ملف: تكريم الطاهر وطار
مقطع من رواية اللاز
سيأتيك الأخ المناضل المكلف بهم. دورك أن تخبر احمزي بالموعد الذي يخرجون فيه. الباقي لا يهمك. كلمة السر بينك وبين المناضل المكلف هي: "ما يبقى في الوادي غير حجاره." يقولها ثلاث مرات.
وذات مساء فوجئ، في الدكان بما لم يكن يتوقعه أبدا. دخل اللاز، ثملا قذرا، إحدى عينه زرقاء، من أثر معركة، يبدو أنه لم يخرج منها إِلا لحينه، وهو يردد، كما لو أنه يهذي، بأغنية بحار استيقظ من السكر:
"ما يبقى في الوادي غير حجاره."
أنصت قدور جيدا، مشدوها مذهولا، حتى ردد اللاز الجملة ثلاث مرات، ثم هتف:
"أنت المكلف؟ أنت الأخ المناضل؟ ماذا أسمع؟ اللاز، ما بك؟
ردد اللاز هذيانه: "ما يبقى في الوادي غير حجاره."
ثم قال في لهجة جادة، كما لو أنه لم يذق قطرة خمر، بل كما لو أنه ليس هو اللاز ولم يكنه في لحظة من لحظات حياته، إِنما الأخ المناضل، المكلف بعملية تهريب الجنود الجزائريين من الثكنة:
"السلعة جاهزة. غدا على الساعة الخامسة، ثلاثة. اقرأ حساب حمولتهم الثقيلة.
وخرج يردد أغنيته ثملا، قذرا، معربدا، في طريقه إلى الخمارة، ليواصل السكر مع الضابط صديقه الحميم، بينما لبث قدور يتساءل:
"ترى من يكون أبوه؟ لا شك أنه ابن جميع الأشقياء."
* * *
"وصلنا."
قطع سي الفرحي حبل الصمت الذي امتد كامل الطريق، فانتفض قدور، ومد بصره في الظلمة، ثم تحسس بقدميه بطن البغلة، وتلمس بيديه كتفي سي الفرحي، وتذكر موقعه وهدفه، بعد أن هم أن يسأله:
"أين؟"
توقفت البغلة، ووثب سي الفرحي إلى الأرض. انبطح، وأمره أن يفعل مثله. وبعد هنيهة، حاول أثناءها أن يفهم سر هذه العملية، راح يرهف سمعه، عله يلتقط حركة، لكن لا شيء. الظلمة جاثمة موحشة رهيبة. السكون ثقيل مرعب.
الأخبار الأولى التي بلغتنا عن الثورة هي أخبار الكلاب. بدأ ذبحها أو لا ثم تلاها ذبح الخونة. في السلم تحمينا، وفي الحرب تكون هي الضحية الأولى.
فكر قدور.
"اوو.... أو..."
انبعث صوت سي الفرحي، يمزق السكون، وكأنه عواء ذئب جائع، نغص الثلج حياته. وما إن رددت البهمة نفس العواء، حتى نهض، وتبعه قدور، وواصلا السير.
"تفضل. ادخل."
أمام كوخ، حيث انفرج باب صغير على ضوء قنديل يدخن في بطء حمار يصعد الجبل بكيس طحين. قال سي الفرحي ويده تربت على كتف قدور، الذي رغم شعوره ببعض الهيبة والرهبة، راح يسأل نفسه عمن يكون في انتظاره من الإخوان.
استعرض أسماء كثيرة ووجوها عديدة ممن جندهم بنفسه، أو التحقوا بالجبل قبل انخراطه، على يد حمو.
تذكر الكثيرين، وتشخصوا له، واحدا واحدا.
هذا ببسمته التي لا تفارق محياه، ومرحه الذي لا يؤثر فيه حتى الجوع، في البرد القارس، حين تتغطى القرية بثلج أبيض يعطل كل حركة، عدا حركة المقاهي، حيث يلتجئ كل الناس للعب الحجر والورق. "قجوح" مسكين.
