس. هذا إلى ما فيها من غائبين غير عاقلين.

ماذا يفعل الغياب بالضمائر؟ يسمح بمسافة يبتعد بقدرها الشاعر ويصبح قادرا على وصف المشهد وسرد الحدث ويفلت من شرك المطابقة بين المتكلّم في النّص وبين الشاعر.

تصوير

حول الضمائر والمضمرات، تتجمّع الصفات والصور، من استعارة "البنت القمر" التي "تشرق" و"الليل الهدب" وشباك البيت الذي يصبح "شباك فردوس" و"الدهشة" التي تصبح جوادا واللهفة التي "تسبل جفني" البنت و"الأنجم" التي "ترتعش".

ما زالت البنت تمارس حضورها الطاغي فتضفي "ريحانها" على الريح وتعطّر "صدر الشوق"، وقد تجسد بشراً، و"تحطّ قناديل الصفو" على "ليل جدائلها"، وقد أصبح سواد جدائلها ليلاً. ثم تصبح "خبزاً" وتصبح الفتنة "زبيباً" وتصبح للهفة عيون.

ثم تصبح البنت "غيّة بوح" وفي الغيّة يكون الدفء والحبّ ومنها تكون الغواية، غواية الطيور التي "تتوق"، حيث تصبح "مباهج" الغيّة "حقولاً"، لسعتها وخضرتها ونضارتها، وفدادين مرمر وريحان ما بين "السّحر" و"النحر". البنت إذن عاشقة تنتظر "فارسها"، و"خبز مختمر" و"غيّة بوح".

نستطيع أن نتوقّف هنا مع بنت فاتنة جميلة كالقمر، تغيب الشمس حين تشرق هي، تمنح عشاقها الخبز والبوح والعطر والشوق والدهشة والغواية. لكنّ المقطع الأخير من القصيدة تصبح فيه البنت بلداً مزدحما بالعشاق العطشى الذين ينتظرون الغيث ليبلّ "شفاه مواجدهم"، صورة أخيرة تصبح فيها للمواجد شفاه.

كيف تتجسّد الصور؟ تتجسّد من خلال المفردات والتراكيب اللغوية. هنا نلاحظ في الكلام عن البنت البعد عن التعريف "بنت قمر"، "بنت خبز"، "غيّة بوح"، و"بنت بلد". مع التعريف يضيق أفق التأويل وتنحصر الاحتمالات، ومع التنكير تنفتح أبواب التأويل وتتعدّد الاحتمالات.
كذلك ترد أفعال القصيدة في المقطعين الأول والثاني في زمن المضارع – "تشرق"، و"تشيل" و"فتفتح" و"تصرخ" و"يأتيها" و"تسبل" و"تعطي" و"تحطّ" و"تعطّر". من معاني المضارع تعبيره عن الواقع الذي لا ينحصر في الماضي أو المستقبل وتعبيره عما يحدث الآن فلم يطوه النسيان ولم يغلفه الشكّ والتنبؤ.

ثم تتحوّل الأفعال إلى زمن الماضي مع انتقال القصيدة من الخبز إلى غيّة البوح – "ابتسما" و"فارتعشت" و"أغوت" و"اجتذبت". في استخدام الزمن الماضي ما يشي بالتحقّق والاكتمال، اكتمال الغواية والانجذاب. ثم تكون النهاية مع الانتظار - "ينتظرون هطول مواعيد الغيث" "لتبلّ شفاه مواجدهم" وفي الفعل الأخير تعليل وعاقبة انتظار مستقبل مأمول.

حبْك وسبْك

كيف تترابط أجزاء القصيدة فيما بينها؟ ليس في القصيدة تقفية خارجيّة، فهي من شعر التفعيلة، لكنّها تحقق ترابطها - بالإضافة إلى إيقاعها الداخلي – من خلال الجناس الناقص بين "تشرق" و"تشيل"، بين "فيأتيها" و"فيدخلها"، بين "تعطي" و"تعطّر"، وبين "غيّة و"أغوت"، و"السّحر" و"النحر"، ومن خلال التكرار – تكرار "بنت"، و"الفتنة" و"اللهفة" و"عشّاق" – التي تتكرر في موضع لافت في نهاية تفعيلة وأول التفعيلة التي تليها.

ومع التكرار يكون التوازي التركيبي، وهو تكرار البينة مع اختلاف المفردات، ومن ذلك بنية الفعل المضارع في "تعطي" و"تعطّر" و"تحطّ"، والفعل المضارع وقد اتصلت به فاء الترتيب مع التعاقب في "فيأتيها" و"فيدخلها"، وبنية الفعل المصارع متبوعا بفاعل جمع في "ترتعش الأنجم" و"تغيب شموس" أو بمفعول به فمضاف إليه، مع استتار الفاعل "تعطي ... مساءات الريحان" و"تعطّر صدر الشوق" و"تحطّ قناديل الصفو".

ومن التوازي التركيبي كذلك "أغوتْ كلَّ طيورِ التَّوقِ" و "اجتذبت كلَّ فراشاتِ الدنيا"، وشبه الجملة "بالناس" و"بالفتنة".

يتحقّق الترابط كذلك من خلال العلاقات الدلاليّة، من طباق بين "تشرق" و"الليل"، بين "قناديل" و"الليل"، بين "عطشى" و"تبلّ"، ومن ترادف بين "يدق" و"ترتعش"، ومن حقول دلالية تتشكل من مفردات "الليل" و"القمر" و"تنام" و"الحلم"، ومفردات "فارسها" و"جياد"، ومفردات "اللهفة" و"الشوق" و"التوق" و"العطش" و"الوجد" و"المواجد"، ومفردات "خبز" و"مختمر" و"زبيب".

ماذا تفعل تلك العلاقات الدلالية بين المفردات وغير ذلك من جناس وتكرار وتواز تركيبي؟ نستطيع أن نكتفي بما علمتنا كتب النصوص فنقول إنّها توضّح المعنى وتؤكّده. على أنّ من الأفضل أن نضيف إلى ذلك ما تحققه تلك العلاقات من سبك القصيدة وحبكها، ومن بلورة مداراتها وانشغالاتها.

خذ مثلا مدار البنت الخبز المختمر حيث تجتمع البنت والخبز المختمر وزبيب الفتنة وعيون اللهفة وابتسامة النهدين، حيث تتجاوز البنت حضورها المحدود، حضور بنت جميلة لا أكثر، وحين تجتذب كلّ فراشات الدنيا وتغوي كلّ طيور التّوق إلى حقول "مباهجها" و"فدادين" مرمرها وريحانها تتجاوز ذلك الحضور القريب إلى حضور كبير مهيمن يكشف عنه المقطع الأخير حين تصبح البنت "بلدا" يزدحم بعشّاقه "العطشى". وهل غير "البلد/الوطن" من يملك كلّ هذا الحضور، يشرق من قلب الليل، ويطعم الملهوفين والجوعى، ويجتذب كلّ الغائبين يزدحم بهم، ويعدهم بغيث يبل شفاه مواجدهم؟

البنت القمر وطن .. الوطن بنت قمر

على أنّ الاحتمال القريب مقبول – احتمال أن تكون البنت مسندا إليه والوطن مسنداً. "البنت القمر وطن" – حيث المباهج الحسيّة والروحيّة - و"الوطن بنت قمر" احتمالان مقبولان لا جدال، ومن حقّ القارئ أن ينحاز إلى أي منهما أو إليهما معاً.

قصيدة (بنت قمر) –إذن- تستنطق استعارتين إنسانيّتين خالدتين هما استعارة "الوطن بوصفه امرأة - حبيبة وأمّا وابنة"، واستعارة الأنثى بوصفها "وطناً يحتوينا ويطعمنا ونسكن فيه وإليه".

في المقطع الأول وصف تفصيلي بديع للحظات ميلاد حلم من رحم الليل المظلم، ولحظة وصل كالحلم حيث يأتي الفارس "طيفاً يمتشق الدهشة"، يلبّي نداء اللهفة والشوق "فيدقّ" قلب الحبيبة العطشى و"ترتعش الأنجم" في السماء و"تغيب شموس" في لحظات انتشاء.

بوسعنا أن نواصل قراءة القصيدة من هذا المنطلق، مروراّ بامتزاج غذاء الروح والجسد في مشهد ينتقل من الحسّيّ إلى الصوفي – "... ابتسما بزبيبِ الفتنةِ/لعيون اللهفةِ فارتعشتْ بالوجْدِ الأبدان". لكن الارتباك سيكون محتوماً حين تصبح البنت بلداً يزدحم "بناس عطشى". لا مفرّ من اللجوء إلى استعارة "الوطن بوصفه بنتا قمراً".

لماذا اختار الشاعر "بنتا" لا "امرأة" أو "أنثى"؟ في البنت "شقاوة" وبراءة وإقبال وأمل، وفيها ما يستوجب حنو الوالد وحدب الأخ الأكبر، ومعها فرصة استلهام تعبير مصريّ أصيل هو "بنت البلد". لا تتوافر تلك السمات جميعها معا في "امرأة" أو "أنثى". البنت الغضّة القمر عندها الكثير، سحبها حبلى بالمطر الذي ينتظره عشّاقها العطشى، فمتى يكتمل ولعهم وتمطر سحبها؟

توتر

لا تخلو قصيدة من توتّر. على أن التوتّر في القصيدة لا يكون ظاهراً في كلّ الأحوال. في قصيدة درويش الأسيوطي نهاية معلّقة لا تشبه نهاية الأفلام القديمة:

بنتٌ بلدٌ

مزدحمٌ بالناسِ وبالفتنة

ناسٌ عُشَّاقٌ

عشاقٌ عطشى

ينتظرونَ هطولَ مواعيدَ الغيثِ

لتبلُّ شفاه مواجدِهم

ما بين عطش أهل البنت القمر البلد وانتظارهم غيثها، تنتهي القصيدة. وهذا جانب آخر لا ينبغي أن نمرّ عليه مروراً عابراً. فعل "ينتظرون" فعل يعبّر عن حقيقة، أمّا "تبلّ" فهو فعل مأمول لم يقع بعد. هنا يكمن بعض التوتّر؛ توتّر بين الواقع والأماني، بين ما نريد وما نجد.

هل هذا هو كلّ ما في القصيدة؟ وهل هذه هي الطريقة الوحيدة لمقاربتها؟ الإجابة عن السؤالين بالنفي على سبيل اليقين لا الظنّ. حسبنا أن عشنا معها وعرفنا بعض سحرها. لا تنزعج إذا لم تستطع اختزالها بعد كل ما سبق في جملة أو شرح، فالقصيدة كما قال ماكليش "لا ينبغي أن تعني، بل ينبغي أن تكون".


غلاف كتاب درويش الأسيوطي

D 25 أيار (مايو) 2012     A بهاء الدين مزيد     C 1 تعليقات