عبد العزيز المزيني - السعودية
تشجيع حب القراءة
طوال فترة مراهقتي كانت تشدني قصص الكاتبة أجاثا كريستي، كانت الرواية تستغرق مني يومين أو ثلاثة أيام بالكثير لإنهائها بحماس. فقد كانت تلك الألغاز، وذلك الحوار، وتلك الأحداث المتشعبة، والوصف الدقيق للأبطال؛ جميعها تشدك من بداية القصة حتى نهايتها.
كانت قصص أجاثا كريستي أغلى ما حصلت عليه في مراهقتي. مع أول كتاب اقتنيته أحببت قصصها المثيرة، وشدتني رواياتها البوليسية، وصرت وأنا أقرأ كأني أتابع مسلسلا مشوقا أنتظر نهايته، ولهذا فإن فضولي يقودني إلى إنهاء الكتاب بأسرع وقت ممكن. فالتهمت الكثير من كتب أجاثا كريستي.
وتطورت قراءتي في وقت لاحق من تلك المرحلة إلى روايات أخرى لمبدعين آخرين عرب مثل نجيب محفوظ في رواياته المتعددة، ثم لاحقا استهوتني تلك الروايات العالمية مثل الحرب والسلام، ومئات الروايات التي لا أتذكرها.
في مراحل لاحقة من دراستي الجامعية استهوتني بالإضافة للروايات كتب الرحلات والمقالات، لكاتب معين، كنت أحاول قراءة كل ما كتبه، وهو الكاتب الفيلسوف أنيس منصور الذي كتب في كل شيء عن ثقافات العالم وعن رحلاته، وعن التاريخ، وعن الفن. فكانت مقالاته وكتبه، بأسلوبه الجميل العفوي، بما فيه من استطراد ومعلومات متفرقة؛ تستهويك باقتناء المزيد مما كتب.
ما أجمل أن يأخذك كتاب إلى عالم آخر! تـتأمل، تحلل، تفكر، وأنت بين دفتيه، لم تغادر مجلسك إلا بخيالك الذي يطير كحمامة تحلق في كل الأجواء. هذا إحساس أولئك المحظوظين ممن تستهويهم القراءة، ممن يغادرون عالم اليوم المليء بكل الصور والتطبيقات والكيلوبايتات المتناثرة في كل مكان؛ إلى زاوية ينعم فيها العقل بعقول الآخرين وخيالهم وتفكيرهم، إلى حيث الورق برائحته العتيقة، أو حتى القراءة من جهاز لوحي عند تحميل كتاب من الإنترنت.
حينما تتأتّى لك الفرصة لتخلو بكتاب ينقلك بعيدا؛ تحس بلذته حين تتعمق في صفحاته، وتبدأ بعدها التفكير في خيال ذلك الكاتب العبقري الذي نقلك إلى الفكرة المخبوءة في ثنايا عقله. هذا ما حدث لي هذا الأسبوع حين أبحرت مع خيال الكاتبة التركية إليف شافاق في رواية "قواعد العشق الأربعون" (ترجمة خالد الجبيلي)[1].
الكتاب ينقلك بين القرنين الواحد والعشرين والقرن الثالث عشر الميلادي، من خلال روايتين في رواية واحدة متداخلتين في حبكة ذكية، تنسج الكاتبة خيوطها بين (نورثامبتون) وسط إنجلترا وبين (قونية) وسط تركيا، لتتكشف لك خفايا وأسرار عالم الصوفية من خلال أربعين قاعدة، لا تتناول العشق الإلهي فحسب، بقدر ما تعطيك قواعد عامة للحياة بشكل عام.
القراءة ليست فعلا عابرا أو بسيطا يمكن اختزاله بكلمات بسيطة، فهي جزء من حياتنا. ومفهوم القراءة لم يأتِ فجأة، إذ تطورت الوسائل التي أوصلت القراءة إلى ما هي عليه على مر العصور. إلا أن القراءة مع كل هذا التقدم شهدت تراجعا لدى الجيل الجديد بسبب مزاحمة وسائل التقنية الحديثة لها، سواء في تراجع مفهوم القراءة المتمعنة والمفيدة، أو في عدم وجود الوقت بالانشغال المستمر، دون فائدة، بتطبيقات متعددة توفرها لك آلة بين يديك طوال الوقت.
القراءة من كتاب ورقي أو إلكتروني بهدف الحصول على معرفة جديدة هو الفعل الحقيقي الذي يعكس مفهوم القراءة الذي نتوق إلى وجوده بين شبابنا من الجيل الجديد. جميعنا نتوق إلى جعل أبنائنا يقرؤون الكتب، وربما نسأل أنفسنا ما الفعل الذي يحفزهم للقراءة؟
هنا بعض التجارب الفردية والملاحظات التي أسوقها، فربما تهدي أحدنا السبيل لتحريك المياه الراكدة في بيوتنا، ونقل أبنائنا من عالم التقنيات والمشاهدة المستمرة للألعاب والأفلام إلى تخصيص وقت للقراءة. إلا أن التنظير والأمنيات في هذا المقام تتغلب أحيانا على البحث عن خطوات عملية، لجعل القراءة جزءا من حياة أبنائنا.