وذاك بتنهداته المتواصلة، وعبوسه المستمر، وتساؤله المسترسل، لماذا خلقه الله في هذه البلاد، ولماذا هو أخ لستة وعشرين ذكرا لا عمل لهم إلا انتظار الغداء والعشاء، والليل والنهار. والدهم يرفض أن يتنازل لأي منهم عن المساهمة في العمل في مزرعته خشية أن يسرقوه. لا ينفك يتضرع إلى الله أن يخفف وطأتهم عليه، بأن يحمل إلى جنته أو ناره، كما يشاء، حتى نصفهم أو ثلاثة أرباعهم. ويفشي غيظه في زوجاته العديدات، دون أن يرحم حتى الصغرى التي لم تنجب له سوى أربعة إخوة في دفعتين لم تستغرقا سنتين كاملتين. كلما أراد أن يتزوج من جديد، طلق الكبرى بالثلاث، وتركها في زاوية مهملة، دون أن يسمح لها بالالتحاق بأبيها أو أحد أقاربها. أبو القاسم مسكين.
وذاك بحيويته المتدفقة، ولباسه العصري الأنيق، صندوق الحلوى أو الكعك أو غيره، حسب الفصول والمناسبات، في صدره، والسيغارة بين شفتيه، تثب يمنه ويسرة. وهو كالفراشة، يثب من مكان لآخر، من حي إلى حي، ومن زقاق إلى آخر، ومن مقهى إلى آخر، ومن جماعة لغيرها.
اليوم هنا، غدا في قرية أخرى، بتابع الأسواق والقطارات. حديثه لا يدور إلا عن المودات، خاصة النظارات التي تطورت حتى أصبحت تعوض ضعف الأبصار، بل حتى أصبح في إمكان المرء، أن ينظر بواسطتها إلى الخلف، دون أن يلتفت.
أما مغامراته في القطار، فالحديث عنها لا ينتهي، لأنها تتجدد يوميا، إنه لا يدفع ثمن التذكرة ككل البسطاء، لأنه يعرف جل المراقبين، يعرفهم جيدا، مراقبا فمراقبا، ويعرف مواعيد عمل كل واحد ورقم قطاره. ويعد لكل واحد ما يلزمه. علبة تبغ من النوع الجيد لهذا، وعلبة شوينقوم للآخر، وقارورة جعة في هذه المحطة أو تلك لثالث. إلى غير ذلك مما لا يكلفه سوى ربع ثمن التذكرة. والمهم قبل كل شيء، والذي يدعو فعلا إلى الافتخار والتبجح، هو الصداقة والمودة. ومعظم المراقبين الصغار والكبار أصدقاء له. الناصر المسكين.
في أحلامنا، لا تعيد مخيلاتنا، في الغالب، إلا الأشخاص البعيدين عن حياتنا الواقعية، أما أولئك الذين يعيشون معنا يوميا، ويؤثرون في حياتنا، فإننا لا نراهم إلا نادرا، كما لو أننا سئمناهم.
خطر لقدور، وعجب كيف تذكر بسرعة فائقة أشخاصا كانوا بعيدين عنه كل البعد، لم تكن تربطه بهم أية علاقة، كان يرقبهم من بعيد لا غير، وحتى إذا ما جمعته بأحدهم فرصة، فإنه يظل يتحاشى التحدث معه. كلهم من عالم آخر. لباسهم أوروبي، ورؤوسهم حاسرة، حديثهم في الغالب بالفرنسية.
