عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 5: 48-59 » العدد 56: 2011/02 » تقنيات التعبير عن المعنى في قصيدة

فراس حج محمد - فلسطين

تقنيات التعبير عن المعنى في قصيدة

"أنشودة أفريقية" لحنا أبو حنا (*)


حنا أبو حنا: شاعر فلسطيني ممن صنفوا ضمن شعراء المقاومة مع محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم.

باتريس لومومبا: أحد قادة استقلال الكونغو، وأول رئيس وزراء لها بعد الاستقلال. وقع عليه انقلاب، واعتقل وقتل، ويعتقد أن قتلته كانون يتلقون الأوامر من بلجيكا، البلد الذي استعمر الكونغو.

.

فراس حج محمدأصدر الشاعر حنا أبو حنا ديوانه الأول عام 1969، وأطلق عليه اسم نداء الجرح، وهو بهذه التسمية يضع للقارئ أساسا عاما للتواصل مع الديوان، حيث الحديث عن المعاناة الإنسانية العامة لكل الشعوب المقهورة، سواء في ذلك العربية وغير العربية، فقد تحدث في الديوان، عدا فلسطين، عن آلام بعض الشعوب العربية والأفريقية تحت الاحتلال، مبينا نضالاتها ومعاناتها، ومخلدا ذكر أبطالها الذين ضحوا من أجل قضية إنسانية عامة، ألا وهي الحرية، وضرورة التخلص من الاستعمار بكل أشكاله العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، مبرهنا، كما غيره من شعراء المقاومة، أنه ينطلق من وعي سياسي وثقافي عام على قضيته المصيرية، فكان هذا الديوان لبنة تضاف إلى أخواتها في معمار الشعر الفلسطيني المعاصر؛ ليشكل نداء يحمل جراح الإنسانية في فلسطين والعالم أجمع، لعلها تصل ندية نازفة لكل صاحب ضمير حيّ.

وتأتي قصيدة "أنشودة أفريقية" لتكون شاهدا حيا وصارخا على معاناة الأفارقة جراء الاستعمار، إذ يعدّ استعمار الغرب للقارة السوداء من أبشع صور الاستعمار وأرذلها، فلم يكتف الاستعمار بالسيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية على تلك القارة الغنية بثروات تكاد لا تحصى، بل حولوا سكانها إلى عبيد؛ سارقين منهم أهم قيمة عرفتها الإنسانية، وناضل من أجلها الفرد والجماعة على حد سواء، وعلى مر العصور، ليعملوا في المزارع بديلا عن الدواب والآلات من أجل إشباع نهم الطغاة والأسياد، وقد مارسوا ضد هؤلاء الناس تمييزا عنصريا مقيتا، ما زالت آثاره ماثلة حتى الآن، وتتسلل من وقت لآخر إلى العقلية الأوروبية في شكل سياسات وتصرفات غير إنسانية.

ويزداد الأمر سوءا عندما تسلب الأرض والحرية، ويتحول المرء في ملكه إلى مجرد كائن يعمل بلا أدنى قيمة أو احترام، وعندما يصبح عاجزا، وبكل سهولة يتخلص منه، كأنه قطعة من الخردة، لا لزوم لها، ألم يقولوا: إن البقاء للأقوى"؟ الذي هو بالضرورة من وجهة نظرهم هو الأصلح للبقاء كذلك، هذا هو حال أفريقيا مع الطغاة المستغلين، وهذا ما أضاءت جانبا منه قصيدة حنا أبو حنا أنشودة أفريقية.

تتكون الأنشودة/القصيدة من سبعة عشر مقطعا، محققا المعنى الفني لمصطلح الأنشودة، بأنْ نظمها الشاعر على البحر المتقارب، ذلك البحر الغنائي المنساب، جاعلا الشاعر لكل مقطع قافيته الخاصة فيه، وكأنه يريد أن يعطي التنوع في الألم تنوعا موسيقيا، وتسيطر على لغة القصيدة الروح الناقمة الثائرة، وتقترب الشاعرية فيها في بعض المقاطع لأن تكون عادية خارج نطاق التزويق الاستعاري الغريب أو التصوير الفني الممنهج، بل هي أقرب إلى نفثة مصدور علنية ضد الظلم والظالمين، وهذا ما عهده القارئ في بعض أشعار المقاومة في جيلها الأول، عند توفيق زياد وراشد حسين، والمرحلة الأولى من شعر محمود درويش وسميح القاسم.

