عدلي الهواري
شيء من حتى (*)
دخلت شابة مبنى دائرة جوازات السفر، واتجهت إلى إحدى نوافذ استقبال مقدمي الطلبات، وفتحت شنطة وأخرجت منها أوراقا، أرفق مع بعضها صور ملونة. قدمت الأوراق إلى الموظف، فبدأ يقلبها ليتأكد أنها كاملة، ثم بدأ يراجع المعلومات الواردة في الطلب ليتأكد من وضوحها واكتمالها. رفع الموظف رأسه وسأل:
"عفوا، هل الاسم الكريم مـنـى أم جـنـى؟"
"لا هذا ولا ذاك"، ردت الشابة، "إنه حـتّى."
"حتى كما في الأغنية التي تقول "حتى فساتيني التي أهملتها؟" سأل الموظف وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة.
"نعم، ومثل حتى أنت يا بروتوس؟"
اتسعت ابتسامة الموظف من ردها. ولما كانت مقدم الطلب الوحيد في تلك اللحظة، لم يجد مانعا في إكمال الحديث.
"ومثل ماذا أيضا؟" سأل الموظف.
"ومثل أكلت السمكة حتى رأسها"، قالت بنطق واضح واضعة فتحة على حرف السين في رأسها.
"أليس الصحيح أن تجـرّي السين، لأن حتى حرف جر، وحرف الجر يجر الجبل كما يقول النحاة؟"
"ألا تعلم يا سيدي الفاضل أن الاختلاف على تفسير معنى أكلت السمكة حتى رأسها أجاز الرفع والنصب والجر؟ بهذا تميزت حتى في اللغة العربية."
زادت ابتسامة الموظف اتساعا وواصل الحديث:
" إذن هل سماك والدك اسما متميزا كما هو الحرف حتى؟"
"لا ليس هذا السب"، قالت حتى.
"إذن هل هو أستاذ لغة عربية مولع بالنحو؟" سأل الموظف.
"لا، كان طبيبا"، ردت الشابة بهدوء، "ولكنه كان عاشقا للغة العربية."
"وما هو السبب إذن، إذا لم يكن عندك مانع؟ لقد زدت من فضولي."
تنهدت حتى ثم قالت:
"هناك عالم نحو عربي اسمه الفـرّاء، أحب حتى حبا شديدا، إذ قضى زمنا طويلا وهو يدرسها. وعندما أدرك أنه سيموت قبل أن يشبع من دراستها، قالت مقولة شهيرة: "أموت وفي نفسي شيء من حتى". وفي قوله حزن عالم لم يكمل بحثه، وحسرة محب سيفارق محبوبة. أبي -رحمه الله- أبلغه الأطباء أن مرض السرطان لن يمهله طويلا، وكانت أمي في بداية الحمل. وقد أدرك أبي أنه سيموت قبل مجيء مولوده الأول، الذي قضي الكثير من العمر ينتظره، فأوصى أمي أن تسمي المولود حتى، سواء أكان ذكرا أم أنثى، فقد شعر أنه مثل الفراء يموت وفي نفسه شيء من شيء أحبه كثيرا. فكانت العبارة تصف شعوره."
اختفت ابتسامة الموظف، وعادت ملامح الجدية إلى وجهه وقال:
"رحم الله والدك. أرجو ألا أكون أثقلت دمي عليك. أوراقك كاملة. ادفعي الرسوم عند المحاسب وعودي بعد الظهر لاستلام جواز السفر."
= = =
(*) نشرت في مجلة الآداب. العدد: 7/8/9/2008. السنة: 56.
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