"ادخل. ما بك؟
أضاف سي الفرحي، ويده تضغط على كتف قدور، الذي انحنى بعد تردد، واقتحم الباب الصغير، وردد مشدوها ويده تستقبل يدا صلبة جافة ضخمة:
"زيدان. سي زيدان، أنت؟"
وحدق فيه جيدا. لم يتغير سوى لباسه. هو هو، بطوله الفارع، إنه ينحني حتى لا يلامس السقف. هو هو بوجهه الأسمر المائل إلى الزرقة، وذقنه الطويلة، وجبهته العريضة المخددة، وأنفه الطويل الحاد، وفمه المستطيل كأنه بدون شفتين، وعينيه السوداوين العميقتين، الجادتين، الرهيبتين، كأنها سجن أو سور روماني هزم بعناده الدهر.
"على سلامتك يا الغول."
قال زيدان، وسحبه إليه واحتضنه بحرارة، ثم قدمه إلى باقي الجماعة. وما إن جلسا، حتى بادر قدور:
"وحمو؟"
"بخير قد تراه الليلة."
"هل هو مدني، أم ... مثلكم؟
"لسنا في عرس حتى نغرق في الأحاديث عن الأحوال الخاصة."
رد زيدان، وابتسامة خفيفة تطل من شفتيه ثم تختفي بينما عيناه ظلتا تشعّان الجدية والرهبة والوقار.
خجل قدور، وأحنى رأسه، وأغمض عينيه وهمس:
"حمو أكثر من صديق. حمو أخ."
وبحركة مضطربة، أخرج الكيس من تحت قميصه. فتحه وأخرج ورقة بالية، عليها بعض رموز وأرقام، وحزمة مالية، ورفع بصره نحو زيدان.
ذهن التاجر لا يبتعد عن مصالحه وخواصه أو المحاسبة. أفق ضيق جدا، كأفق الفأر... لكن هذا نشأ ريفيا فلاحا...أوف، ذهن الفلاح أيضا مغلق... عندما تجود عليه الأرض بالصوب، لا يفكر في إنفاقه إلا في الأعراس أو الخصومات.
فكر زيدان، ثم شعر بالإشفاق على قدور، فأضاف في نفسه، الثورة تحول الإنسان، وما دامت عميقة، فإن التحول يحدث بسرعة. يجب أن يتحول قدور، إلى مناضل ثوري، متطهر من العقد والرواسب. يجب أن يرتفع ويرتفع إلى أن يصل مستوى الثورة.
في تلك الأثناء، كان المسئول المالي يحاسب قدور ويفك معه الرموز والأرقام. عشرة ملايين، حاضرة نقدا. مليون وصل ألبسه وأحذية. خمسمائة ألف صرفت لعوائل الشهداء والجنود المعوزة. مائة ألف أرسلت أدوية، حساب الشهر الأخير.
"الحساب صحيح."
قال المسئول المالي. فأضاف المسئول الإخباري وهو يقترب من قدور:
"والحالة السياسية؟"
"المعنويات مرتفعة، خاصة بعد المعركة الأخيرة، وبعد اغتيال الخائن "السبتي"، الإنذارات وصلت إلى كل الموظفين وقد استقال أغلبهم بصفة جماعية، لكن السلطات لحد الآن ترفض القبول، وتدفع لهم الأجر، فرار الجنود و"القومية" (*) أحدث اضطرابا كبيرا في صفوف العدو. يقال إن فرقة كبيرة من اللفيف الأجنبي في طريقها إلى القرية. على العموم، الأمور كلها حسنة، باستثناء حادثة اليوم... واللاز مسكين.
"اللاز المسكين."
ردد أيضا زيدان، ثم أسند كتفه إلى الجدار، ووضع يده على جبينه، كأنه يستغرق إغفاءة واستسلم لمخيلته.
= = =
(*) ميليشيا مضادة للثورة جندها الاستعمار الفرنسي.
- غلاف: رواية اللاز
صدرت رواية اللاز عام 1974، وأعيد طبعها من ذلك الحين بضع مرات، في الجزائر وخارجها.
◄ عود الند: ملفات
▼ موضوعاتي