الشاعر حنا أبو حناويعمد الشاعر من أجل إبراز المعنى على المفارقة، فتشع أحيانا من بعض السطور خيوط من السخرية المريرة الناقمة على أعداء الإنسانية، فقد رسم الشاعر في المقطع الأول من القصيدة صورتين متقابلتين:

هنالك حيث يفيق الربيع

ويولد فجر ندي السن

ويصدح في الغاب فجر جديد

يدغدغ أشجاره بالمنى

وينشر في الكون دفء الصباح

وفي الأرض أحلام طيب الجن

هناك

طغاة تدوس الزهور الوليدة

تحت نعال الخنا

تبدو الصورتان واضحتين، فقد سيطرت على الصورة الأولى اللغة العذبة والمفردات الطبيعية التي تفيض أملا ورقة وتفاؤلا، ويتفنن الشاعر في رسم كل ملامح تلك الصورة المشرقة المتناغمة مع الطبيعة الساحرة في أفريقيا، ولكن يا ترى ماذا سيحدث لهذه الصورة؟

لقد أتى عليها الطغاة ودمروها في لحظات، بنعال الجريمة والحقد، فحولوا الأخضر يابسا، فعمّ الموت. فيا له من تصرف أحمق أن يستبد بهم الجنون فيرون الطبيعة عدوة، فيسعون بكل جبروتهم لتدمير مكوناتها.

ويكشف هذا تصرف المستعمرين هذا تجاه طبيعة ساحرة أخّاذة، يكشف عن نفسية مريضة هوجاء، فكل هذا الجمال لا يحرك فيهم شعورا إيجابيا نحوها، إنهم فقدوا الإحساس بالجمال والإنسانية معا، وصدق الشاعر إيليا أبو ماضي، فقد قال معبرا عن هذه الحالة غير القاصرة على المستعمرين، ولكنها بلا أدنى شك واضحة في كل المستعمرين:

والذي نفسه بغير جمال = = لا يرى في الوجود شيئا جميلاً

من هنا يظهر التقابل الحقيقي لصورتين، فيريد الشاعر للقارئ منذ اللحظة الأولى أن يستدرجه إلى بهو القصيدة، ليلج معه إلى أفسح مجال للمعنى، وحتى يخرج بأكبر قدر من الشحنة العاطفية المرتكزة على الحق والعدل والتعاطف التام تجاه الإفريقيّ، أخيه في الإنسانية.

هذا حال المستعمرين، فما هو الرد الطبيعي على تلك العنجهية والقبح الإنساني؟ إنها الثورة، ولذا فإن الشاعر حنا أبو حنا يرسم في القصيدة صورة للثائرين الذين رفضوا هذا الواقع، وأخذوا يعدون العدة من أجل تحقيق النصر؛ ففي المقطع الثاني من القصيدة يظهر الفلاح البسيط، وقد تحول ثائرا عنيدا يمزق أسطورة الغاصبين، فقد كتب في سفر الشعوب كفاحه من أجل المضي قدما لتحرير نفسه وأرضه:

هناك حيث تداس القيود

ويركل نير مئات السنين

وينتصب العبد حرا قوي

يمزق أسطورة الغاصبين

ويكتب في سفر زحف الشعوب

مفاخر عزمِ كفاحٍ مبين

ويستمر في تتبع نضال الثائرين، مذكرا بكفاح الجزائريين والكينيين، والثائرين في (ستانليفيل)، ليصل إلى مبتغاه، فيربط كفاحه ضد الاحتلال الصهيوني البغيض بكفاحهم:

كفاحي يعانق كل كفاح- ويحتضن

الكون قطبا لقطبِ

إنها الشمولية والأممية، فلا يرى كفاحه خارجا عن سياقه، فهو صريح بامتداداته الكونية، مستلهما كل كفاح من أجل أن يحقق أمنيته في التخلص من القيود والسيطرة الأجنبية.

ويخطو الشاعر خطوة أخرى في التعبير عن مضامين النص، فقد امتزج الشاعر وجوديا وشعوريا مع آلام القارة السوداء، فأصبح من شعوبها، ومعبرا عن آلامها، فقد صرخ قائلا:

أنا من هناك

من القارة المعذبة الحرة الثائرة

ولم أك من قبل ذلك - إلا موانئ للسفن

الغادرة

وجاعلا نفسه كذلك عنصرا ثائرا في صفوف الثائرين، لتتحول الأنا في بداية المقطع السابق إلى أنا الجمعية، فيعبر عن الثورة في المقطع الآتي بضمير نحن:

ولما احتشدنا لطرد الجراد

ندق الطبول ونعلي اللهيب

ونزحم أشلاءه في الدخان

ونكنس أرثاله في الدروب

نطهر من دنس أبيض

حمانا، لننشر فيها الطيوب

ويتيح الشاعر حنا أبو حنا عبر فضاء القصيدة للمستعمر أن يتحدث فنسمع صوته وحججه خلال المقطعين السابع والثامن، فترى هذا المستعمر يتحدث بلغة ومنطق أعوجين، موظفا الدين وتعاليمه، بل ونصوصه كذلك، توظيفا خنوعيا، فيحاول أن يضحك على ذقون القوم، ومبررا احتلاله وظلمه لهم، وهنا يتجلى النَّفس الساخر لدى حنا أبو حنا، فقد وصلت قلة الحياء بالمستعمرين أن يضطهدوا الشعوب لأنهم سيوفرون لهم دخول الجنة هانئين:

وقال: ألا ما لكم تكفرون

وكيف تثورون أو تغضبون؟

نسيتم "طوبى لمن يظلمون

ومن يحرمون ويستضعفون

فإن لهم في جنان السماء

ثوابا حميدا وكنزا دفين"؟!

