عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فريدة بن موسى - الجزائر

مدن الخواء


في لحظة ما، قد يبدو لك الرحيل فرحا، تزهو كل الأشياء أمامك، وتحسها أكثر ابتهاجا، وكلها تتحرك صوب فرحك اليتيم، لتقيم لك العرس الجميل.

وحده قلب أمك يحس الفجيعة، ويقيم للفرح مأتما حزينا. فلانتقال من بلد الأهل إلى بلد فارغ من الحب، كان بالنسبة إليك فرحا تصنعه رقصات حلم في عينيك المنفرجتين عن آخرهما، على غير العادة.

فهل تصنع الفرحة بك كل هذا المأتم الذي حل فجأة بقلب أمك؟

أنت لم تفكر بهذا القلب الضعيف الحزين بعدك، وكل ما فعلته بعض القهقهات والحركات البهلوانية التي تعزز قمة النشوة لديك، وتغرز دبابيس الأسى في قلب أمك، أمك التي لم تستوعب شرحك الطويل لها عن أزمة البطالة في مدينتك.

كانت في ركن البيت قابعة ككومة ملابس تنتظر من يرفع عنها أدران الزمن الآسن.

كان خدها يتكئ على يدها اليمنى النحيلة، وحدها العروق الخضراء البارزة أصبحت زرقاء اللون ترتسم على طول اليد خطوط حكاية تروي.

أسيدي امحمد خدك ينور، عند طلوع النجمة زاد الرسول، خرجت احليمة لدار، زاد المختار، بخَتُو بالعنبر والمسك يفوح، خرجت احليمة تشكي، زاد المكي، بختو بالعنبر والمسك يفوح.

تواصل أمي ترنيمات المولد النبوي بصوت جميل، وبحة حزينة تميزه عن آلاف الأمهات، صوت يراقص أشعة الشموع المنتشرة في أركان البيت.

هذه عادتها منذ سنين، تقول الحكاية، في كل مولد تحتفل، وتغرس فينا حب نبينا. كان هذا آخر مولد نبوي أشهده مع قلب أمي، ومع بحتها الخاصة جدا.

"ستجرب الغربة، وستندم." بحسرة يقولها قلبها الواسع الذي لم يسع فكرة رحيلي.

وتقول الحكاية كذلك، بعد رحيلي لم تعد أمي تردد ترنيمات المولد النبوي، غاب صوتها الشجي، وجفت الدموع في محاجرها، لم تبق إلا العروق البارزة تنبض، وتنتظر القادم.

من مدينة إلى أخرى ينقلني الضباب البني، يتكدس على قامتي الهزيلة، تتكوم الثلوج، وتتكوم أحزاني يوما بعد يوم، يتجمد الزمن في مدن الخواء.

يحتويني الخواء. أبحث لاهثا عن فرحة متبقية في أحداقي، ليس غير الدمع يفارق حنجرتي، وأحرص ألا ترى هذه المدن خيبتي، أندس في ليل مظلم، على حلم أن نلتقي.

لا أرى غير العروق البارزة من يديها النحيلتين تمدني بعنقود عنب فارغ، سقطت كل حبيباته قبل أن يصل يدي، أحاول لملمة الحبيبات من على الأرض، تبتلع الأرض كل الحبيبات، فلا أرى اليدين، ولا القلب، ولا هي.

أستقبل صباح المدينة الخاوية بكثير من الضجر، وقليل من الأفكار التي كانت تتجاذبني، أحاول أن أفتح النوافذ لأتنفس أكثر وأستعيد القليل من القوة. تأبى النوافذ. أكوام الثلج قد أغلقت كل القلوب، وسدت كل النوافذ.

أحن إلى قهوة أمي، وقبلة أمي، وحضن أمي. تلسعني الذاكرة، فأضع البن في لبراس وأشعل النار لعلها تدفئ فائض البرد المتأبد في كوة الجرح.

القهوة المٌرة مسكنة لبعض الجروح، وأنا لا أملك إلا جرحا واحدا، بيدي فتحته، وبقسوة أناملي أعدت خياطته، وها هي المدن الخاوية تفتق الجرح من جديد، في الشوارع التي صارت تعرف هزيمتي القصوى، تقاذفتني موجة أفكار ذات سلالة لا أعرفها، أو بالتحديد لا أعرف وصفها.

الضجيج الصاخب يكورني في مساء مظلم معتم، بعد نهاية ساعات التعذيب الجسدي، غسلت وجهي بضباب ذلك المساء الشاحب، أخذت كرسيا على رصيف الذاكرة، في مقهى المشردين، لأحد المغتربين، رميت بجثتي المنهكة، أحرقت ألف سيجارة، ونبهت أفكاري ببرميل قهوة مُرة، ولم ترسُ على ميناء.

تسرح المخيلة بدون قيود، صورة لهيكل عظمي مسجى وسط بيتنا، لا يُرى منه إلا عروق زرقاء بارزة، لحاف أبيض يلف الحزن المكوم، وجوه غريبة بدون أجساد تجوب بحرية أطراف بيتنا، تصرخ بدون أصوات، تبكي بدون دموع.

تختلط الصور، وتحلُ الظلمة على الهيكل العظمي الممدد مكانه، عيون جاحظة، وعيون بدون وجوه تجوب صحراء بيتنا.

ضجيج المكان، ونعيق البوم والغربان، يوقظ المخيلة فجأة، أواصل التحديق في الطيور، لا شيء غير الطيور، وهي تعانق الفضاء دون قيد.

صوت موؤود بداخلي يستجدي، لا بد لهذه المدن الخاوية من ستار يحجب الظلمة، وشاطئ يستقبل فرح الحقائب.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2009     A فريدة إبراهيم بن موسى     C 0 تعليقات