لو قسمنا مراحل عمر الإنسان في مقتبل حياته إلى ثلاث مراحل: طفولة ومراهقة وشباب، لاستطعنا أن نجد الوسيلة الأفضل لكل مرحلة عمرية.
لنبدأ بمرحلة الطفولة من 7-13 سنة. في هذه المرحلة لا بد من تحريك حافز القراءة لدى الطفل، ربما يكون والده أو والدته أو معلمه، وغالبا في هذا العمر تستهوي الأطفال القصص أو المعلومات السريعة التي تجعل لديهم القدرة على تحدي زملائهم بمعلومات جديدة.
إن ما يزرع حب القراءة في نفوس الناشئة هم الكبار، لكن ليس بأسلوب يجب أن تقرأ، وعليك أن تقرأ؛ وإنما بتعدد وتنوع الأساليب الذكية، ومنها مشاركتهم باستحضار قصة مشوقة والوقوف قبل نهايتها وإعطاء الطفل فرصة لاكتشاف هذه النهاية بإكمال قراءة القصة.
ويشترط في هذا النوع من القصص أن تكون مناسبة لعمره ومشوقة وقصيرة جدا بحيث لا يدخله الملل.
هناك نوع من الأطفال تستهويهم المعلومات الغريبة، مثل كتاب يتحدث عن معلومات غريبة، وهنا يمكن تحفيز الطفل بعمل مسابقة لأغرب معلومة قرأها، وخلق جوائز. وفي البداية تكون بجلسات عائلية متكررة، يكون هدفها خلق جو تحفيزي للقراءة. وبعد عدة جلسات تدار فيها مسابقة مثلا، أو يتحدث الطفل عن معلومة التقطها؛ من الممكن أن يأتي دور البالغين في إثراء عقلية الطفل بمعلومات جديدة، مشوقة وغريبة، بعدها يمكن أن نهديه كتابا يحتوي على مثل هذه المعلومات.
ومع انشغالنا بأمور الحياة فإن العمل على ذلك بشكل يومي يصعب تنفيذه، لكنّ هناك بديلا يتمثل في تخصيص يوم من الأسبوع، وليكن نهاية الأسبوع حين تجتمع العائلة.
هناك طفل من معارفي جره إلى عالم القراءة سرد قصة بسيطة عن مثلث برمودا، والمعلومات الغامضة عن هذا المكان، أثناء جلسة عائلية في يوم جميل من أيام نهاية الأسبوع. فكانت فاتحة لأن يقرأ ويبحث عن هذا المعلومة، حتى رأيته بعد أيام وبين يديه كتاب يحتوي قصة مثلث برمودا وقصصا أخرى ومعلومات غريبة متفرقة.
عندما يبدأ الطفل القراءة في هذا العمر فإنه يعتاد عليها، وتكون جزءا من يومه. ولن تجد أي مشقة في توفير عدد كبير من الكتب التي تعرف أنها تستهويه.
في مرحلة المراهقة من 13–18 سنة، تتسع مدارك الطفل، ويكون لديه القدرة على الاختيار، وحين يكون قد تعود على القراءة من السهل تحفيزه للمزيد. وهنا يمكن أن تكون زيارة معارض الكتب، وتخصيص مكتبة منزلية خاصة بالقراءة، يرتادها أفراد الأسرة جميعهم؛ من العوامل المساعدة في استمرار فعل القراءة.
كما أن المشاركة مهمة في هذا الجانب، وذلك بتخصيص وقت يسير من يومك، سواء أكنت في العمل أم المنزل، بإرسال إيميل إلى ابنك أو ابنتك، بوصلة لكتاب، تمهد له بسطور بسيطة تحتوي على معلومة غريبة أو سؤال محير، أثاره لديك هذا الكتاب، بما يلفت انتباهه ويجبره على الاطلاع عليه.
كما يمكن مساعدة أبنائنا وتشجيعهم على النشر في هذه المرحلة المبكرة، من خلال ترك انطباعات سريعة وأفكار بسيطة يتشاركها مع أصدقائه ومع الناس من خلال مواقع على الإنترنت كالمدونات الشخصية أو مواقع التواصل الاجتماعي مثل (تويتر) الذي يعد بحق نواة جيدة لوضع الأفكار التي قرأناها أو الأسئلة التي أثارتها قراءتنا بكلمات بسيطة، تعكس الفكرة ويتفاعل معها المتابعون، وتثار حولها أفكار جديدة في تفاعل مستمر، يحفز على المزيد من القراءة والمزيد من الكتابة.
في مرحلة الشباب من 18–23 تكون الأحاديث والنقاشات ذات العمق الفلسفي مع أبنائنا وأقربائنا، المثيرة للأسئلة الكبيرة في شتى مناحي الحياة؛ هي من أبرز العوامل المساعدة على خلق جو من التحدي الداخلي في البحث عن المعرفة بكل الوسائل.
وفي هذه المرحلة يكون لدى الشاب القدرة على إنتاج المعرفة، ومن هنا يمكن مساعدته على اختيار مطبوعة تـتبنى نشر ما يكتبه، ليرى نتاج قراءاته المتعددة، حين يظهر ذلك فيما يكتبه وينشره ويتفاعل معه الناس من حوله.
وحين يصل الشاب إلى مرحلة الكتابة والنشر، فإنه يكون قد وضع قدمه فعلا على أول الطريق لاكتشاف ذاته واكتشاف العالم من حوله، وتحديد ما يكون عليه مستقبله، خصوصا في المعرفة والتحصيل العلمي النافع له ولأسرته ولمجتمعه.
= = =
[1] منشورات طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، 2012، طـ 1.
- غلاف قواعد العشق الأربعون
◄ عبد العزيز المزيني
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
تشجيع حب القراءة, يوسف -الجزائر | 23 آذار (مارس) 2016 - 14:17 1
الكتاب يشحذ الفطنة ويؤنس الوحشة،وظيفتان يبدو أن وسائل المعرفة الحالية استحوذت عليهما،ورغم ذلك لا شيء يعدل الكتاب.الدكتور طه حسين نعت الكتب التي لا تقرأ بالكنوز الضائعة،وعلق على القراءة قائلا:"..ولكن الذي أعرفه هو أن القراءة لمن يحب القراءة شيء لا سبيل الى التخلص منه،يحتال صاحبه في الوصول إليه والظفر به مهما يكلفه ذلك من الجهد ومهما يحمله من المشقة والعناء..." ولكني أتساءل ألا يجب توفر للتشجيع على حب القراءة تصورا اخر غير الذي نألفه لا سيما وان حاجيات وظروف عيش الناس اختلفت رأسا على عقب وأنه حان دور الساسة والمربين على إعانة الاسرة في تحمل هذا العبء الثقيل المتعلق بشد النشء الى القراءة.ما أشد إعجابي بهذا الموضوع الذي يعتبر أهم مقصد تعنى به الامم ،ولاجل ذلك أحييك أخي عبد العزيز المزيني
1. تشجيع حب القراءة, 24 آذار (مارس) 2016, 04:49, ::::: عبدالعزيز المزيني
شكراً أخي يوسف من الجزائر.. لتفاعلك الجميل مع ماطرح..
وأنا أشعر بمدى ضجرك من كثرة التنظير دون وجود حلول فعلية تقوم بها المؤسسات الرسمية
وأعيد طرح سؤالك :
"أتساءل ألا يجب توفر للتشجيع على حب القراءة تصورا اخر غير الذي نألفه لا سيما وان حاجيات وظروف عيش الناس اختلفت رأسا على عقب وأنه حان دور الساسة والمربين على إعانة الاسرة في تحمل هذا العبء الثقيل المتعلق بشد النشء الى القراءة."
تشجيع حب القراءة, فنار عبد الغني - لبنان | 29 آذار (مارس) 2016 - 13:02 2
الاخ عبد العزيز
تحياتي
الموضوع الذي تطرحه جدير بإهتمام الاسرة وجميع المؤسسات التربوية والاجتماعية وللمهتمين بالتنمية البشرية. للقراءة فوائد عديدة: فضلاً عن أنها تنمي الفكر والشخصية هي وسيلة نافعة لمقاومة الازهايمر و الكآبةوسبحان الله الذي أمرنا بالقراءة وأكرم من يداوم على هذا الفعل" أقرأ وربك الأكرم". ومن الملاحظ أن الامم التي تقرأ هي أمم مبدعة.
أعتقد أن اليونسكو خصصت يوماًعالمياً للكتاب والذي يصادف في الثالث والعشرين من نيسان من كل عام.
في الواقع موضوعك يستحق المزيد من المناقشة، أشكرك على هذاالإختيار. ودمت بخير.
1. تشجيع حب القراءة, 29 آذار (مارس) 2016, 20:03, ::::: عبدالعزيز المزيني الرياض..
شكراً لك أختي فنار..
سعيد لأن الموضوع حاز على اهتمامك..
وممنون لكلماتك الجميلة
وطرحك الأجمل..
2. تشجيع حب القراءة, 16 نيسان (أبريل) 2016, 20:24, ::::: عبدالعزيز المزيني الرياض
أخي الأستاذ عبدالغني
ممنون لمرورك الجميل على الموضوع ويسرني استحسانك له.
وبين كلماتك الجميلة استشفيت موضوعات كثيرة تستحق الطرح..
من المثير جداً أن تكون تفاعلات القراء مع مايكتب توحي بكتابة موضوعات جديدة..
ألف مليون شكر لك ..