فإنْ نضطهدكم

فكيما نتيح - دخول الجنان لكم

هانئين!

ويستمر المستعمر متحدثا بهذه اللغة الماكرة الخبيثة، وبهذا المنطق السقيم، ليستولي هو على كنوز الأرض، ويمنح المقهورين والمعذبين كنوز السماء، وبذلك بتعذيبهم وبجز رقابهم!

ويرى حنا أبو حنا أن هذه الخدعة لن تنطلي على الثائرين، وهي فعلا لم تنطل عليهم، بدليل استمرار الثورة، ومساومة المستعمرين لأهل البلاد، فقد حاولوا أن يُغروهم باستقلال اسمي، ويرفعوا لهم راية، على أن:

تظل الكنوز لنا

ودفتكم في يدينا تظل

وهنا يسجل الشاعر وعيا سياسيا حقيقيا تجاه التعامل مع المستعمرين، فهو والثائرون معه لن يرضوا بالوهم، بل إنهم مصرون على الحق كاملا غير منقوص، لذا جاء الرد بعد ذلك صريحا برفض هذه المنحة الزائفة، ويعلن رأي الثوار مستعيرا من القرآن الكريم ما يدل على قوة الثورة وعزم الثوار:

فزمجر غاب، وثارت زحوف

وزلزلت الأرض زلزالها

"أنرضى بجثة حرية

وباغ يزركش سربالها

أنرضى بها موميا حنطت

وقد نهش الدود أوصالها

وعين عبد أجير لها - يبخر بالطيب

أذيالها"؟!

باتريس لومومبوويسجل الشاعر في هذه الأنشودة الأفريقية إعجابه ببعض قيادات الثورة، فيخصص المقاطع الأخيرة من القصيدة (12-17) للحديث عن الثائر الباسل والمقاتل الشرس، والمناضل العنيد، الذي لم يخن وطنه وقضيته، إنه القائد باتريس لومومبا [3]، جاعلا منه رمزا إنسانيا عاما، فيستلهم الشاعر تجربته في النضال والصمود، ليقبس منها العزم والإصرار؛ ليستمر في نضاله حتى النهاية، وتحقيق الغاية، وأي غاية إنها غاية الحرية:

"لممبا"! نداء بعيد الصدى

يدوي بأفريقيا الهادرة

ورمز إباء يثير الكرامة

تدفق في الهمم الغارة

وإن دماء الشهيد لزيت

على مشعل الأمم الثائرة

وإفريقيا

مذ روتها الضحايا

ستورف دوحتها .. ناضرة!

إنها الخاتمة المتفائلة التي يطلبها الشاعر المقاوم، فعلى الرغم من اغتيال القادة، إلا أن دماءهم ستظل مشاعل تضيء دروب المناضلين، وستحرر أفريقيا وغير أفريقيا من نير الاحتلال، هكذا تقول حكاية التاريخ المجيد للشعوب التي أرادت أن يستجيب لها القدر، ويصنع لها نصرا مؤزرا وموقفا شجاعا، معاهدة دماء ضحايا الحرية والمواقف الإنسانية النبيلة في كل بقاع المعمورة، أنها لن تقبل بديلا عن حريتها وحرية أوطانها وامتلاك ثرواتها، وأنه النصر الأكيد لا محالة.

هكذا يعزف الشاعر حنا أبو حنا أنشودته على وقع الألم والأمل، صانع من لغته الشعرية البسيطة المتدفقة معاني سامية إنسانية، تصور الوجع وتستفيض في هذا التصوير، وتضع الحل الناجع للخلاص، جاعلا لقضيته بعدا إنسانيا عاما يلتقي هو والمناضلون في كل بقاع الأرض على صعيد واحد في تحدي الظلم، ليدلل على قضية وحدة الشعور الإنساني العام لبني البشر، إذا ما تخلصوا من وهم السيطرة وحب الولوغ في الدماء، ولتتحول الجروح إلى نداءات بعيدة الصدى، يجتمع على نصرتها كل أحرار العالم، وكل أصحاب الضمائر الحية.

= = =

الهوامش

(1) القصيدة من ديوان نداء الجرح، منشورات مكتبة عمان، ط1، 1969، (25-33).

(2) ينظر كتاب صورة الشهيد في الشعر الفلسطيني المعاصر. عبد البديع عراق، مؤسسة الأسوار، عكا، ط1، 2002، ص 175؛ ص 434.

D 1 شباط (فبراير) 2011     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات