عبد العزيز المزيني - ملف
عود الند: تمثّل تلك الفئة
ملف: عود الند تكمل عامها العاشر
"ربما فكّر بتأسيسها شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، ولكن مؤكد أنهم حتى من الاسم الذي اختاروه لها من تلك الفئة في مجتمعنا ممن يحترقون كـعــود نــد ليترك المكان بعده فواحاً بعبير المعرفة".
"عود الند"، الاسم وليس المجلة، له ارتباط خاص بذاكرتي، وله شكل محدد فيها، أعواد طويلة، ربعها الأول ملوّن بالأحمر، والثلاثة أرباع الأخرى مغلفة بطبقة عطرية سوداء، عند إحراقها تبدأ تتآكل باستمرار وبهدوء، باعثة دخانها دون لهب، لتملأ المكان برائحة زكية.
هذه الرائحة لها ذكرى لا تفارق ذاكرتي، ففي فترة من طفولتي كان أخي الذي يكبرني بعشر سنوات، وعادة يكون الأخ الأكبر طموح الصغير وقدوته للمستقبل، كان يشعل هذه الأعواد ليضعها في سيارته لتبدد رائحة الغبار. كان اشتعال عود الند، وتمايل عمود دخانه، مع اهتزازات السيارة، وصوت المسجل، ما يزال قابعا في مكان ما في الذاكرة.
وقبل ثلاثة أشهر أو يزيد قليلا، وبينما أنا أتصفح إحدى المجلات العربية، في صفحة تستعرض أحدث الكتب والمجلات، وقعت عيناي على كلمة (عود الند)، لم يكن في خيالي غير رائحة تلك الأعواد الزكية، وتلقائيا فتحت المتصفح، ورحت أقرأ موادها. ثم في لحظة قررت أن أكتب فيها مقالا تلاه مقال آخر.
هذه المقدمة تشي بأني لن أكون موضوعيا ومحايدا في حكمي على مجلة "عود الند"، لكني أؤكد لكم أني قادر على التحدث بصراحة، فليس هناك ما أخشاه أو حتى ما أرجوه. وهذا لا ينفي أن نظهر عواطفنا حين نستحسن شيئا ما، ومن الأمانة ألا نخبئه بحجة الموضوعية والحياد.
نعم هذه المجلة تستحق التقدير، ليس لأنها احتضنت مشاعري مرات عديدة، ولكن لأنها قادرة على الصمود في زمن تكاد تكون فيه المجلات والصحف من أحاديث الماضي.
ليس هذا فحسب، فهي تستحق التقدير والثناء والدعوات بالاستمرار عشرات السنوات، في غمرة احتفالها بعشر سنوات من العمل؛ لأنها بدأت في زمن الأفول، واستمرت متميزة كل هذا الوقت.
أنا لا أعلم عن أسرارها شيئا، لكن حدسي يقول إن من قام عليها وفكر فيها وأسسها لا بد أن هما كبيرا يشغل باله، فأنا من واقع خبرة أعلم أن الربحية تكاد تكون معدومة في هذا الزمن في عالم المجلات والنشر بشكل عام.
وما يجعلني أكون متأكدا من هذا الحدس أن هذه المجلة تسير وفق الأعداد القليلة التي تصفحتها في خطى لا محاباة فيها ولا تملق، فهي تبحث عن المعرفة، وتبحث عن التميز.
أعود لمن فكر فيها وفكر في تأسيسها وأنا أتخيله لأني حقيقة لا أعرفه لا بشكل شخصي ولا بأي نوع من التواصل غير التواصل الفكري الذي قادني للمجلة ولمحبتها وللنشر فيها.
ربما فكّر بتأسيسها شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، ولكن مؤكد أنهم حتى من الاسم الذي اختاروه لها من تلك الفئة في مجتمعنا ممن يحترقون كعود ند ليترك المكان بعده فواحا بعبير المعرفة، وتتعدد الإشارة في أدبيات الوصف لتلك الفئة العاشقة للمعرفة، فهم يشبّهون عادة بدودة القز التي تمر بمراحل قاسية في حياتها لتنتج الحرير، وتتحول في آخر أطوارها إلى فراشة تنشر معنى السعادة والربيع، إلا أن يد الإنسان قد تغتال بقسوة تلك الفراشة، (منتجو الحرير يقتلون الفراشة قبل خروجها من الشرنقة لئلا تمزق خيوط الحرير)، وهذا قدر أولئك الصفوة من المجتمع ممن يتوقون لصنع الإبداع وابتكاره، فأحيانا يجدون ما يستحقونه من تقدير، وأحايين تغتالهم قساوة من حولهم بعدم تقدير أعمالهم.
وتستمر الأدبيات في وصف تلك الفئة من المثقفين فيشبّهون تارة أخرى بالمحار الذي ربما يتعذب داخل قوقعته أو صدفته وهو يفرز تلك المادة حول حبات الرمل، لتكون آلامه ودموعه سبيلا لخروج تلك المادة اللؤلؤية الشكل التي تأسر الألباب وتزين حياتنا. تلك الفئة المثقفة التي حملت هموم أمتها تشبه المحار، ونتاجها يشبه حبات اللؤلؤ الجميلة، يتعبون ويشقون وربما يصرفون من قوت أبنائهم في سبيل إخراج لآلئ تمتع القراء وتزيد وعيهم.
ولا تنتهي أدبيات وصف تلك الفئة، من شمعة تحرق نفسها ليعم النور، ومن عود ند يحترق لينشر عبيرا فواحا يأخذ الألباب.
تلك الصفات جميعها تلخص مجهود أولئك المشتغلين بالمعرفة، ممن كرسوا حياتهم لنشرها وإيصالها لنا. ربما يحدوهم أمل، لا نراه وتراه عقولهم الباطنة، يتوق لأجيال سلاحها المعرفة، وربما هي فطرتهم بأن عرفوا أن الإنسان وجد على هذه البسيطة ولن يبقى من أثره إلا علم ينتفع به.
من المؤكد أن اختيار اسم "عود الند" لم يأت عبثا فهو ينطلق ويكرس لتلك الأدبيات التي تصف تلك الفئة التي قامت بهذا العمل الجليل الذي نحتفي اليوم بوصوله للسنة العاشرة. وهو عمل مثمر يستحق التقدير لأنه يعي ما يتوق له المثقف الواعي من عمل يحترم القارئ، هدفه ليس المجاملة والمحاباة لأحد بقدر البحث عن المعرفة والمعرفة فقط. فنجد العدد السابق للعدد الأخير قد خصص ملفا جميلا عن "الحق في التعليم" [العدد 118]، وهو يلخص ما أريد أن أقوله عن الهم الثقافي الواعي الذي تتبناه المجلة.
هذا إذا علمنا أننا لم نرَ إعلانا واحدا في المجلة يوحي بأن هناك ثراء منتظرا خلف هذا العمل، وأنا من خلال خبرة في عالم الصحف والمنشورات، فقد عايشتها، وأعرف أن عملا كهذا لا إنتاج مادي وراءه، فقط هناك من يحتسبون الأجر بعملهم، ويسعون لخير البشرية، بأعمال تأخذ الثمين من وقتهم، وتأخذ أعمارهم في سبيل عمل نبيل، يتمثل في نشر المعرفة والعمل عليها، إنه عمل سامٍ تسعى له الأرواح المتسامية عن ماديات الحياة، المترقبة لروحانياتها، فنستشف بعض نسماتها من مادة تهدي عقولنا الحائرة، أو معلومة تشق لنا طريق الوعي والمعرفة والحياة بكل معانيها.
وإن كانت من ملاحظات أسوقها على عجل، وهي ملاحظات من يسعى لأن يكون العمل الجميل أكثر جمالا؛ فإني ألخصها في النقاط التالية:
من ناحية المضمون:
في الواقع لم أجد ما يمكن أن أضيفه من حيث مضمون المجلة المنوع، ويكفي تنوعها بين البحوث الرصينة، والمقالات الشيقة، والإبداعات، فضلا عن الدراسات والأبواب الأخرى الشيقة في المجلة.
من ناحية الشكل:
= الموقع الإلكتروني جميل جدا في خطوطه وتبويبه وسهولة تصفحه؛ إلا إن هناك تداخلا بين العناوين وبين المواد، وهذا يحل بسهولة من خلال تغيير الألوان ودعم الفلاش، بتحريك الصور والكلام. وهناك حاجة للمزيد من الصور المتحركة مثلا تحت كل أيقونة، مثلا تحت (من إصداراتنا) صورة للإصدارات تتغير كل عدة ثوانٍ. المواقع الإلكترونية وصلت لدرجات عالية من التصميم الجميل المتحرك والمقسم بطرق متعددة.
= لكل عمل هوية أو شعار يعبر عنه، وهذا الشعار يستمر طول العمر، ويبقى علامة على شخصية وهوية هذا المنجز؛ إلا إنني لم ألاحظ وجود شعار يمثل هوية مجلة "عود الند".
= في موقعها الإلكتروني وتحت اسمها كتبت المجلة "مجلة ثقافية شهرية"، وهذا جميل؛ وحبذا لو زيد بتعريف بسيط عن المجلة تحت اسمها بأنها تأسست عام كذا ومقرها كذا، وحسابها في تويتر وفيسبوك، إلى آخره.
= من الجميل جدا أن مجلة "عود الند" خصصت نافذة تحت كل موضوع لنشر التفاعل بين القراء على الموضوع؛ وحبذا لو أردفت ذلك بإحصائية صغيرة في أعلى الموضوع تعدّ تلقائيا عدد القراء الذين تصفحوا الموضوع، وهذه الخاصية تنفذها الشركة المسؤولة عن تصميم الموقع.
= من الأبواب الثابتة والجميلة جدا في عود الند لوحة العدد، وحبذا لو كان تحت اللوحة مربع فيه معلومات أكثر عن اللوحة نفسها: اسمها تاريخ رسمها مكان رسمها. وكذلك معلومات عن المبدع للوحة مربع بسيط عن سيرته ومعارضه، إلى آخره، وطرق التواصل معه إن وجدت.
= من الجميل اهتمام المجلة بدعم المقالات والموضوعات بصور الكتّاب؛ وحبذا لو أعطيت الحرية للكتّاب بوضع وسائل التواصل معهم كالبريد مثلا أو حساب الكاتب في وسائل التواصل كتويتر، وفيسبوك أو غيرهما.
= أعجبني جدا تخصيص المجلة أيقونة لـ(آخر التعليقات).
= كما أعجبني جدا آلية إرسال المشاركات وشروط النشر، وكذلك الرد الآلي والاهتمام بما يرسله القراء.
= وأخيرا إنه من الجميل أيضا أن تكثف المجلة من الدعاية لنفسها، وأن تنشّط تفعيل مواقعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي النهاية لا يفوتنا تهنئة كافة القائمين على المجلة، وعلى رأسهم الدكتور عدلي الهواري العقل المحرك لهذا العمل، فله منا وللجميع تحية تقدير للعمل الرائع الذين يقومون به.
وكل عام وأنتم في تألق أكثر وأكثر إن شاء الله.